في صورة أخيرة، جلس الكاتب حسن سامي يوسف على طاولة الطعام الكبيرة المتداخلة مع المطبخ، غير مبالٍ بالكاميرا، ينظر إلى موضع أصابعه على لوحة المفاتيح، معلنًا عن عمله التلفزيوني الجديد. هي الصورة ذاتها التي نشرها على حسابه الشخصي العام الماضي، والتي نشرها قبل عامين، والتي كان يعيد نشرها باستمرار، بجسارة أحيانًا، وأحيانًا أخرى لتجاوز الصمت، لتكون جملة “في العمل” المرافقة للصورة بالأمس هي آخر ما تم نشره، قبل أن تليها صورة نعوة رحيله عن عمر يناهز 79 عامًا. بدأ حياته مهجرًا من قرية لوبيا في فلسطين في زمن النكبة، ليعيش هجرات متكررة في مخيمات لبنان إلى أن استقرت العائلة في مخيم اليرموك. في عام 1967، كانت بدايته في المسرح القومي في دمشق ثم أنشأ المسرح الوطني الفلسطيني. كتب ما يقارب ثماني روايات وخمسة أفلام، في حين كتب وشارك في ما يقارب عشرين عملاً تلفزيونيًا وثق في أغلبها أسئلة سكان دمشق وأهلها، مستعيدًا واقع المجتمع السوري من الداخل، مرافعًا لأسئلة الهم، جاعلًا من الرتابة واحتمالات المصير الذي عشناه كأفراد وجماعات مادة فنية يمكن من خلالها فهم التحولات الرئيسية لمجتمع كان يعيش تداخلًا معقدًا بين واقعه وبين معتقداته الدينية والسياسية التي ما زال من الصعب تجاوزها.
يبدو البيت هادئًا، أو هذا ما توحي به الصورة، بينما الكاتب بشعره الأبيض ونحافته المقلقة يعلن مجددًا عن محاولته المستمرة بالكتابة. في هذا الوقت من المساء، يكون قد أنهى روتين المشي اليومي الذي لطالما استعان به كانتصار، أما الشاعرية فكانت تكمن في وابل الخطوات التي مشاها في مدينة دمشق، نازلاً من منزله في صحنايا إلى العاصمة التي لم تعد تشبه نفسها، يرتدي صدريته الممتلئة بالجيوب، وقميصًا فاتح اللون، متذمرًا من وسائل النقل.
لطالما تذمر حسن سامي يوسف من المواصلات العامة بين منطقة صحنايا وقلب العاصمة، متفاخراً لسبب غامض بعدم قيادته للسيارات. التذمر من المواصلات كان سببًا لأهم أعماله التي كتبها مع المؤلف نجيب نصير، مسلسل “زمن العار” اسمه في البداية وعلى الورق “ميكروباص”. وانطلقت فكرته الأولى من انزعاج الكاتب حسن سامي يوسف من وسائل النقل العامة. عُرض مسلسل “زمن العار” في رمضان 2009 من إخراج رشا شربتجي، وحصل على أربعة جوائز ضمن جوائز أدونيا لتكريم الدراما السورية، وعلى جائزة محمد بن راشد للدراما العربية. لم تكن الجائزة متوقعة بالنسبة للكاتب حسن سامي يوسف، في عمل قرر مع المؤلف نجيب نصير التوقف عن كتابته أكثر من مرة، خاصة أن مسلسل “زمن العار” كتب بعد مسلسل “الانتظار” الذي يُعتبر إلى الآن أنضج ما تم عرضه حول حياة الأحياء الشعبية في دمشق. إلا أن “زمن العار” طرح أسئلة الأحياء المستقرة، ليقدم لحظة مؤلمة ونادرة الصراحة حول مفهوم العار، وحياة الطبقة الوسطى وهي تواجه أقسى احتمالات التغيير، وتواجه أسئلتها اليومية ضمن نطاقات ضيقة بين السياسة والدين.
بالنسبة لأبناء جيلي، نحن الذين وُلدنا منذ بداية التسعينات، كان من الصعب أن تنضج القيم خارج جو من الرقابة السياسية والاجتماعية، وفي أحسن تقدير كانت الأعمال الدرامية الواقعية تُبنى في جوهرها على الأحلام واحتمالات ضيقة لشخوص يعيشون صراعاتهم ويواجهون مصائرهم. لذلك عندما كنا نقول إن هذا العمل الدرامي جميل، فهذا يعني أنه استطاع أن يُضيء على لحظات إنسانية تساعدنا على فهم أنفسنا والواقع الذي ننتمي إليه، خاصة أن السمة الأساسية للمجتمع لم تكن قائمة على مواجهة الأسئلة بل على حجبها. إلا أن الواقعية الدرامية شكّلت وعياً يركز بشكل أساسي على سؤال: ما الذي ينتظرنا وراء كل هذا الحجب؟!
لم تقدم أسئلة الكاتب حسن سامي يوسف الإجابات دائمًا، ولكنها ركزت بشكل أساسي على هذا الهم، هم الهامش المتروك في أزقة الأحياء الشعبية وشوارع المدن السورية، خاصة في ثنائياته مع المؤلف نجيب نصير، حيث وضعا الأحياء الشعبية لمدينة دمشق في إطارها الفني، وجعلاها وسيلة لتفكيك وعي الشخصيات بواقعها وقدرتها على التحايل عليه. كانت المواجهة سمة ترتبط بشكل رئيسي مع الصراع الذي تخوضه المدينة، الأمر الذي يحيل الحب إلى موقف، وطرح الأسئلة إلى موقف، ووعي الضحية بنفسها إلى موقف. حتى في رؤية الأحياء الثابتة في قلب العاصمة دمشق، كانت التغيرات وسبل رؤية الواقع تبدأ من التحولات التي تدفعهم لفهم همومهم في سبيل النجاة.
لنعد إلى البداية. في الصورة الأخيرة، كان الكاتب حسن سامي جالساً على طاولة الطعام التي حولها إلى مكتب. أمامه لابتوب، ويبدو منهكاً قليلاً، كأنه قد قال لنا كل ما كان يريد قوله، منذ الموقف الأول الذي اتخذه في الحياة، حين انتمى في مسيرته إلى نقل الواقع إلى مستوى الحدث الذي يجمع العجز بالحلم، أو المصير بالصدام المستمر لانهيار الطبقات الاجتماعية. إلا أن موقفه الأعمق كان من المعاناة، على الرغم من أن الرقابة كانت تدفعه دائماً لرؤى إما مبسطة أو متشعبة في شرح المعاناة، لكنه استطاع مزج التجارب الشخصية لشخوص مسلسلاته بمواقفهم، ليكون الهم هو وسيلته الأعمق لشرح أعماله. قد يبدو هذا مألوفاً للكاتب حسن سامي يوسف الذي اختبر الهزيمة، حين كان اليقين في حياته الشخصية يكمن بالمواجهة، حيث الذاكرة ليست وسيلة للهرب، بل للانتماء، وليست وسيلة لتجاوز الأحداث اليومية وآثارها، بل لمواجهتها وتأملها ومحاولة إعادة صياغتها كأسئلة من الممكن الإجابة عنها.
بعد شارة مسلسل “الانتظار” الذي عُرض في رمضان عام 2006، نرى في المشهد الأول دمشق من جبل قاسيون، أصوات متداخلة وفوضوية لجماعات يتحدثون في وقت واحد، لا أحد منهم ينصت للآخر. على وقع نبضات قلب بطيئة، يتغير المشهد مع كل نبضة، بينما الكاميرا تتوجه بعمق نحو المدينة: الساحات العامة، مبنى مجلس الشعب، دور السينما، مواقف الباص، وجوه الناس، رجال الأمن، الطلاب، العمال، العشاق، والبائعون المتلهفون خلف بسطاتهم الصغيرة. تدريجيًا، نصل إلى مشهد عكسي نرى فيه قمة جبل قاسيون التي صُوّر منها المشهد الأول، من أحد الأحياء الشعبية. ينتهي كل شيء فجأة بشاشة سوداء كتب عليها “دمشق 2006”. كل هذه المشاهد كانت بلون أصفر داكن مائل للبرتقالي، للتعبير عن القلق والصمت والحزن. في هذا التعاون بين المخرج الليث حجو والكاتب حسن سامي يوسف والمؤلف نجيب نصير، نرى ذروة ما يمكن قوله عن هموم العشوائيات الشعبية السورية. حيث تختبر كل شخصية انتظارها الشخصي بعد أن نفذت أحلامها، وكأنهم يعيشون ما بعد اليأس. المحاولات تبدو غير مجدية، واللحظات الإنسانية الكبرى تتجلى في مواجهة هذا الانتظار. وعلى الرغم من أن أحدًا لم ينتصر في النهاية، إلا أن الحماية والمساعدة كانت تأتي دائمًا من “عبود/تيم حسن”، الشاب اللقيط، اللص الشريف، والأزعر الشهم. ورغم وجود رجل الأمن “فاضل/قاسم ملحو” في الحي، إلا أن رجل الأمن كان يعمل فقط على فرض سلطته وحماية نفسه. كان مسلسل “الانتظار” مثالًا على أقسى احتمالات اليقين عندما يفقد الإنسان قدرته على تجاوز الزمن الذي يحاصره، ولينتج لحظات إنسانية كبرى في علاقات متداخلة جمعت بين البلاط والراقصة والمثقف الذي يرفض التنازل عن مبادئه وجامع الخردة، بينما الوقت يمضي من فوق أجساد الجميع بقسوة، بأحلام متهاوية، تشبهنا جميعًا، خاصة ونحن نحاول تجاوز أنفسنا في مشهد مدينة تأكل أبناءها من الداخل، في رؤية أكثر عمقًا لما سوف يشبهنا دائمًا، ضمن مدن مفرغة من زمنها، يحاول أهلها استعادة أنفسهم، بالبحث عن لحظات الإيمان التي بلورها اليقين والحب، طالما أن هناك وراء الوقت ما يشبه النجاة.
هل يمكننا العودة إلى الصورة لمرة أخيرة؟ لطالما أدهشتني رتابة هذه الصورة، فهي لا تنتمي لزمننا بشكل مدهش، تتكرر باستمرار، بينما الكاتب يجلس ببراءة كمراقب حذق للتجربة، وكأن بيننا شعورًا مشتركًا من الخسارة في وجه مظالم الحياة. هناك، حيث الهزيمة لم تعد تعني لنا شيئًا، كل هذا بهدوء، هدوء يجعل من جميع أشكال الظلم والجشع والكذب والفساد وضيعًا. لقد استطاع حسن سامي يوسف إعادة جمع جميع أشكال الكسور والصمت من حولنا، لا ليرممها بل ليستعيدها كمعجزة تستحق التأمل. حيث كانت البطولة دائمًا بالنسبة له تكمن في الاعتراف: اعترافه الشخصي واعترافنا الضمني بما فاتنا من انتباه.
بعد الثورة السورية عام 2011، تجذّر نمط درامي في الأعمال الدرامية السورية يسقط خيالات وطنية للسلطة على الأعمال الواقعية، تتبنى الشعارات وتنتصر فيها دائمًا إيديولوجيا النظام السوري. بينما الرقابة بدأت تحدد بشكل أعمق الرؤية السياسية والاجتماعية للأعمال، خاصة مع استحداث نمط رقابي جديد يشمل ما قبل التصوير وما بعد عملية التصوير. وهذا ما أثّر بشكل عميق على شركات الإنتاج والكتّاب بشكل رئيسي، وأدى تدريجيًا إلى ظهور أعمال تلفزيونية يُلام فيها الشعب على طمعه وجهله وتهوره، بينما تكمن البطولة في الانتقام.
استطاع الكاتب حسن سامي يوسف في مسلسل “الندم” الذي عُرض بعد الثورة السورية عام 2016 العودة إلى ذاته، لا ككاتب، بل كإنسان يحاول كما قال “أن ينزف روحه على الورق”. لجأ فيه الكاتب حسن سامي يوسف إلى الحب. يروي مسلسل “الندم” حكاية تنتمي إلى زمنين بين ليلة سقوط بغداد عام 2003 وحتى عام 2016، من خلال شخصية الكاتب “عروة/محمود نصر” الذي ابتعد عن عالم المال والأعمال والسلطة، الذي بناه أبيه ويديره أخوه الكبير “عبدو/باسم ياخور” الذي يقوده الجشع والطمع إلى كسب المزيد من السلطة دون أي اعتبارات إنسانية. بينما جوهر هذا العمل يكمن في قصة الحب بين بطل العمل عروة وحبيبته الأولى التي توفيت في شبابها “هناء/دانا مارديني”. لطالما كان الحب هو وسيلة الكاتب حسن سامي يوسف لتعريف الألم، وقد قدم هذه الرؤية في مسلسل “الغفران” الذي عُرض عام 2011، حيث الفراق والندم وسيلتان لاختبار مدى إنسانيتنا، وأن الشاعرية تكمن في الخسارة. لم ينتهِ مسلسل “الندم” في هامش المسلسلات السورية، بل لاقى قبولًا جماهيريًا واسعًا، خاصة لدى فئة الشباب الذين تفاعلوا مع قصة الكاتب المتيم الذي خسر حبيبته. ليعلن الكاتب حسن سامي يوسف في منشور على حسابه في فيسبوك، أن قصة هناء حقيقية وحدثت في حياته.
إذا أردنا أن نفهم الزمن الذي نعيشه، سواء كان اجتماعيًا أم سياسيًا، لا بد من تأمل العمل الأخير للكاتب حسن سامي يوسف، الذي تعاون فيه مع المؤلف نجيب نصير، في مسلسل “فوضى” من إخراج سمير حسين الذي عُرض عام 2018. لقد مضغ فك الفوضى السياسية والاجتماعية واقع المجتمع السوري، وبصقه على هيئة نتف أحياء تعاني ضمن أفق سياسي مغلق، وتداخل مقلق بين علاقات القوة التي أنتجتها السلطة، مجتمع غير مسموح له باكتشاف تجاربه الخاصة، يعيش تحت وطأة سلطة تروج لانتصارها في الحرب الكونية، ضمن ظروف أمنية واقتصادية وسياسية صعبة، حيث السؤال الأهم لم يكن إذا كانت الحرب انتهت أم لا، بل على حساب من وكيف انتهت؟! صوّر مسلسل “فوضى” كيف تحوّل أحد أحياء الطبقة الوسطى المستقر في قلب العاصمة دمشق إلى حي يقيم فيه النازحون القادمون من أطراف المدينة بسبب الحرب، تداخل طبقتين اجتماعيتين ضمن ظروف صعبة، غلاء، وضجيج، وتعصب، لتشمل الفوضى ظروف الإنتاج والإخراج ولا نعرف إذا كانت الكتابة أيضًا، ولكن ما يبدو واضحًا أن الكاتب حسن سامي يوسف أدرك عميقًا أنه يعيش في غير زمنه، خاصة أنه ليس من السهل اليوم العودة لمسلسل “فوضى”، ونحن نفهم بعمق اليوم أزمة الإنتاج التلفزيوني داخل سوريا، وهم بعيدون عن رعاية الواقع، باستهلاك العنف اللفظي والنفسي ضمن قيم تكرس شهية سوقية ووضيعة للانتقام، وأن الواقعية الدرامية بجميع احتمالاتها لم تعد صالحة للاستخدام. نحن في زمن الحجب، حيث بات من الأجدى اليوم أكثر من أي وقت مضى طمس الشارع السوري بظلال محكمة من الجريمة والجشع والطمع، واللوم القاسي للناس على خياراتهم وانتماءاتهم، دون أي مناخ من مناخات الأسئلة أو عرض مآلات تداخل بين ما هو سياسي واجتماعي، خارج ضوابط النظام الرسمية.
في النهاية، ورغم كل ذلك، يبقى الكاتب جالسًا على طاولة الطعام، حسن سامي يوسف هناك الآن يحاول الكتابة لمرة أخيرة؛ مرة واحدة وأخيرة تكفي لجمع الأجزاء المتناثرة من الحكاية، في زمن أجوف تبدو فيه حكايات الناس وآلامها وأحلامها جوفاء لا قيمة لها، طالما كل ما تبقى على السطح هو مقاعد السلطة، حيث باتت الشهادات البديلة هي الجوهر. هذا ما يستطيع الكتّاب فعله عندما لا يجدون زمانهم، يتركون لنا ما يكفي للإيمان بأن التفاصيل الصغيرة سوف تُفهم، وأن حركة السياسة والمجتمع ستبقى مساحةً لطرح الأسئلة، حيث المرآة الحقيقية لصورتنا سوف تبقى هناك، في قدرتنا المستمرة على فهم أنفسنا والعالم، ضمن سياقات معقدة ومحتجبة.