ملّ أبو العلاء دنيانا؛ ملّ تلك الساعات التي يركبها، مجبراً، كالمطايا، إلى حتفه. كانت حياته في محابسه الثلاثة- العمى، والبيت، والجسد- قلقةً، وادعةً، زاهدة. اتسم عصره بعنف شديد، لا سيما في سوريا، التي تقاسمها الفاطميون والعباسيون والبيزنطيون – والسلاجقة الأتراك على الأبواب؛ والحكام المحليون يتبعون الأقوى. صراعات طائفية ودينية، بين الشيعة والسنة وكنيسة القسطنطينية؛ والمعرة، وجارتها الكبرى حلب، في قلب المعمعة. ولكن الناس، على الرغم من كل ذلك، تابعت حياتها، وتجارتها، ودراستها. وشاعرنا، بخبث لا مثيل له، من محابسه، اطّلع على ما تخبّئه قلوبهم:
إِذا فَزِعنا فَإِنَّ الأَمنَ غايَتُنا وَإِن أمنّا فَما نَخلو مِنَ الفَزَعِ
وَشيمَةُ الإِنسِ مَمزوجٌ بِها مَلَلٌ فَما نَدومُ عَلى صَبرٍ وَلا جَزَعِ
والضجر يُرجعه النقاد الغربيون إلى عالمهم المغلق، ويجعلون بطله بودلير، الذي استنبت أزهار الشر منه، كأن الحداثة وحدها اخترعته. ولكن شيخنا يعرف الإنسان أعمق منهم، ورأى -ببصيرته الإلهية- الضجر كصفة إنسانية أصيلة، لا محيد عنها:
نَقضي المآربَ، والسّاعاتُ ساعيَةٌ، كأنّهنَ صِعابٌ، تحتَنا، ذُلُلُ
وقتٌ يَمُرُّ، وأقدارٌ مُسبَّبةٌ، منها الصّغيرُ، ومنها الفادحُ الجَلَل
وما فتئتُ، وأيّامي تُجَدّدُ لي، حتى مَلَلتُ، ولم يَظهَرْ بها مَلَل
ما الذي فعله بوقته الثمين، في ضجره المديد؟
كتب الشعر، وتسلى. حوّل خوفه، وملله، وحيرته، وتشاؤمه، إلى مجموعة مدهشة من الأشعار؛ فغدا ضجره من دنياه مسلياً جداً، ومثمراً، ومتألقاً. في اللزوميات، يعيد شيخنا تعريف معنى الشعر والأدب: محاولةٌ مستمرة، متواصلة، أزلية، لطرح أسئلة عن معنى الكون، والحياة، والموت، والكتابة. تترابط الرؤى الميتافيزيقية، والتعدد الديني، والأبعاد السياسية المتوحشة، في أسئلته: يتحول الشعر إلى ساحةٍ تتصارع فيها الأجوبة، وتتصالح.
ضجره يجعله يعود مراراً إلى الموت/معنى الحياة. يصيغ المعري رؤاه بطرق مبتكرة، دقيقة، نافذة. وفي كل منها، يستشعر المرء أمران متلازمان: ملله وكراهيته للحياة، مع محبته لفكرة الشعر القادر على رسم صور ناصعة لذلك الملل.
يستعير المعري صوراً قديمة، ليعيد تأويلها وتجسيدها بجدّة جسورة؛ فيعكسها لتصبح الحياة هي المشكلة، وليس الموت.
الحياة حلم، صورة موجودة منذ حضارات الرافدين الأقدم، وشغلت البشرية كثيراً. يستعيدها المعري، بمهارة لئيمة، ليغير معنى الحلم إلى سهاد:
وَمَوتُ المَرءِ نَومٌ طالَ جِدّاً عَلَيهِ، وَكُلُّ عيشَتِهِ سُهادُ
وصورة الحياة كجسر بين عدمين -المتداولة منذ أيام الزارداشتيين والغنوصيين- ينقضها، ليجعل الحياة فقداً بين الجسور:
حَياةٌ كَجِسرٍ بَينَ مَوتَينِ أَوَّلٍ وَثانٍ، وَفَقدُ الشَخصِ أَن يُعبَرَ الجِسرُ
أيضاً، يجعلنا المعري أنفاساً للأرض، تستردها بعد فترة قصيرة، لتكون حياتنا برهة عابرة:
أَرى الناسَ أَنفاسَ التُرابِ فَظاهِرٌ إِلَينا، وَمَردودٌ إِلى الأَرضِ راجِعُ
أو نكون زرعاً، ينبت، ثم يُحصَد:
وَابيَضَّ ما اخضَرَّ مِن نَبتِ الزَمانِ بِنا وَكُلُّ زَرعٍ إِذا ما هاجَ مَحصودُ
أو نكون ركاب المطايا، والساعات تركض بنا:
مَطِيَّتِيَ الوَقتُ الَّذي ما اِمتَطَيتُهُ بِوِدّي، وَلَكِنَّ المُهَيمِنَ أَمطاني
أو سفن لا تصل الشطآن:
تَسيرُ بِنا هَذي اللَيالي كَأَنَّها سَفائِنُ بَحرٍ ما لَهُنَّ مَراسي
والحياة حربٌ، كلنا قتلاها:
وَالعَيشُ حَربٌ لَم يَضَع أَوزارَها إِلّا الحِمامُ، وَكُلُّنا أَوزارُ
لذا، يحتفي شيخنا بالموت، وينتظره. فالحياة، عموماً، أسرٌ؛ أما الموت، فحرية:
يا رَبِّ عيشَةُ ذي الضَلالِ خَسارُ أَطلِق أَسيرَكَ فَالحَياةُ إِسارُ
فحبسنا كحبس الخمر كي تعتّق، لا بدّ أن تُشترى يوماً:
وَأَرواحُنا كَالراحِ إِن طالَ حَبسُها فَلا بُدَّ يَوماً أَن تَكونَ سِباءُ
أو كعصافير في قفصٍ:
يا طائِراً مِن سُجونِ الدَهرِ في قَفَصٍ لتُذبَحَنَّ فَلا سِجنٌ وَلا شَرَكُ
بل هذه الحياة صيام طويل، والموت إفطار بهي:
أَنا صائِمٌ طولَ الحَياةِ وَإِنَّما فِطري الحِمامُ وَيَومَ ذاكَ أُعَيِّدُ
مرة واحدةً، وبعنف يتسم برقة، يتفاءل المعري بما بعد الموت- بعد أن يشبّهنا بالبدر، والزرع، والمسك:
المَرءُ كَالبَدرِ بيِّناً لاحَ كامِلَةً أَنوارُهُ عادَ لِلنُقصانِ فَامتَحَقا
وَالناسُ كَالزَرعِ باقٍ في مَنابَتِهِ حَتّى يَهيجَ وَمَرعيٌّ وَما لَحِقا
عَلّ البِلى سَيُفيدُ الشَخصَ فائِدَةً فَالمِسكُ يَزدادُ مِن طيبٍ إِذا سُحِقا
ولكن، ما الذي يفعله المعري في دنياه؟ كيف يدبّر أموره، بين السفن والمطايا والزرع والجسور، وكلها تؤدي إلى موت يخافه ويرهبه ويتمناه؟ كيف عاش، في دنيا لا تقدّم له إلا الحروب، والخداع، والكذب؟
يتمنى لو أنه لا يحس، أو لو عاش كالطير:
فَيا لَيتَني حَجَرٌ لا يُحِسْ سُ بِالخَطبِ أَو طائِرٌ ما احتَكَر
إِذا ما أَنارَ صَباحٌ غَدا وَإِن جنَّ ليلٌ عَلَيهِ وَكَر
وشيخنا، الذي خبر الحياة، لا يطلب المجد، ولا الشهرة، ولا الثروة؛ ويهرب من كل ما تعرضه عليه الدنيا، من كل ما يجعل الناس تكذب وتسرق وتخدع:
فَعِش وادِعاً وَاِرفُق بِنَفسِكَ طالِباً فَإِنَّ حُسامَ الهِندِ ينهكهُ الصَقلُ
يمتلئ قلب شيخ المعرة بالرحمة: يطالب كل الناس بأن يعيشوا مثله، بألا يلتفتوا إلى ما تعرضه عليهم الدنيا من دناءات، ومكر، وأطماع. بل في قصيدة عجيبة، متفائلة وحزينة في آنٍ، يجعل المغلوبين أصحاب الحق، والمعرفة، واليقين. كأنه، في ظلمته الطويلة، قرر، لمرة، أن يبتسم لنا، في قصيدة لا تناسب لزومياته وشخصيته وقناعاته كثيراً، ولا شعره المتناقض، المتصارع مع نفسه، الكاره لذاته:
بِعالِجٍ باتَ هَمُّ النَفسِ يَعتَلِجُ فهَل أَسيتَ لِعَينٍ حينَ تَختَلِجُ
قَد عِيلَ صَبرُكَ وَالظَلماءُ داجِيَةٌ فَاِصبِر قَليلاً لَعَلَّ الصُبحَ يَنبَلِجُ
لا يَعرِفُ الدَهرَ إِلّا مَعشَرٌ غُلبوا فَما استَكانوا، وَلَم يُزهَوا وَقَد فلجوا
الأَلمَعِيونَ إِن ظَنّوا وَإِن حَدَسوا ظَننتَهم بِيَقينٍ واضِحٍ ثَلجوا
(في بعض النسخ، نجد المحققون يثبتون: “إلا معشرٌ غَلَبوا”، كأنها قصيدة فخر. وهذا يعارض الجملة التالية: “فما استكانوا”، التي تصبح ثقيلة، وأقرب إلى الشعراء التقليديين، لو صحّ قول المحققين. ويعارض بقية البيت، الذي يوضّح المعنى أكثر، لأنه يطرح الاحتمال الثاني: لا يزهون بأنفسهم حين يفلجون، أي يحصلون على مرادهم. كما يعارض الأبيات السابقة في القصيدة؛ والأهم، يعارض كل فكر المعري. يبدو لي أن معشر المعري لا يستكينون عندما يُغلبون، ولا يزهون عندما يَغلبون. وليسوا أولئك الذين يغلبون دوماً، لأنهم يسايرون الدنيا ويرفعون سيوفهم، ويمثّلون كل ما حاربه المعري طيلة حياته!)
والمعري يشفّ في تلك الحياة: حروب، وأطماع، ونصابون، وفقهاء وقسس وفلاسفة، لا تترك للمرء مثقال ذرة من راحة. يشف في تلك الحياة، ذلك الذي رسمها بصدق، وصراحة، وروعةٍ شجية:
عَزَزتَ وَربُّ الناسِ أَعطاكَ عِزَّةً وَأَصبَحتُ هَيناً كُلُّ شَيءٍ يَعُزُّني
(يعُزّه الثانية، بضم العين: إذا غلبه)
كَنَبتٍ ضَعيفٍ لَم يُؤازِرهُ غَيرُهُ فَأَيُّ نَسيمٍ هَبَّ فَهوَ يَهُزُّني
ربما، كل الأدب لزوم ما لا يلزم، أو هكذا يخيّل لي. حوّلتْ بصيرةُ شيخ المعرة الملل والتشاؤم إلى جمال شعري، إلى لعب، إلى تسلية، إلى صورٍ حسية وبصرية: وكل هذا، لزوم ما لا يلزم. كأن تهزّ نسائم ضجرة أرواحَنا، نحن المغلوبين، ويقينُنا يختلجُ: وهذا، أيضاً، لزوم ما لا يلزم.