لنتحدث بصراحة، إذا حدث وقدمت نفسك لشخص ما باعتبارك صحافياً فلسطينياً، فمن المرجح أن يتخيّلك وأنت تغطي الاجتياحات الإسرائيلية، أو تتبع عنف المستوطنين، أو تكتب تحليلات سياسية عميقة. ولكن إذا ذكرت أنك صحافي ثقافي، فقد تشعر وكأن فيك خطب ما: متى أصبحت مراجعة فيلم أو تغطية حفل إطلاق كتاب صحافة “حقيقية”؟ أي نوع من الصحافيين قد تكون لتختار الكتابة عن الأفلام والكتب ومعارض الفن، بدلاً من متابعة الأخبار العاجلة والدراما السياسية؟ في مكان مثل فلسطين، حيث تهيمن الأخبار العاجلة على العناوين الرئيسية، يشعر الصحافيون الثقافيون وكأنهم يسبحون ضدّ التيار. أخبار الثقافة والفنون والأدب عادة ما يتُرك لها ركن صغير من التغطية الإعلامية، وعادة في الصفحة الأخيرة من الصحيفة، أو تُقرأ في نهاية النشرة الإخبارية باعتبارها من الأخبار “الجيدة” لهذا اليوم، وفقط إذا سمح المناخ السياسي بذلك!
خلال دراستي في جامعة بيرزيت، كان أساتذتي –بارك الله فيهم– يؤكدون دوماً على أن تقاريري الصحافية تفتقر الحساسية السياسية، وأن لغتي تميل نحو الثقافة والأدب. أخذت هذا على محمل الجد، وأمضيت سنوات في تجريد تقاريري من أي “ذوق أدبي” أو تأمل شخصي، وجعل لغتي واقعية قدر الإمكان، وحتى عندما سنحت لي الفرصة للاختيار بين كتابة رسالتي الماجستير عن التحوّلات الثقافية بعد اتفاق أوسلو، أو عن دور حماس في عملية السلام، اخترت الخيار الأخير، اعتقاداً مني أن أي شيء آخر سوف يُنظر إليه باعتباره أقل جدية في بلد تبدو السياسة وكأنها القصة الوحيدة الجديرة بالسرد. في فلسطين، من الصعب الهروب من جاذبية السياسة ولغتها وكل ما يدور في محيطها، حتى العمل الثقافي يجب أن يكون مشتبكاً؛ لأن أي شيء آخر قد يُعتبر غير ذي صلة، ومنفصلاً عن السياق الفلسطيني والقصص “الأساسية” عن الاحتلال والمقاومة والبقاء. ضمن هذا السياق، قد يُنظر للصحافة الثقافية بوصفها “ترفاً” لأولئك الذين يعيشون في أماكن أكثر أماناً، وليس في مكان تهيمن عليه آليات عسكرية ونقاط تفتيش، مكان حيث يمكن للمعارض الفنية ومهرجانات الأدب وعروض الأفلام أن تزدهر دون شبح القتل والاعتقال اليومي.
لكن المشهد السياسي دون ثقافة لا يمثّل سوى جزءاً واحداً من الصورة الكبرى. قد نتفق أن السياسة هي الفيل في الغرفة، لكن الثقافة هي الغرفة نفسها؛ إنها المساحة التي تتقاطع فيها السياسة مع التاريخ والمجتمع. الثقافة هي انعكاس لما نحن، وكيف نفكر، والطريقة التي نعبّر بها عن قِيَمنا ومخاوفنا وآمالنا. الثقافة ليست مجرد رفاهية للمثقفين، ولا هي مراجعات متخصّصة للنخب التي تكتب نقداً فنيّاً لبعضها البعض، إنها تمثّل نبض المجتمع ووسيلة لالتقاط المزاج والمشاعر العامة والنضالات والأحلام والروح الجماعية، بطرق لا يستطيع التقرير السياسي أو الأخبار العاجلة القيام بها. الصحافة الثقافية هي عدسة يمكن من خلالها رؤية الصورة الأوسع بما يتجاوز الوضع السياسي المباشر، ويتعالى عن ضجيج التقارير الإخبارية والسرديات الجيوسياسية.
هناك مشكلة بالطريقة التي نستخف بها بالثقافة في مواجهة السياسة، والاعتقاد العام بأن التعبير الثقافي هو ترف منفصل عن مرارة الواقع. الصحافة الثقافية لا تتجاهل الاحتلال أو العنف والقمع، بل تحاول توسيع الحوار، وإظهار الفلسطينيين ليس فقط ضحايا وشخصيات أحادية البُعد، ولكن بوصفهم أفرادًا معقّدين؛ شعراء، وصنّاع أفلام، وموسيقيون وفنانون. هؤلاء هم الأشخاص الذين يخلقون عوالمَ من المعنى والخيال، عوالم أكثر رحابة تتجاوز الوضع السياسي وتحدياته.
الفن والموسيقى والأدب هي أدوات تسمح لنا بالتأمل والتعبير عن المشاعر المتناقضة، والتعامل مع الخسارات اليومية التي تأتي مع العيش في بيئة محتلة. ومع ذلك، فعندما تتكشّف الأحداث السياسية الكبرى، غالباً ما تكون الأنشطة الثقافية هي أول ما يُؤجّل أو يُلغى، وكأنّ الثقافة والسياسة موجودتان في عالمين منفصلين. وهذا يعكس فهماً ضيّقاً لما تمثّله الثقافة. الثقافة لا تتطفّل على المشهد أو الوضع السياسي، بل هي ترافقه وتُكمله. في لحظات الاضطراب واللايقين، توفر الثقافة أدوات ومساحة ضرورية للتنفيس والتعبير عن المشاعر والتفاعل مع الواقع السياسي بطرق أكثر شخصية، لا يمكن التقاطها من خلال الأخبار والتحليلات السياسية. تهميش الثقافة لا يشكّل “خدمة سيئة” للفن فقط، ولكن لقدرة المجتمع على التعامل مع التغييرات والصدمات. في بعض الأحيان، قد يكون بيت شعر واحد، أو قطعة موسيقية، أكثر فعّالية في نقل حجم الدمار والخسارة والوجع من ألف تقرير إخباري! ولهذا، قد يكون إلغاء الأحداث الثقافية عند حدوث حدث سياسي هو حرمان الناس من منفذ للتأمل، أو مساحة للتعبير عن عواطفهم وأفكارهم، أبعد من المشاركة في الإضرابات والاحتجاجات.
تحقيق التوازن بين الأحداث الثقافية في أوقات الحرب هو أمر صعب لا شك، ولكن بدلاً من إلغاء الأحداث الفنية، ربما يجب أن نجد طرقاً لتكييفها مع السياق الحالي وتعديلها لتناسب اللحظة، ما يوفّر مساحة للتواصل خارج الخطاب السياسي. لحظات المشاركة الثقافية، مثل قراءات الشعر والمعارض والأفلام، قد تكون حيوية للشعور بالطبيعية أو للتعبير عن الحزن العام وخلق مساحة يتقاطع بها الفن المشهد العاطفي والنفسي لمجتمع في حالة اضطراب وخسارة. يجب أن لا ننسى الثقافة الفلسطينية كانت دوماً جزءاً لا يتجزّأ من أشكال المقاومة، ووسيلة للحفاظ على الهوية، وتحدّي السرديات وتصوّر مستقبل حر؛ مقاومة لا تتفاعل مع الاحتلال والقمع فقط، بل تتخيّل عالماً يتجاوزه. الثقافة في كثير من الأحيان هي الشكل الأكثر ديمومة للمقاومة، وخاصة عندما يفشل الخطاب والفعل السياسي في تحقيق ذلك، فلطالما كانت الفنون والأدب والموسيقى الفلسطينية أعمال تحدٍّ وتأكيدًا للذات في مواجهة المحو.
لا شك أن هناك شعوراً ملموساً بخيبة الأمل بين العديد من الفلسطينيين في ما يتّصل بمثقفيهم ومؤسساتهم الثقافية، حيث يشعر كثيرون بأن النخبة الثقافية والفكرية بعيدة عن الاحتياجات الملحّة للمجتمع في الوضع الطبيعي، الأمر الذي ترك كثيرين يشككون في أهميتها في أوقات الأزمات. في ظل الانقسامات السياسية العميقة فلسطينياً، هناك كذلك إحباط شعبي، لأن الخطاب الفكري يبدو أكثر تفتّتاً من أي وقت مضى، وهذا التفتّت يُضعف الإرادة الجماعية لمواجهة التحديات الحالية والقادمة. عندما يكافح الناس من أجل البقاء، فإن العمل السياسي الفوري والتضامن يصبحان أكثر إلحاحاً من الخطاب الفكري والجهود الثقافية، وبالتالي، يجب توجيه كل الطاقات نحو ذلك. ولكن هذا التصور –على الرغم من أنه مفهوم– قد يخاطر بتقليل الدور الأوسع الذي يؤديه العمل الفكري والثقافي في التعامل مع الحاضر، وتشكيل رؤية للمستقبل. في حين أن إنهاء الحرب هي الأولوية، فإن التعبير الثقافي يقدّم أدوات أساسية لإعادة بناء الوحدة والشفاء وتصوّر مستقبل ما بعد الحرب. ولهذا، من المهم إعادة صياغة المشاركة الفكرية والثقافية باعتبارها مكوّنات حيوية للنضال ولاستمرارية الروح الفلسطينية، حتى في أصعب الأوقات.
في خضم الحرب المدمّرة على غزة، تؤدي الصحافة الثقافية دوراً مهماً في تضخيم الأصوات الفلسطينية، وسدّ الفجوة بين الخطاب الفكري والحقائق السياسية التي يعيشها الفلسطينيون، وهي وسيلة لمواجهة نزع الصفة الإنسانية عنهم، في الوقت الذي يتعرّض فيه النسيج الثقافي للهجوم؛ “فهذه أيضًا حرب خطابية. حرب تهدف إلى إبراز كلمات معينة، وسرديات معينة، وإسكات أخرى”، كما تقول لينا منذر في مقال لها على موقع مجلة المركز1. الحرب على غزة ليست مادية فقط، بل هي أيضاً معركة للتمثيل والسيطرة على السردية. في ظل التمثيل الخاطئ للفلسطينيين2 في وسائل الإعلام، والمحو المنهجي للتاريخ والثقافة الذي يحدث بالتوازي مع الدمار المادي في غزة، تصبح القدرة على سرد قصة أو رسم لوحة بمثابة عمل من أعمال المقاومة في حدّ ذاتها.
الصحافة الثقافية ليست وسيلة لصرف الانتباه عن السياسية، ولا مجرد ترفيه –لا يوجد مشكلة أصلاً في كون الثقافة مصدرًا للترفيه-، بل أهميتها أعمق من ذلك بكثير؛ فالمشاريع والأعمال الثقافية هي جزء لا يتجزأ من فهمنا لهويتنا الجماعية، بدونها نفقد أداة نقد أساسية ليس لفهم سياستنا وتفسيرها فقط، بل وإنسانيتنا أيضاً. لا تخبر الصحافة الثقافية العالم بما يحدث حولنا وفي دواخلنا فقط، بل تذكرنا أيضاً بما يستحق النضال من أجله: الروح الدائمة للشعب وثقافته وحقه في الوجود.
-
Lina Mounzer, “Palestine and the Unspeakable,” The Markaz Review (16\10\2023), at: Palestine and the Unspeakable – The Markaz Review.
-
UN rights chief warns of ‘dehumanization’ of Palestinians amid West Bank violence as Gaza crisis deepens | UN News.