من ذات المدينة التي غادرها الفلسطينيون نحو البحر/ المجهول قبل ثلاثين عاماً ونيف، افتتحت في 5/ تشرين الأول، فعاليات “بحر من حكيات” في بيروت ضمن محفل “قلنديا الدولي” الذي يقدم فعالياته في كل من حيفا وبيروت وغزة وعمان ولندن والقدس ورام الله وبيت لحم، متناولاً موضوعة العودة في السياق الفلسطيني.
“أين تبحر السفن بعد الشاطئ الأخير؟” يستهل “بحر من حكايات” تقديمه بهذا السؤال، ساعياً إلى استكشاف أشكال النزوح والعودة المتخيلة للمجتمع الفلسطيني في لبنان عبر البحر الأبيض المتوسط، وباحثاً في الإرشيف الفلسطيني، أو ما تبقى منه، عن سرديات الفلسطينيين الكبرى، عن حكاية ثورتهم مع البحر، وعن ترحالهم السرمدي من مدينة إلى أخرى، ومن ميناءٍ لآخر.
في دار النمر للثقافة في بيروت، اختزل أحمد باركلي وهنا سليمان بحراً من الحكايات الفلسطينية في أروقة الدار وغرفه، معتمدين على أجهزة إسقاط تقابل المتلقي فور دخوله للصالة الرئيسية، تقدم له بدايةً بانورما تعرف بالتاريخ الفلسطيني، أو كما نقش على جدار المعرض: “يحكي هذا المعرض قصة تاريخ واحد ضمن تواريخ عدة محتلمة”.
في الممر الضيق الذاهب إلى غرف فرعية، عرض سليمان وباركلي مقطعاً من لحظة توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، ملتقطين تلك اللحظة المفصلية في تاريخ الفلسطينيين والثورة الفلسطينية. تعرض لقطة المصافحة بين ياسر عرفات وشمعون بيريز يتوسطهم الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون وتعاد مراراً على الجدار، كيف وصلت الثورة الفلسطينية إلى هنا؟ يسأل المتلقي ويدخل إلى غرفة صغيرة قرب شاشة العرض كُتب على بابها “التذكُّر”.
“لوين رايحين وتاركينّا، لمين تاركينّا؟” هكذا تصرخ امرأة فلسطينية على صلاح خلف (أبو إياد) أحد أبرز قادة الثورة الفلسطينية، يحضنها الأخير، ويقبّلها على رأسها، ويرحل مُكرهاً متجهاً إلى البحر.
داخل الغرفة، عُلّق على الجدار شاشات لوحية متصلة بسماعة أذن، تقف لتتأمل مقتطفات من تاريخ شعب. “لوين رايحين وتاركينّا، لمين تاركينّا؟” هكذا تصرخ امرأة فلسطينية على صلاح خلف (أبو إياد) أحد أبرز قادة الثورة الفلسطينية، يحضنها الأخير، ويقبّلها على رأسها، ويرحل مُكرهاً متجهاً إلى البحر. هذا ما تعرضه إحدى الألواح أمامك، تسمع أنت وحدك نشيج الثكلى مكتوما داخل جهاز (الأيباد)، بينما يُعرض على الشاشة المجاورة مشاهد من العمل داخل صحيفة السفير اللبنانية أثناء الحرب الأهلية، يتصدر الفيديو ناجي العلي وهو يرسم إحدى رسوماته الكاريكاتورية، طائراتٌ تقصف وحنظلة كما عادته يقف على الهامش وظهره للرائي. تشعر أن المشهد صُوّر البارحة، فلا حنظلة استدار، ولا الطائرات توقفت عن قصف الفلسطينيين.
قُسّمت شاشات العرض في الغرفة زمنياً، في الفترة الممتدة ما بين 2006 و 2016، تُرك مكان الشاشة فارغاً، وكُتب أعلاه “الانقسام السياسي وإهمال الإرشيف”، لا يوجد شيء للعرض، فالحالة الفلسطينية في أشد حالتها بؤساً، وضياعاً، والفراغ هو ما يملأ الصورة اليوم.
خُصص الطابق العلوي في الدار للصور الفوتوغرافية. شذراتٌ مصورة من تاريخ فلسطين، منتشرة على جدران بيضاء. صورة على شواطئ البحار الفلسطينية، وأخرى للمغيب فوق بحر الجليل تعود إلى آذار عام 1923، كُتب خلفها في ذلك الوقت: “المغيب فوق بحر الجليل ــ الشرق الأدنى ليس كله اضطرابات وصراع ومخيمات مكتظة. العديد من مشاهد نادرة الجمال تنتظر المسافر في الأراضي المقدسة التاريخية كما تشهد هذه اللمحة من ظلال المغيب على بحر الجليل قرب موقع كفر ناحوم القديم”.
في مكان آخر من ساحة المعرض الرئيسية، يخرج من الجدار الأبيض موجة عالية، موجةٌ من البحر الذي ابتلع الكثير من الفلسطينيين في ترحالهم. الموجة هنا ليست من ماء، بل من عنصر اختبره الفلسطينييون في رحلة شتاتهم كثيراُ، وهو الأسلاك الشائكة. هذا ما عمل عليه الفنان الفلسطيني عبد الرحمن قطناني، إذ جمع بين عنصرين أساسيين في صراع الوجود الفلسطيني، البحر الذي ركبوه في شتاتهم، والأسلاك المعدنية التي أدمت معاصمهم وقيدت حريتهم.
بهذه الأعمال وغيرها افتتح بحر من الحكايات فعالياته في بيروت المستمر لنهاية شهر تشرين الأول. وُفّق المعرض في عرض إرشيف فلسطيني نادر، بيد أن فكرة التلقي بقيت بحاجة إلى تأمل أكثر، فالمتلقي قد يتوه في غمرة العروض المتعددة أمامه، وقد لا يلتقط الكثير من التفاصيل التي عمل عليها فريق عمل “بحر من حكايات”.