قبل أيام قليلة، كانت مدينة اسطنبول التركية على موعد مغرٍ مع الثقافة العربيّة، وبالتحديد الفلسطينيّة. وذلك في العاصمة الثقافيّة التركيّة التي تتحدث الأرقام عن قرابة مليون مقيم عربي فيها، يشكّل السوريّون أكثر من نصفهم. فقد نظّم المركز الثقافي السوري في اسطنبول (هامش) عرضاً لفيلم “زنديق” للمخرج الفلسطيني المقيم في بلجيكا ميشيل خليفي الذي رتّب المركز معه نقاشاً مفتوحاً بعد عرض الفيلم.
على الرغم من قدم تاريخ إنتاج الفيلم العائد للعام 2009 إلا أنّ الفرصة كما ذكرنا كانت توحي بفسحة تماس صغيرة مع الثّقافة العربية، لشريحة صغيرة ولكن متعطّشة لنقاش فنّي يبتعد قليلاً عن سجن “الفنانين اللاجئين في تركيا” أو “الاندماج الثقافي” وغيرها من الصفات الساخنة للمنتج الثقافي السوري والعربي على الأراضي الجديدة.
يحظى خليفي بسمعة لا بأس بها كونه “أحد روّاد السينما الفلسطينية المستقلّة” أو “أحد العلامات الثلاث الفارقة في السينما الفلسطينية الجديدة” بحسب كتاب الناقد بشّار إبراهيم. كل هذه السّمعة الطيّبة إضافة إلى ميّزات فرصة العرض المذكورة سابقاً تكسّرت على عتبة فيلم “زنديق”.
يستعرض الفيلم نهاراً وليلة كافكاويّة طويلة من حياة مخرج تسجيلي فلسطيني (لعب دوره محمّد بكري) من فلسطينيي الداخل المحتل عام 48 يقيم في أوروبا، وقد عاد في زيارة إلى البلد لحضور عزاء شخص من عائلته، وكذلك لتصوير مشاهد من فيلم تسجيلي تصوّر مشاهده بين رام الله والناصرة ومشاهد أخرى قديمة مع مهجّري الـ 48 لا يخبرنا الفيلم متى صوّرت، وفي أيّ سياق، لكنّ خليفي يدمج بينها كمشاهد وثائقية، وبين مشاهد الفيلم الروائية كنوع من التجريب الشكلي الذي استطرد فيه المخرج طويلاً حتى قصرت المسافة الفاصلة بين النوعين، فغدت مشاهد الوثائقي مصطنعة ولا تحمل سخونة الواقع، ومشاهد الروائي عاجزة عن الاقتراب من خفّة إعادة إنتاج الواقع من خلال الأداء التمثيلي، والنص المكتوب.
يبني صاحب “عرس الجليل” الحبكة الرئيسية في فيلمه على واقع اقتتال داخلي بين عائلات فلسطينية في مدينة الناصرة، على خلفية شجار بين شابّين طعن أحدهما الآخر بسكّين فتضطر الشخصية الرئيسية (م) إلى البحث عن غرفة في فندق يقضي فيها ليلته تلك، ليصطدم بواقع أن كلّ موظفي الفنادق القريبة يرفضون استضافته، فيقضي ليلته متنقلاً بين الفنادق، هارباً من الناصرة وعائداً إليها أكثر من مرّة في بحث مضن ومخيف عن مكان ليقضي فيه ليلته التي يعكّر صفوها مجتمع فلسطيني عنيف، ومتوتّر، مليء بقاطعي الطرق والنشّالين، وخاطفي الأطفال.
عبر تلك الليلة الطويلة يهتدي البطل إلى بيت عائلته القديم عن طريق الصدفة ليجد فيه مجرمين فلسطينيين خطفا طفلين من قطّاع غزة المحاصر (لا نعرف كيف تمّت عملية الخطف المستحيلة تلك) وقاما بانتزاع كلية أحدهما وبيعها. عقب لقاء سريع و”كوميدي” بين المخرج والمجرمين يتركونه بسلام في بيت عائلته المهمل ليعيد ترتيب علاقته مع ذكرياته، وليستدعي والدته المتوفّاة ويسألها مراراً لماذا لم تنزح عائلته مع الآخرين في حرب الـ 48، أو ليحرق صور ذكريات العائلة على نار ارتجاليّة بالإضافة إلى صليب خشبي، كان لا بدّ من حرقه حتّى يحمل الفيلم شيئاً من اسمه أي “زنديق” في لفتة أخرى مرّكبة على شجرة الفيلم المثقلة بالأفكار.
إلا أنّ الفرصة كما ذكرنا كانت توحي بفسحة تماس صغيرة مع الثّقافة العربية، لشريحة صغيرة ولكن متعطّشة لنقاش فنّي يبتعد قليلاً عن سجن “الفنانين اللاجئين في تركيا” أو “الاندماج الثقافي” وغيرها من الصفات الساخنة للمنتج الثقافي السوري والعربي على الأراضي الجديدة.
لا يتّسع المجال لذكر عثرات الفيلم وتحليلها بشكل كاف لأن الكتلتين الأساسيتين اللتين يقوم عليهما بين مساحة الروائي الواقعي، والمتخيّل الذي يرفده التسجيلي تحتكّان ببعضهما بطريقة لم تولّد جمالية، أو قيمة مضافة، بقدر ما ولّدت حيرة وفراغات طويلة في عملية استقبال الفيلم لدى الجمهور العارف ولو بشكل سطحي بتفاصيل الواقع الفلسطيني في الداخل، لم يكن للمشاهد من متنفّس خلالها سوى مشاهد متقنة تقنياً للبطل خلف مقعد سيارته التي يقضي فيها معظم مشاهد الفيلم، أبرز فيها المخرج ومدير التصوير بعضاً من القدرات الفنّية التي لم تستطع للأسف سدّ الفراغات الأخرى في ضعف أداء الممثل محمّد بكري وعدم عفويّته، أو في حبكة الفيلم.
منفي يقابل منفيين
بدلاً من أن يكون النقاش الذي أعقب الفيلم قيمة مضافة تشدّ قليلاً من ضعف المادّة الفيلمية، جاء النقاش مع “ميشيل خليفي” دفاعياً عن بعض أسئلة الجمهور المنتقدة، واتهامياً للجمهور بالأدلجة والرغبة في رؤية فلسطين الشعريّة والمكافحة، ناسباً لنفسه الأولوية في هذا السياق، ومتناسياً أفلام إيليا سليمان وآن ماري جاسر وهاني أبو أسعد وغيرهم، تلك التي حقّقت شعبية وجماهيرية كبيرة عبر نافذة تصوير الأراضي المحتلّة أو الضفة الغربية، وأنّ فيلم “زنديق” ليس النافذة الوحيدة التي تفتح على ذلك العالم الذي بدا المخرج وكأنه العارف الوحيد بمفاتيحه، الأمر الذي يبرّر له استخدام حبكة غير منطقية، أو تقديم مغالطات واقعية لمسلّمات داخل الواقع الفلسطيني “الإكزوتيكي” من وجهة نظر عدسته.
المفارقة المؤلمة في سياق عرض الفيلم هي أن المخرج الفلسطيني المنفي بطريقة أو بأخرى في أوروبا، كان على موعد مع مثقّفين سوريين، وعرب، منفيين جدد في الأراضي التركيّة. كان من شأن مادّة فيلمية قويّة، أو نقاش متواضع ومنطقي أن يضيف قيمة ما على ذلك الموعد، بدلاً من سلب تلك المتعة من الجمهور واتهامه بعدم فهم سينما المخرج لأن “الجمهور” معتاد على السينما الهوليوودية الرديئة، والمسلسلات التلفزيونية بحسب ردّ المخرج على أحد الأسئلة.