غرامشي هو من صاغ مفهوم الكتلة التاريخية، لكن المفهوم بات يتكرر في صيغة لا تمتّ بصلة لما طرحه، بل تعيد إنتاج مفهومات أنتجتها “الماركسية السوفيتية”، وستالين، تحت هذا المصطلح. إذ بات يعني التحالف السياسي (أو الجبهة الوطنية). بمعنى أن نقلة قد حدثت في المعنى بين ما قال به غرامشي وكان يتحدث عن الطبقات وما بات يعني من تعبير عن تحالف سياسي بين أحزاب.
ولا شك في أن الفارق كبير بين الفهمين، بالضبط لأن الأول يفرض تشكيل تحالف طبقي بقيادة الحزب الماركسي والثاني يفرض تشكيل تحالف سياسي بين أحزاب كلها تمثّل البرجوازية، أو تمثّل البرجوازية ويكون الحزب الشيوعي طرفاً صغيراً فيه. فما طرحه غرامشي هو توحيد النقابات والاتحادات والهيئات التي تمثل الطبقات “الشعبية” في ظل هيمنة الحزب الشيوعي، وهو هنا استخدم مفهوم الهيمنة، أي الهيمنة الطبقية، الهيمنة على الطبقات “الشعبية” في سياق تأسيس الكتلة التاريخية. ومفهوم الهيمنة هنا لا يساوي مفهوم السيطرة بل يعني تعميم الأفكار والتصورات من خلال القبول وليس من خلال الفرض. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال بلورة مطالب مجمل “الطبقات الشعبية”، وطرحها والدفاع عنها، وتوحيد الطبقات هذه على أساسها.
وتتحقق الهيمنة هنا من خلال تبني مطالب تلك الطبقات أولاً، والدفاع عنها، وخوض الصراع معها ثانياً.
بهذا فإن مفهوم الكتلة التاريخية يعني توحيد “من أسفل” للطبقات “الشعبية” من خلال النقابات والاتحادات والهيئات واللجان التي تشكلها. إنها كتلة في المستوى الاقتصادي المجتمعي وليست في المستوى السياسي، هذا المستوى الذي له أشكال أخرى من التعامل، وتكتيك مختلف تماماً، بالضبط لأنه تحالف لحظي، مؤقت، ويفرضه الصراع في لحظة معينة، دون أن يعني وقف الصراع الأيديولوجي ضد الأحزاب التي يمكن التلاقي معها في هذه اللحظة.
الحزب الذي يعبّر عن البروليتاريا يستطيع أن يشكّل الكتلة التاريخية من الطبقات “الشعبية”، وهو لن ينتصر دون أن يحقق ذلك، لأنه بها يتحوّل إلى أكثرية، إلى قوة شعبية حقيقية، تفرض شروطها على الأحزاب الأخرى، وتستطيع الانتصار. هذا ما كان يفكّر به غرامشي، وما كان يحاوله، حتى وهو في السجن.
هذه الفكرة التي بلورها غرامشي لها جذور في تاريخ الماركسية، وربما كان الأقرب لها هو لينين الذي يعتبر غرامشي في “كراسات السجن” أنه ينظّر “تجربته”. لقد ظهر أن ماركس يلخص الصراع الطبقي في المرحلة الرأسمالية في صراع البروليتاريا ضد البرجوازية، ولا شك في أن هذا تلخيص تجريدي لوضع كان يتشكل، حيث كان ماركس يظن أن المجتمع ينزع إلى حالة تفرض وجود الطبقتين فقط، رغم أنه حين كان يحلل الصراعات الواقعية (في ثورات سنة 1848 الفرنسية/الأوروبية) كان يتناول دور مختلف الطبقات، وخصوصاً هنا الفلاحين الذين كانوا لا زالوا يشكلون أغلبية مجتمعية (هي التي فرضت لويس بونابرت على جثة الثورة حينها). وربما كانت رؤيته (هو وإنجلز) لوضع ألمانيا يوضّح التصور حول تحالف طبقات من أجل بناء “الجمهورية الديمقراطية”.
حتى وفق هذا المنظور الذي يحصر الصراع بين برجوازية وبروليتاريا، ظهر أن مفهوم البروليتاريا ملتبس، لأنه بات يعني الطبقة العاملة الصناعية (وهذا هو ما كان يركز عليه ماركس). وبهذا جرى تقليص الطبقة العاملة إلى بروليتاريا صناعية، ومن ثم جرى تجاهل العمال الزراعيين وعمال الخدمات والبناء، وجيش العمل الاحتياطي. مما أظهر الطبقة التي تريد قلب البرجوازية صغيرة العدد، وهذا ما أنشأ الحلم بأن تحوّلها إلى أغلبية يفترض “الزيادة” في تطور الرأسمالية، وبالتالي “دعم تطور الرأسمالية”. وربما من هذا التصور نبعت فكرة التحالف السياسي من جهة، ودور الحزب الشيوعي “الصغير” فيه، بحيث يرضى بقيادة البرجوازية، من جهة أخرى. لكن ماركس، الذي ركّز على تطور الصناعة، وبالتالي كان يركّز على البروليتاريا الصناعية، لم يتجاهل أقسام الطبقة العاملة الأخرى، على العكس ففي الصراع السياسي كان يتناول دور الطبقة العاملة ككل، ويرى ضرورة تعاونها مع البرجوازية الصغيرة حسب كل وضع في الأمم الرأسمالية، التي كان يعتقد أنها تميل لأن تتحوّل الطبقة العاملة إلى أغلبية. ونتيجة ذلك كان يطرح ما هو ممكن في الواقع، فلم يطرح الثورة الاشتراكية في ألمانيا المفككة والمتخلفة صناعياً، وكان يعرف أن البروليتاريا عاجزة عن استلام السلطة في فرنسا خلال ثورة سنة 1848، وفهم لماذا سُحقت منذ البدء، وبات الصراع هو بين أحزاب ملاّك الأرض، وأحزاب رأسمالية المال، أي بين أحزاب تمثّل الماضي الاقطاعي وأخرى تمثّل البرجوازية الناشئة.
مع لينين تبدو الأمور أوضح. لينين الذي كان يتلمس وضع روسيا المتأخر صناعياً، التي كانت تُحكم من قبل قيصر يمثّل الإقطاع، وفي ظل ريف “قروسطي” هو أغلبية المجتمع الروسي، بعاداته والأيديولوجية التي تحكمه. لهذا لم يرَ البروليتاريا فقط، واعتبر أن ما هو مطروح هو “ثورة ديمقراطية” وليست اشتراكية، وأن نجاحها يعتمد على “كسب” الفلاحين جوهر الثورة الديمقراطية (والقوميات التي تريد حق تقرير المصير). لهذا طرح تصورين مهمين، الأول هو أن الحزب الشيوعي هو “حزب العمال والفلاحين الفقراء”، وبهذا فقد ضم الفلاحين الفقراء إلى البروليتاريا بعد أن تناول البروليتاريا، ليس كعمال صناعيين فقط بل كمجموع من ينشط في الإنتاج بـ”قوة عمله”. وكانت نسبة الفلاحين الفقراء كبيرة في روسيا. والثاني يتمثل في “كسب” الفلاحين المتوسطين وشل “تذبذب” البرجوازية الصغيرة.
أما علاقته بالأحزاب الأخرى، فقد ظل يشن الحرب الأيديولوجية ضدها، بما في ذلك المناشفة، فقد ظل يشنّ الحرب ضد أحزاب البرجوازية، ويرفض التحالف معها. أما المناشفة والأحزاب “الاشتراكية” (الاشتراكيون الثوريون) فقد شنّ كذلك حرباً أيديولوجية ضدها، لكنه كان ينسق في بعض اللحظات معها حينما يلمس أن هناك ضرورة تفرض ذلك. وهو ما فعله مع الجناح اليساري من الاشتراكيين الثوريين خلال ثورة أكتوبر.
بمعنى أن لينين ركّز على كسب “الطبقات الشعبية” التي تتوافق لتحقيق “المهمات الديمقراطية” كطبقات، مع التركيز على كشف الأحزاب التي تعبّر عنها، وتعرية مواقفها. فقط عند الضرورة كان يعقد معها “صفقة”.
هذه هي الخلفية التي حكمت منظور غرامشي. وكان وضع إيطاليا هو جزئياً رأسمالي كما الأمم الرأسمالية، وجزئياً (في الجنوب خاصة) فلاّحي. وبهذا فقد ركّز على تشكيل الكتلة التاريخية التي يمكن أن تسمح بانتصار الشيوعيين. وهنا كان يركّز على الطبقات “الشعبية”، ويعتقد بضرورة بناء نقابات واتحادات وهيئات ولجان تمثلها. ومنها يجب على الحزب الشيوعي “الكتلة التاريخية”، أي الكتلة الشعبية التي تتوافق مصالحها في تغيير النظام الرأسمالي القائم.
إذن، إن الفكرة التي طرحها غرامشي تعني أن الحزب الشيوعي يعمل على تشكيل تحالف طبقي “تحت هيمنته”، ولا تشير إلى أي تحالف سياسي، أو جبهة سياسية مع أحزاب تمثل البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة. الكتلة التاريخية هي تحالف طبقات “شعبية” عبر أشكال متعددة من الانتظام كما أشرت قبلاً، يلعب الحزب الشيوعي دوراً حاسماً في تشكيله، وقيادته. وهو تحالف يهدف إلى تحقيق مطالب مجمل هذه الطبقات عبر استلام السلطة.
الحزب الذي يعبّر عن البروليتاريا يستطيع أن يشكّل الكتلة التاريخية من الطبقات “الشعبية”، وهو لن ينتصر دون أن يحقق ذلك، لأنه بها يتحوّل إلى أكثرية، إلى قوة شعبية حقيقية، تفرض شروطها على الأحزاب الأخرى، وتستطيع الانتصار. هذا ما كان يفكّر به غرامشي، وما كان يحاوله، حتى وهو في السجن.