لم أهدِ عاشقين هدية توازي كتاب (في الحب و الحب العذري) لصادق جلال العظم، و هو الكتاب الأمثل للباحثين عن المعنى الحقيقي للحب، والساعين إلى تذوق حلاوته بعيداً عن العشاق الأغبياء الذين لا يعرفون منه إلا عذاباته، هو دعوة لاستبدال العذاب بالعذوبة، والكذب بالجرأة، هو كتاب يوازي في قيمته كتاب «طوق الحمامة في الألفة والألاف» لابن حزم الأندلسي.
لن أتحدث عن الكتاب خوفاً من إفساد متعة قراءته لمن أراد، وقد خسر من لم يرِد.
يعالج الكتاب ظاهرة الحب العذري عند عدد من الشعراء (مجانين الحب) الذين نشأنا على أنهم أساطير الحب في تاريخ العرب، وأثاروا إعجابنا بهذا الكم الهائل من المشاعر التي حملتها مشاعرهم، ليأتي صادق جلال العظم ويمزق هذا القناع العذري الزائف عن وجوههم اللئيمة، ويفضح حقيقتهم النرجسية المريضة والسادية غالباً، ليقول لنا باختصار: ليس ما فعلوه حباً.
سأتحدث عما حصل معي بسبب هذا الكتاب ومبدعه.
في السنة الثالثة في جامعة دمشق قسم اللغة العربية درسنا الأدب الأندلسي، ولسوء حظنا أن بعض من سُرِّحوا من سرايا الدفاع اختاروا مجال التعليم العالي، وكان هذا بتسوية مع رفعت الأسد الذي أراد أن يضمن مستقبل مؤيديه، وكان من حظنا أن اسم أحدهم علي دياب. لم يكن لعلي دياب هذا أن ينسى أنه ضابط اعتاد على إلقاء الأوامر على مرؤوسيه وعلى طاعتهم المطلقة، فهو العارف الخبير في كل شيء وعليهم أن يتعلموا وينهلوا من بحر معرفته العميق، وإذا أرادوا زيادة فما عليهم سوى أن يسألوا وهو بدوره لن يبخل عليهم بالجواب.
طلب منا علي دياب أن نكتب حلقة بحث، وعادةً كنا نقدم عنوان ما سنكتبه، وهذا ما فعله الطلاب، من جهتي اخترت أن أكتب حول العاشق ابن زيدون ومعشوقته ولادة بنت الخليفة المستكفي.
رويت للدكتور صادق جلال العظم ما حصل معي بسببه وبسبب كتابه عندما زرته مع أحد الأصدقاء لدعوته إلى ندوة في مخيم اليرموك، فقال لي: منيح ما حبسك بتهمة إضعاف الشعور القومي ووهن نفسية الأمة.
كنت حريصاً على أن أقوم بمناقشة بحثي أمام الطلاب، وخصوصاً أنني أعرف بما فيه من جديد وربما صادم، لأنني سأنهج فيه نهج الدكتور صادق جلال العظم في كتابه في الحب والحب العذري وسأكشف زيف هذا الحب الذي تمنته كل مراهقة، وبالتالي سأخلص إلى نتيجة أن هذه العاشقة الملكية ولادة ابنة الخليفة التي يحق لها ما يُحرَّم على غيرها من بنات المسلمين، ما هي إلا فتاة مدللة لعوب لعبتها المثيرة الإكثار من الذباب حولها، والتمتع برؤيتهم يتصارعون للفوز بوصالها، ولم يكن لديها مانع من منحهم بعض المتعة لتحفيزهم على الصراع، و إلهامهم شعرياً.
سمح لي علي دياب بمناقشة البحث أمام الطلاب، بالطبع لو اطَّلع عليها قبل ذلك لما سمح. يومها أوقفني قبل أن أنهي القراءة بطريقة توحي أنه لا يريد الطلاب أن يسمعوا ما أقول وقد فهم الطلاب ذلك، كان هادئاً في ظاهره، وتذرَّع بأنه يريد إعطاء الفرصة لطلاب آخرين ليناقشوا، وطلب من الطلاب أن يناقشوني في ما سمعوه، لم تكن استجابتهم كبيرة، وهذا أشعره بأنهم يفضِّلون أن يكون هو الحكم، سؤاله الأول كان من أين أنت؟ قلت له: أنا فلسطيني.
سألني: ما المراجع التي اعتمدتها في بحثك؟ قلت له مباشرة كتاب «في الحب و الحب العذري» للدكتور صادق جلال العظم.. بابتسامة غبية قال: أها أنت شيوعي من جماعة العظم!! هذا واضح… أنتم تريدون تدمير تاريخنا لأنكم أعداء العروبة و… أما أغرب ما قاله فكان: يا بني نحن في سورية نعتز برموزنا التاريخية ولا نسمح بالإساءة لها، فأحسست بأني عدو خارجي.
لم أستغرب كلامه ولكنني لم أقبله، فلم أتوقف عن دفاعي عن فكرتي، قلت له: أنا أتحدث عن عاشق وعاشقة وأرى الأمر بهذا الشكل، ولدينا من الرموز الكثيرين لكي نفتخر بهم ولكن ابن زيدون وولادة ليسا من بينهم.
كانت الفكرة التي أدافع عنها واضحة جداً عندي، ولذلك كنت أدافع عنها، ولم أقبل بالهزيمة.
وهو كان يريد أن يحسم المعركة، فقال لي: اسمع إذا لم تغير رأيك فلن تنجح في مادتي ما دمت موجوداً في جامعة دمشق! وهذا فعلاً ما حدث، فقد بقيت بعدها ثلاث سنوات أعيد مادته فأرسب حتى تدخل الحظ فذهب علي دياب معاراً إلى اليمن، وقدمت الامتحان عند الدكتورة هناء دويدري ونجحت بالمادة، ليعود فيجدني قد نجوت على أنقاض ابن زيدونه وولادته..
رويت للدكتور صادق جلال العظم ما حصل معي بسببه وبسبب كتابه عندما زرته مع أحد الأصدقاء لدعوته إلى ندوة في مخيم اليرموك، فقال لي: منيح ما حبسك بتهمة إضعاف الشعور القومي ووهن نفسية الأمة.
اليوم أدرك أكثر كيف يكون المفكر مؤثراً إلى هذه الدرجة، ولا سبب أكثر من وضوح فكرته في رأسه ومعرفته العميقة لدوره في مجتمعه وقدرته على الانتماء.
كان الدكتور صادق جلال العظم ينظر إلى الأمور من زاوية لم يجرؤ الكثيرون على النظر منها، فرأى بالتالي ما لم يره الآخرون.