ما زلت مسكوناً بفكرة أن علي أن أعتذر دائماً من جميع الذين عرفتهم خاصة في طفولتي، ولكن أي طفولة مع الفقر؟! وأي طفولة مع الحرمان من كل شيء، كنت أكره أصدقائي الذين يعيشون في كنف والديهم، أنا الذي لا أتذكر شيئاً من حنان الأب، صحيح أنني لم أشعر أبداً بحاجتي إلى وجود الأب في حال وجود أمي فاطمة الشمدين، ولكنني تساءلت أحياناً: لماذا ليس لي أب كأصدقائي؟! لطالما فكرت أن خط حياتي كله كان سيتغير، ليس بالضرورة إلى الأفضل، في حال لم يتركنا أبي ويرحل إلى عالمه الآخر!
كانت أمي في الحقيقة عالماً كاملاً.
بعض آباء أصدقائي ربما أدركوا هذا، وهنا أتذكر خالي أبو سليمان، هو ليس خالي تماماً، إنه ابن عم أمي، كان أبو سليمان كتلة من الطيبة والحنان، ليس فقط على ابنه قاسم الذي هو صديق طفولتي وشبابي وحصاري في المخيم. نعم، إلى جانب قاسم جلست في الصف الأول وظللت معه حتى نجحنا في الشهادة الثانوية، وافترقنا في الجامعة، هو درس علم النفس في جامعة دمشق، وأنا اخترت دراسة الأدب العربي في مدينة حمص، ثم عدنا واجتمعنا في جامعة دمشق، ثم التقينا في ثانوية اليرموك، هو كان مرشداً اجتماعياً نفسياً وأنا مدرس اللغة العربية، وحوصرنا سوية في المخيم.
خالي أبو سليمان هو الوحيد الذي كان وجوده يكفي لكي أكون آدمياً، وأنا الوحيد الذي كان يسمح لي باستعارة دراجته الهوائية التي كنت أشعر أنه يحبها ويدللها كابنة له وعليها تعلمت سياقة الدراجة، حتى قاسم كان يوسطني لكي يسمح له بركوبها، وهو الوحيد الذي كان يجعل من وجودي في بيته وقتاً للطعام، كان يقول لزوجته: حطي أكل يا بنت.
أحياناً تقول له: أكلتَ قبل ساعة!!! فيقول لها: طيب جعت من جديد.
هو الوحيد الذي كان يدافع عني عندما تقع مصيبة بسببي أو بيدي.
عندما ضاق بنا البيت في شارع المدارس وقد بدأنا نكبر نحن الأخوة السبعة في غرفة واحدة، فكرت أمي ببيعه وشراء أرض وقد كان أهالي يلدا قد بدؤوا ببيع أراضيهم المحاذية للمخيم، اشترت بسعره عشر قصبات (حوالي ثلاث مئة متر مربع) في بساتين يلدا التي تحولت فيما بعد إلى اسم حي التقدم، وبدأنا ببنائه غرفة غرفة، ومن حولنا بساتين يلدا المليئة بأشجار الزيتون، وهنا بدأت طفولة ثانية بعد العاشرة من عمري، وفي هذه الفترة عملت تجارة جديدة لم تكن شائعة، فقد ورثنا اعتقاداً أن دم “الحردون” (الضّب) أو “الحج حردون” كما كنا نسميه يمنع ألم عصا المدرس في المدرسة، ما علينا إلا أن نذبحه وندهن أيدينا بدمه ونتركه حتى يجف، وبعدها سنأكل العصي فلا نشعر بالألم، وأظن أن كل أولاد المخيم قد تلوثت أيديهم بدم حردون ولو لمرة واحدة، حسناً: بعض الأولاد الذين لم يكن بإمكانهم الوصول إلى بساتين يلدا، كنت أحضر لهم الحردون حياً وهم يقومون بذبحه ومسح أيديهم بدمه، مقابل نصف فرنك سوري لكل حردون، يا لها من تجارة رابحة!!
اشترط الفلاح اليلداني (عبده) الذي باع القصبات لأمي أن تبقى قناة الماء التي تشق البيت في منتصفه ليروي أرضه، فتركنا فتحتين في الجدار واحدة لدخول الماء وواحدة في الجدار المقابل لخروجه، وفي هذه الفترة بدأت علاقتي مصادفة بالكلاب، فقريباً من البيت وتحت شجرة زيتون ولدت إحدى الكلبات جراءها السبعة التي قررت أن أسرقها من أمها وأربيها بنفسي، وهذا ما حدث.
حين كنت في الصف الدراسي الخامس، كانت الأونروا توزع مادة الحليب والطعام على اللاجئين في المخيم، وهنا تبرعت بشكل صادم لأمي بأن تكلفني بمهمة إحضار الحليب كل يوم بعد أن كنا نتهرب من هذه المسؤولية، وهذه هي خطتي لتأمين الطعام للجراء الصغيرة، فأجعل نصف الحليب للبيت والنصف الثاني للجراء الصغيرة بعيداً عن عيون أمي، وظل الحال كذلك حتى كبرت جرائي وصارت كلاباً، نسيت أن أذكر أنني حرصت على أن تكون كلاباً قوية لاستخدامها في غزواتي على بساتين يلدا وأولاد الحارات الأخرى فيما بعد، وقد نجحت في تحويلها إلى كلاب مسعورة شريرة بحسب أوامري، ولست أدري إن كنت سأثير حفيظة أحد إن قلت إن شعوري بالسعادة كان غامراً عندما أرى كلابي تهاجم كلباً ساقه سوء حظه فتمزقه بأنيابه بتشجيع مني، أو تهاجم ولداً من أعدائي فتعضه وتؤذيه، لم يجرؤ أحد أن يمر قريباً من بيتنا، وفي هذه المرحلة أطلق علي البعض اسم “أبو الكلاب” والبعض اسم “طرزان” الذي كنت أقلِّده في لباسه وندائه لحيواناته، وعندما تماديت في غزواتي وازداد عدد الضحايا قرر متطوع وكان يعمل شرطياً، أن يطلق النار على كلابي وقتلها جميعاً.
لم يمر الأمر مرور الكرام ووجدت نفسي في موقف الثأر لكلابي، ولم يشفِ غليلي إلى اللحظة أنني حطمت كل زجاج نوافذ بيته بنقيفتي، كل يوم حجر واحد، ولكي لا يشك في الأمر طلبت من قاسم مرة أن يقوم بالمهمة حينما يخرج من بيته فيراني وأنا ألعب أمام بيته، عدا عن أن مثل هذه الاعتداءات كانت شائعة في هذه الفترة، وهو ذاته كان مكروهاً ومعرَّضاً لمثل هذه الهجمات.
وظللت على هذا إلى أن استبدل الزجاج ببلاستيك شفاف.