غزة ليست ساحة مهرجين، على الرغم من بروز نماذج غريبة لشخصيات في رؤيتها النرجسية لذاتها مع لمسة فكاهية، سواء على مستوى القادة؛ وقد وعد أحدهم بتحرير كامل تراب فلسطين بعد خمس سنوات، أو على مستوى الفن؛ كالمؤدي عادل المشوخي، والأمر ذاته على مستوى الإعلام والكوميديا.
وهذه النماذج لا تجعل منها على الإطلاق سيركاً مسلياً، بل هي ثمرات شرعية للحصار بعد أن وصل إلى مراحل بعيدة من تهميش المكان، والناس، والعقل، وهذه الثمرات تقابلها أخرى متميزة تماماً في الرسم والغناء والكتابة والإنجاز العلمي، لن أسردها لأنه سيكون محض دفاع مناطقي مقيت، وكليشيهات مكررة، نراها مئات المرات يومياً كعبارات: “إبداع رغم الحصار”، “محمد عساف قفز من السور، فأصبح نجماً”، “مَدرسة موسيقى على أنقاض الحرب”. فيصبح الإبداع في غزة، حالة استثنائية، بل على الدوام متناقضاً مع الأصل، فالحصار وعدم الإعمار والقمع من المفترض أن ينتجوا كل ما هو سيئ، لكن ما يحدث غير ذلك، إنه النموذج الذي نحب أن نقدمه عن غزة: غزة “السوبرمان”.
لذلك حين يظهر لنا هذا السيئ الذي يلده الحصار في مكانه ووقته الطبيعيّين، نتقزز منه، ونصنع منه نكتة، فغزة فوق كل شيء، مقدسة في مقاومتها وإبداعها وفنها. ولكن ببساطة هذا ليس صحيحاً.
إن النماذج المبتذلة الظاهرة مؤخراً في الإعلام والسياسة والفن هي النتاج الطبيعي لكل ما يحدث، لكننا لا نريد أن نرى هذه الحقيقة، حقيقة أنهم أبناء بيئتهم وزمنهم، صنيعة الحصار، تماماً كما كان عشرات المبدعين والمبدعات الذين وصلوا للعالمية في السينما والأدب والعلوم، والغناء.
إن غزة مكان كامل التعقيد، ولفهم الأمر بكليته يجب النظر إلى عشرة سنوات من الحصار في مساحة صغيرة، ضاقت على مليونَي إنسان يعيشون الخراب بكليته، بعد ثلاثة حروب، وتوقف الإعمار، وإغلاق المعابر، ومنع السفر، وعتمة إجبارية، وحزبية عالية تشعل فتيل اقتتال كل عدة سنوات.
مكان كهذا لا نتوقع منه سوى التطرف في كل شيء، في الإبداع واللاإبداع، كذلك في البحث عن الفرص للتطور، والعمل، وأحيانا تقدم هذه الفرص نماذج صارخة في المعارضة، والكوميديا، والتشدد الديني، واقتراف الجرائم، وغالباً الهوس في تقدير الذات.
وهذا لا بأس به حين نفهم التغيير السياسي الاجتماعي والنفسي الذي يحدث لهؤلاء الاثنين مليون تحت الحصار، فهم يشاهدون القنوات ذاتها، يذهبون إلى الأماكن ذاتها، يقرأون الكتب ذاتها، يرتادون المطاعم ذاتها، والشاطئ الوحيد ذاته، يحصلون على الدرجات الأكاديمية ذاتها في المواضيع ذاتها، يخوضون التجارب ذاتها، يظهر عليهم التدين ذاته، إنها عملية اجترار أبدية. ليس لديهم ما يفعلونه سوى هذه المدينة، لذلك فكل شيء متشابك إلى أبعد حد، كما أنه لا يوجد نكرات بغزة، فالكل يعرف شجرة عائلة الكل، المدن الكبيرة وحدها التي تحول الناس إلى نكرات، وأقصد أن هذه الحياة بما ينقصها من تجارب حقيقية ومختلفة، تجعل هناك نسبة تشابه كبيرة بين كل ما يحدث لمليونَي إنسان.
لذلك يصبح الاختلاف حاجة ضرورية، والشهرة سرعان ما تأخذ طريقها لمن يريد أن يكون مختلفاً في غزة، كما أن الناس هناك تحتاج إلى كل ما هو مختلف. لقد ملوا الجدية المطلقة في السياسة والمقاومة والدين، والشعارات التي حفظها الجميع، إنهم يحتاجون إلى شيء جديد.
بالضبط كما هبوا للتصويت لمحمد عساف، كانت هناك حاجة يائسة لفوزه، يريدون نجماً بالوكالة عنهم يلف العالم ويبهره باسمهم، فهم لا يسافرون، ولا يوجد ما هو جديد في مساحة 360 كم، سوى المطاعم التي تفتح بجانب بعضها البعض.
لذلك لا تستغرب إذا سجل الكوميديان الغزي رمزي حرزالله فيديو مباشر من القاهرة عن الأكل المصري مثلاً، أو تجربة السفر بالطائرة لأول مرة، وعبر عن صدمته بكل شيء جديد، لتلاحظ أن في كل ثانية خلال بث الفيديو أكثر من عشر تعليقات جديدة، تسأله وتضحك وتشاركه تجربته وقد تسبه… إنها الحاجة إلى التغيير.
كل هذا لا يجعل من حق أحد أن يعتبر غزة تلك مسرح مهرجين، أو يتعامل مع أهلها بخطاب “إنهم القرويون السذج”، دون فهم سياق الحياة غير الطبيعية التي يعيشها أهلها منذ عقد في انقطاع شبه دائم للكهرباء، غلاء أسعار، قمع أمني من قبل أجهزة أمن تقودها حركة حماس، حريات شخصية شبه معدومة، وحرب دورية كل بضعة سنوات.
هذه الحروب التي حولت غزة لوقت طويل إلى كعبة الإنسانية، فتجد فيها مختلف الجنسيات الأجنبية ممن يريد تطهير روحه، أو يبحث عن هدف لحياته أو مجرد التغيير، فقد بقيت غزة لزمن مديد، قبل اشتداد الأزمة السورية، مصنعاً للأخبار الذي إن لم يجد حرباً يغطيها، يكتب عن براءات الاختراع العالمية التي حصل عليها البعض أو الجوائز الأكاديمية، وأحياناً تتصدر أخبار القمع والانتهاكات الصحف العالمية، ومؤخراً كان اعتقال المشوخي.
عانت غزة كثيراً من نظرة التعاطف هذه، التي جعلت نظامنا السياسي بأكمله يقوم على الشحاذة، كذلك ساهمت هذه النظرة في التشويش على حقيقة استحقاق التميز الغزي في مختلف المجالات، ليبقى السؤال هل كنا أنداداً حقيقيين؟
نعم، حان الوقت للكف عن الترحيب بهذه النظرة، لكن ليس بديلها على الإطلاق السخرية، والتعامل مع معاناة غزة وأهلها باستخفاف، كالموجة العابرة التي شاهدناها مؤخراً، مع أن حق الجميع في التعبير مكفول، فغزة ليست مقدسة، وليس عليك أن تجرب معاناتنا ذاتها لتتعاطف أو تسخر أو تنكر.
وهنا أنا أتعالج من التعصب داخلي إزاء مدينتي كما يجب أن يفعل نخبتها، فهذه المدينة ليست خطاً أحمر على السخرية، أو النقد وحتى اللعن، طالما أردناها مدينة طبيعية، نحن لسنا حراساً عليها، حتى لو كنا وحدنا نفهمها، ونعاني أعراض الحنين القاسي إليها. أعتقد أننا يجب أن نختلف عمن ننتقدهم في الليل، والنهار، الذين يقمعون كل مظهر حيوي بحجة المقدس والمقاومة.
نحن أهل المدينة أول من يسخر من ظواهرها الغريبة، وشخصياتها، فإذا كنا نرى أنفسنا مستحقين للسخرية والنقد، لماذا نرفض أن يقوم غيرنا بذلك، إنه التعصب المعتاد الذي قد يوجد بأي منطقة أو قضية، كأن يقول أحد الأفارقة “أنا أستطيع قول زنجي، أما أنت فلا”.
إن الدوامة التي يعيش فيها المواطن داخل قطاع غزة لهي مرهقة إلى أبعد حد، فأن تعيش بين تفاصيل يومية تتعلق بحساب ساعات الكهرباء، واللدات (الإنارات البديلة)، وتشغيل المولّد، أو البطارية، والحرص في الوقت ذاته على إنجاز شغلك ومهامك المنزلية إزاء عائلتك والتواصل بالإنترنت، وفوق كل هذا يدك على قلبك تتساءل متى الحرب قادمة؟ ثم تراقب نفسك كي لا يفلت لسانك على الفيسبوك، فتجد جارك يوصل لك رسالة مفادها “انضب”، لهي أصعب مهمات العيش.
أنت تحاول الحياة في كل لحظة ضد العتمة والموت والقمع، وعدم السفر، أي دوامة هذه التي بالطبع ستنسى فيها الضفة والقدس وفلسطين وستدعها غصباً عنك لمن يحكمونك بالأمر الواقع، وتأتيهم الكهرباء 24 ساعة، ويحاربون عنك بالوكالة، ويعيّنون أنفسهم رجال الدين بالوكالة أيضاً، فأنت مشغول، لا وقت لديك، تركض في دوامتك اليومية كي تعيش… تعيش فقط بشكل عادي، لكن لا أحد يعيش هناك بشكل عادي!