لم تكن الحارة حارتها، كما لم يكن البيت بيتها، والأصوات المحيطة بها لم تعتد عليها قط، فوق كل هذا كان يلزمها أن تهبط طابقين وتصعدهما في كل مرة تخرج فيها من مقرها الجديد، لذلك طوال عامين ونصف، خرجت مرات قليلة جداً.
لم تكن تنام في أي من الغرفتين اللتين يحويهما هذا البيت، بل كانت تنام في الصالة، على مرتبتها القصيرة؛ أمامها تلفاز صغير، وفي الصيف هناك مروحة وفي الشتاء تكون المدفأة، وبجانبها سجادة الصلاة، تجاهد يومياً ضعف ساقيْها للوضوء، والصلاة عليها خمس مرات. وهناك “الطبلية” لا تفارقها فمن جانبها تُخرج البسكويت أو الفاكهة أو المكسرات لتقدمها لضيوفها.
هكذا كانت تعيش ستي طوال العامين والنصف، نادراً ما تكون سعيدة، على أمل أنها مرحلة مؤقتة، وتخيلوا معي؛ حين يتجاوز عمرك الخمسة وثمانين عاماً، وفي حضنك حقيبة أدوية كم يلزمك لتقتنع أن المؤقت ليس أبدياً..
كانت تنتظر بناء منزلها الذي دمرته قنابل الحرب الإسرائيلية في صيف 2014 بمخيم رفح بعد أن عاشت به أكثر من ستين عاماً.
لم تسكن ستي في حياتها بشقة “مكتومة” كما تصفها، على الرغم أن هذه الشقة لا تبعد عن موقع منزلها كثيراً، كما لم تبقَ يوماً فيها لوحدها، إلا أن منزلها “الهوا فيه برد الروح” كما تصفه.
كان الهواء بالفعل قوياً في “قاع الدار” ماراً بين شجر الياسمين والجوافة والزيتون يرد الروح كما تقول، لكن آخر يوم مر به هذا الهواء كان بعيداً جداً، فقد صغر ذاك البيت رويداً رويداً، ومع كل اجتياح وكل حرب كان ينقصه مرفق، أو يضيع منه جزء.
ولم تكن الخسارة بالحجارة، بمقدار خسارة الذاكرة في مسامها؛ أذكر في أوقات مثل هذه الأيام، حين كان المطر يملأ المنزل مفتوح السطح كما أغلب بيوت المخيم وقتها، وكان صوته قوياً على أسطح “الاسبست”؛ كنا نركض من غرفة إلى غرفة أو إلى الحمام أو إلى المطبخ كي لا تغرقنا المياه، نشعل المدفأة، ونسخن الخبز، ونضحك.
فكيف تتذكر هي المنزل الذي بناه جدي وعاش وتوفي فيه، وأطفالهما الكُثر الذين شبوا هناك؟، كم شتاء مر عليها؟، وكم صيف؟، وكم مشهد؟، خاصة إنها لا تنسى شيئاً.
ليس البيت وحده الذي تقلص تدريجياً، بل نظر ستي أيضاًَ، الشتلات الصغيرة التي كانت تضعها قريبة منها؛ هنا وهناك لم تعد تراها لتسقيها. أصبحت تتحسس كل شيء، لكن دوماً كان عندها أمل أنها سترى أفضل من ذي قبل، لذلك كانت معظم رحلاتها إلى مدينة غزة لرؤية طبيب العيون أو إجراء عملية في مركز طبي جديد، وغالبا ما كنا نلحقها إلى هناك، وسؤالنا بعد كل علاج أو عملية ” شايفتنا منيح يا ستي؟”، ودائما ما كان ردها “آه يا ستي”، لكن الحقيقة أنها لم تعد ترانا أبداً كما كانت ترانا من قبل. كذلك لم يعد منزلها أبدا كما كان قبل اجتياح 2003.
ستي، واسمها زكية، انتهى بها الأمر منذ ذلك العام أن تعيش بغرفة واحدة بعد أن راح الزرع والمطبخ والحمام و”قاع الدار”، لكنها أصرت ألا تترك المكان، عاشت 11 عاماً منذ اجتياح رفح في هذه الغرفة، وقد بُني لها حمام صغير ملتصق بها.
لم تتآكل ذاكرتي حين كنا ننام عندها في تلك الغرفة اليتيمة، كأن كل البيت موجود، بالضبط كما يشعر من بُتر طرفه بأنه لا يزال هناك، وكنت استيقظ على هديل الحمام عند الشباك ذاته.
ستي أيضاً لم يتغير عليها شيء حينها، نعم بقية المنزل وذكرياته وجدي يأخذ جزءاً كبيراً من أحاديثنا، لكن السعادة لم تخفت يوماً، كنا أحياناً ننام جميعاً في الغرفة؛ أنا ووالدتي وخالاتي وبعض من أخواتي؛ نضحك ونأكل ونشاهد المسلسلات، ونغضب إذا أيقظنا بكاء رضيع ما.. لكن الحرب الأخيرة لم تترك لنا شيئاً..حتى هديل الحمام ضل نافذته.
في الأسبوع الأخير من ديسمبر المنصرم، اكتمل بناء المنزل وانتقلت إليه ستي، ليس هو ذات البيت، لكن الحارة ذاتها، الموقع ذاته، الأمتار القليلة ذاتها، يبدو مغلقاً، ليس به شجرة واحدة، راح الهوا، وصورة جدي، ومروحة السقف، لكن الأرواح تسكن الأرض.
طلبتُ من والدتي أن ترسل لي صوراً لستي في منزلها الجديد، تبدو سعيدة، بل هي سعيدة جداً. لقد انتظرت طويلاً كي يتم بناء هذا المنزل الذي لا يتجاوز 55 متراً، وسط صعاب كبيرة لن أذكرها الآن، لأنها مجرد نزف ألم يومي تعاني منه أكثر من عشرين ألف أسرة دمرت منازلها في الحرب، ولا تزال تنتظر البناء.
وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” هي الجهة التي أعادت بناء منزل ستي.
انتظرنا كثيراً كي ترتاح هذه المرأة، لم يقل أحد أنها بلغت من العمر عتياً، لماذا تريد بيتاً جديداً؟، مع أن هذه الفكرة اعتملت في بعض القلوب المريضة، لكن ستي كلها حياة، كلها أمل، أكثر من جيلنا الذي احترف اليأس.
حين سافرنا مؤخراً عنها بسبب هذا اليأس، ودّعتنا ببكاء حار، كأنها آخر مرة، تريد رؤيتنا جميعاً يومياً، لا تمل من أحفادها وأبنائها، تحدثنا بالهاتف، وتسأل عن كل شيء، كأنها تريد القول ” قد تعطب البلاد، لكن القلوب لا تعطب”.
حين انتقلت من الشقة إلى منزلها الجديد أصرت على حمل وسادتها ومرتبتها معها، وبالطبع مدفأتها وتلفزيونها، إنها أشياؤها الصغيرة التي تُشعرها بألفة أيامها، لم يقبل أحد، قالوا لها “بيتك الجديد فيه كل شيء جديد”، لكنها أصرت ونقلتهم، ربما غاب عنهم أن هذه الأغراض القليلة هي وطنها المتنقل الذي ظل معها بعد كل اجتياح وحرب، فأحيانا في الأقمشة والرائحة تعتمل الذاكرة، فالأماكن حين تغادرنا، لا تعود أبدا.