الماركسية باتت ماركسيات حتى في المنظور المنهجي، حيث جرى تخطي الجدل والإغراق في المادية، وتخطي الأيديولوجية والدولة والسياسة والإغراق في الاقتصاد. وهو الأمر الذي أعاد الماركسية إلى الوراء بإعادة إنتاج المنطق الصوري كمنهجية تحكم نظرها إلى الواقع. وبهذا بات الواقع “موجوداً بالقوة” قبل أن يوجد بالفعل، حيث أنه مصاغ ذهنياً في قوانين محدَّدة تصبح هي مجال القياس، ليُقاس بها، أو يُفهم من خلالها.
هذا ما حكم “الماركسية السوفيتية”، وبالأساس الستالينية، لكنه حكم الماركسية الغربية كذلك، وإن بشكل مختلف قليلاً عما ساد تلك الماركسية. وإذا كان ساد في الماركسية السوفيتية تحت ثلاثة عناوين هي: المادية الديالكتيكية، المادية التاريخية، والاقتصاد السياسي، فقد ساد في الماركسية الغربية تحت عنوان: المادية التاريخية. وإذا كانت الماركسية السوفيتية تفكك العلاقة بين المادية الجدلية والمادية التاريخية والاقتصاد السياسي ليجعل لكل منها حقلاً خاصاً منفصلاً عن الحقلين الآخرين، وبالتالي يفكك البحث في الواقع بين الاقتصاد الراهن والتاريخ متجاهلاً المادية الجدلية، فإن الماركسية الغربية تركّز على الجانب “المادي” في فكر ماركس. فقد أفضى موت ستالين إلى ميل لدى تيار “ارتدّ” عما كانت تكرره الماركسية السوفيتية، ليعود إلى نصوص ماركس معتبراً أنها تقدم “البديل المنهجي” الذي يُخرج الماركسية من “أزمتها”. وكما جرت العودة إلى مفهوم ماركس حول النمط الآسيوي للإنتاج جرت العودة إلى نص في مقدمة كتاب ماركس “اسهام في نقد الاقتصاد السياسي” بحيث أصبح هو المفتاح الأساس لفهم الواقع والتاريخ.
والفكرة التي تجري العودة إليها تقول “تقوم بين الناس، في الإنتاج الاجتماعي لحياتهم، صلات معينة ضرورية مستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تقابل درجة معينة من درجات نمو قواهم الإنتاجية المادية، ويؤلف مجموع هذه العلاقات الإنتاجية البنية الاقتصادية للمجتمع، وهي القاعدة المشخصة التي تقوم فوقها بنية فوقية حقوقية وسياسية، والتي تقابلها أشكال معينة من الوعي الاجتماعي”. ولأنه ليس وعي الناس هو الذي يحدِّد وجودهم بل أن وجودهم هو الذي يحدِّد وعيهم كما يكمل ماركس، أصبح هذا النص هو مفتاح فهم التاريخ، بحيث يتمركز البحث بالأساس على الاقتصاد والبنى المجتمعية. وضمن ذلك أصبح نمط الإنتاج فكرة محورية في البحث على ضوء ذاك. وبهذا بات كل بحث في التاريخ يتمركز حول الاقتصاد وعلاقات الإنتاج، ويُستتبع بمستوى الوعي وشكل الدولة “المطابق”. وفي هذا المجال أصبح البحث اقتصادوياً، أو “مادياً” بالمعنى الوارد في نص ماركس، أي يتعلق بالبحث في الاقتصاد ونمط الإنتاج التي يتشكّل في كل مرحلة من مراحل التطور التاريخي.
هذا المنطق النصي فرض اعتبار كل ملاحظات وأفكار ماركس حول أنماط الإنتاج صحيحة، حيث تجري استعادتها في البحث التاريخي، ويمكن أن يكون الهدف هو التوسعة في بحثها فقط. وكانت العودة إلى مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي مدرجة في هذا المسار، كما المشاعة والرق والإقطاع. بمعنى أن هذه التحديدات التي تكررت لدى ماركس باتت “حقيقة علمية” تُعتبر بديهية حين البحث في التاريخ. رغم أنها كانت تحديدات أولية لدى ماركس كان الهدف منها هو التأشير لوجود أنماط إنتاج متعاقبة، وأن التاريخ يتطور في أنماط إنتاج تتحدد من خلال دراسة الاقتصاد والبنية المجتمعية، أي البنية التحتية، ومن ثم البنية الفوقية التي تقوم عليها. ولا شك في أن تحويل هذه الفكرة إلى “قانون حاكم”، أو إلى منهجية تحليل، وعزلها عن مجمل المنهجية الماركسية، سوف يفقدها أهميتها الحاسمة، حيث أنها كانت مفصل تحديد مادية الجدل. وهنا تقبع قيمتها، حيث فرضت إيقاف هيغل على قدمية، لأنها بالضبط جعلت الواقع هو الذي يحدد الوعي وليس العكس. إنها وحدها سوف تتحوّل إلى “قانون حاكم”، وتصبح “مسطرة”، سواء لقياس الواقع بها، أو لرؤية الواقع على أساسها. وبهذا يكون الواقع قائماً في الذهن أولاً، ويكون هو محدِّد الواقع. بمعنى يعاد ماركس هذه المرة واقفاً على رأسه، باعتبار أن الفكرة هي التي تحدِّد الواقع. أو أنها هي التي يصاغ الواقع وفقها. وهنا يصبح واقعاً متخيلاً، أو كاريكاتوراً لواقع موجود في الذهن مسبقاً. هذا الأمر هو الذي جعل الماركسية الغربية تلك تعتنق أفكار ماركس حول أنماط الإنتاج التي ذكرها كحقائق، رغم أنه كررها دون أن يدرس التاريخ جيداً، نتيجة انشغاله بالرأسمالية، وأيضاً نتيجة ضعف المصادر حينذاك.
لا شك في صحة فكرة ماركس، وهي مفصل أفضى إلى نشوء منظور جديد، لكن هنا لا بد من العودة إلى إنجلز لفهم معنى هذا الأمر. ففي كتابه “الاشتراكية: الطوبا والعلم” يوضّح بشكل جلي كيف أوقف ماركس هيغل على قدميه، من خلال الربط بين جدل هيغل ومادية فورباخ، والمادية الفرنسية عموماً، ومن ثم الاقتصاد السياسي الإنجليزي. ليقول أن الجدل بات مادياً حين توصّل ماركس إلى هذه الفكرة بالتحديد، حيث بات يعتبر أن وجود الناس الاجتماعي هو الذي يحدِّد وعيهم، وأن البنية التحتية هي التي تحدِّد البنية الفوقية. لكن “إن أسلوب إنتاج الحياة المادية يشرط سلسلة أفاعيل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية بصورة عامة”. ولا يمكن فهم هذه الأفاعيل إلا كصيرورة يسكنها الجدل. بالتالي ليست البنية الفوقية انعكاساً ميكانيكياً للبنية التحتية، وإلا سقط الجدل. فـ “عند استعمال المنهج النظري أيضاً يجب أن يبقى، الموضوع، المجتمع، ماثلاً دوماً أمام الذهن كنقطة انطلاق أولى”.
إن خطيئة الماركسية الغربية تتمثّل في فصلها المادية عن الديالكتيك، وتشكيل المادية كمنظور مستقل. وهي هنا تستعيد “مثالية” المادية الفرنسية القديمة، أي تعيد الماركسية خطوة إلى الوراء بعد أن كان ماركس قد تجاوزها عبر جدل هيغل. وهي هنا تجرّد ماركس من كل “هيغلية”، لتلبسه ثوباً “علمياً صارماً” جوهره اقتصادي، أو أوسع قليلاً حيث تصبح الماركسية هي “علم التاريخ”، رغم أنها “علم المستقبل” بالضبط، لأن فهمها للتاريخ مهمته معرفة الواقع القائم لتأسيس الطريق إلى المستقبل. فهي علم المجتمع في منحاه التجاوزي، في مساره التقدمي، أي في صيرورته. ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا عبر فهم المستويات الأخرى، أي الوعي والسياسة، حيث لا يتحقق التغيير إلا عبرهما. فقد أصبحت الاشتراكية “علمية” فقط حينما تبلور الجدل المادي من طرف، ونشأت الطبقة العاملة من طرف آخر. حيث بات ممكناً الوصول إليها. وهنا تقوم الماركسية من خلال الجدل المادي بصياغة “الأيديولوجية المعبرة عن الطبقة العاملة في واقعها القائم.
ولا شك في أن إسقاط الجدل فرض فهماً سكونياً للواقع والتاريخ، وفرض كذلك منحىً نصياً يتعلق بما قال ماركس. فلا تطور الاقتصاد يمكن أن يُفهم دون المنظور الجدلي، ولا صراع الطبقات، والوعي والدولة. وأيضاً لا يمكن أن تُفهم الصيرورة دون فهم التفاعل بين هذه المستويات وتأثير الواحد على الآخر. فالحركة هي المطلق الوحيد كما تشير الماركسية، والحركة جدلية في طابعها، وهي تتعلق بالمستويات كلها وبالتفاعل فيما بينها. فالتاريخ كما هو تناقضي هو جدلي كذلك.
إذن، إن المادية التاريخية كمنظور هيمن على الماركسية الغربية، وإنْ كان يقدّم نظرات صائبة في التحليل الاقتصادي وفهم الطبقات، إلا أنه يتراجع عن جدلية الفهم الماركسي لمصلحة سكونية من جهة، وصورية من جهة أخرى. بالضبط لأنه يقيس التاريخ على “قوانين” المادية التاريخية التي اخترعها هو بعد عزل الديالكتيك. ولهذا لم يقدّم منظرو الماركسية الغربية بحثاً مهماً في التاريخ العالمي، بل جرى تكرار تصورات ماركس الأولية، والخاطئة في أكثر من موقع. ويمكن القول أنها ظلت “تنسج على منوال” ماركس، ظلت تكرر تصورات ماركس التي كانت بحاجة، من منظور مادي جدلي، إلى النقد. بالضبط لأنها لم تُبنَ على معرفة عميقة بالتاريخ السابق، وخصوصاً التاريخ غير الأوروبي. ولقد أشرت إلى سبب ذلك قبلاً.
إن الانطلاق من أن الأساس الاقتصادي هو العنصر الجوهري، وأن الواقع هو المحدِّد، أمر حاسم في الماركسية، لكن فقط ضمن المنهجية ذاتها، التي هي الجدل المادي. وبهذا يمكن القول أن الجدل المادي يؤسس منظوراً مادياً للتاريخ، وليس مادية تاريخية. وهو منظور يفرض البحث مجدَّداً بالتاريخ اعتماداً على التراكم الهائل للمعلومات من أجل صياغة تصور حول ارتقاء المجتمعات البشرية. هنا يفرض البحث العودة إلى المعلومات وليس إلى تصورات ماركس حول التاريخ، أو مراحل أنماط الإنتاج التي تكررت لديه، لأن ذلك هو الذي يفرض صياغة أفضل لارتقاء المجتمعات البشرية، تنطلق من معلومات حقيقية.
الأمر يتعلق بالعودة إلى الجدل المادي بدل المادية التاريخية. فالجدل المادي كمنهج نظري يفرض الانطلاق من الاقتصاد والطبقات، ويؤسس لفهم صيرورة التراكم في كل نمط، هذا التراكم الذي يفرض الانتقال إلى آخر. لكنه لا يسير في مسار خطي اقتصادي، أو طبقي، فقط، بل يدرس التفاعل بين المستويات كلها لكي يكشف صيرورة التطور ككل. هنا يكون الجدل المادي هو المنظور الذي يجب أن يُدرس التاريخ عبره.