يسار مناهض للشعب

للفلسطيني أسامة دياب

سلامة كيلة

كاتب ومفكر من فلسطين

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

23/04/2017

تصوير: اسماء الغول

سلامة كيلة

كاتب ومفكر من فلسطين

سلامة كيلة

ولد في مدينة بيرزيت في فلسطين سنة 1955. كتب ويكتب في العديد من الصحف والمجلات وأصدر العديد من الكتب التي تتناول بشكل أساسي الماركسيّة. عمل في المقاومة الفلسطينية ثم في اليسار العربي ، ولازال ينشط من أجل العمل الماركسي العربي. مطلوب للسلطات الإسرائيلية بتهمة العمل المقاوم. اعتقلته السلطات السورية بعهد حافظ الأسد من سنة 1992 إلى 2000، واعتقلته السلطات السورية بعهد بشار الأسد لمشاركته في الثورة صيف 2012 وتعرض للتعذيب في المخابرات الجوية، ثم تم ترحيله من سوريا إلى الأردن.

بعد صمت طويل، وحماس كبير لنجاح دونالد ترامب الذي بات يبدو أنه صديق، علا صوت اليسار الممانع بعد القصف الأميركي الذي تعرضت له قاعدة الشعيرات الجوية، وأخذت البيانات تنهال علينا من هنا وهناك ضد “الاعتداء الأميركي السافر”، وضد “الهجمة الإمبريالية الأميركية الجديدة”، التي طالت “السيادة الوطنية للدولة السورية”. لقد أفاق كل هؤلاء على ترامب آخر، غير ذلك الرفيق الذي صنعه الرفيق بوتين، ونجح لكي يكون حليفاً في محور الممانعة “المناهض للإمبريالية” (طبعاً الإمبريالية الأميركية كما كان يقال، رغم أن الأمر بات يفرض التعمية بشطب كلمة أميركية). ترامب الإمبريالي الأميركي، الذي يسعى للسيطرة والاحتلال، ولا يمانع في القتل والتدمير، وتفكيك “الشرق الأوسط”.

طبعاً حدث كل ذلك فقط حينما قصفت الصواريخ الأميركية قاعدة عسكرية للنظام السوري. فقط في هذه اللحظة دبّ النواح والنحيب، والصراخ، ضد الإمبريالية الأميركية. رغم أن الضربة الأميركية كانت أقرب إلى التنبيه منها إلى التدخل العسكري المباشر، وأتت في لحظة إحراج لم يحتملها ترامب “الحليف”. ربما نتج ذلك عن خطأ في حسابات النظام السوري وإيران، أو حتى الروس الذين كانوا في حاجة إلى إظهار تماديهم من أجل إقناع ترامب أنهم المقرِّر في سورية (وربما في العالم) وعليه اللحاق بهم.

في كل الأحوال، إنهالت البيانات المنددة بـ “الاعتداء الأميركي السافر” على “السيادة الوطنية للدولة السورية”، ونشط اليسار الممانع لكي يعلن تضامنه مع “الدولة السورية” ضد هذا العدوان الإمبريالي البشع. ليظهر أن هذا اليسار أفاق من موته بعد أن مُسّت “السيادة الوطنية” التي تمثلت بقصف أميركي على قاعدة عسكرية للنظام السوري. هذا اليسار ينهض من موته معلياً الصوت كلما احتكت الإمبريالية الأميركية بدولة ممانعة، وغير ذلك يبقى في سبات طويل، لكأن ما يعيد له الحياة هو اللحظة التي تفرض استعادة خطاب “معاداة الإمبريالية” فقط. أما غير ذلك فهو يرقد في سرير الجريمة، وينظِّر للهمجية.

لا شك في أن أميركا تتدخل عبر هذا القصف، لكنها تتدخل في سورية على الأقل منذ سنة 2014، ولديها قوات على الأرض وتقصف في أكثر من منطقة، وتسلح وتدعم “قوات سورية الديمقراطية”، ولقد ارتكبت العديد من المجازر، في الفترة الأخيرة فقط، في إدلب ودير الزور والرقة والطبقة، حيث قتلت مواطنين، وهي تقول أنها تخوض “الحرب ضد داعش”. ما يؤخذ من كل ذلك هو أن أميركا تسلّح “المعارضة السورية”، بحيث يصبح ذلك مجال إدانة لهذه المعارضة، رغم أن التسليح هو لحزب كردي يتخذ هذا اليسار موقفاً إيجابياً منه، بل يعتبر أنه حليف موثوق. وهكذا يفعل معظم اليسار العالمي في تعبير عن حالة فصام مزمنة.

لماذا لا يدين اليسار الممانع التدخل العسكري الأميركي في الجزيرة السورية، ولا قصفه للعديد من المناطق في الشمال السوري، ولا حتى المجازر التي ارتكبها ضد أفراد من الشعب السوري؟ لماذا أفاق الآن فقط، حين مسّ التدخل الأميركي قاعدة للنظام، وهي قاعدة تخرج منها الطائرات التي تقتل الشعب السوري، ومنها خرجت الطائرة التي قصفت خان شيخون بغاز السارين؟ المسألة هنا تتمثل في، إما إدانة كل التدخل الأميركي، وكل الجرائم التي ارتكبها، أو السكوت. لكن لا بدّ من أن نلاحظ أن السكوت يكون حينما يمارس الطيران الأميركي إبادة الشعب، بينما يُعلى الصوت حينما يمسّ النظام. كأنه مسموح لأميركا قتل الشعب السوري بحجة قتال داعش، وغير مسموح لها المسّ بالنظام. مسموح لها التدخل ضد الشعب السوري بحجة محاربة داعش وليس مسموحاً لها أن تقترب من “نظام الممانعة”.

قتْل الشعب السوري مسموح إذن، و لا شك في أن النظام وإيران بكل قواتها وروسيا، تقوم بهذه المهمة دون ملاحظة أو همس. وما يجب الدفاع عنه هو “النظام الممانع”، ويجب إدانة كل من يمسه حتى وإن كان لغرض تكتيكي. هذا المنظور هو الذي أخذ ينتج “نظريات” مريعة، وأفكار تبرِّر ذلك، وتحلل قتل الشعب السوري. فـ “النظام وطني والشعب عميل”، ولا شك في أن ذلك يبرر قتل الشعب، حتى من قبل الدولة (أميركا) التي يجري الإدعاء أنه عميل لها. وهو “عميل” بالضبط لأنه ثار ضد “النظام الوطني”. لهذا يستثار هذا “اليسار” حين يُمسّ النظام ولا يستثار حين يباد الشعب، بغض النظر عمن يبيده، حيث يُقبل ذلك من الإمبريالية الأميركية.

بهذا يظهر منطق “اليسار” كمنطق متهافت، يغلّب “الدولة” على الشعب، ويعتقد بوطنية دولة وخيانة شعب تحكمه. هذا المنظور المغرق في مثاليته إلى الحدّ الذي  يصل إلى الدفاع عن الجرائم والمجرمين تحت وهم قدسية “الدولة الوطنية”. فالدولة مقدسة بعكس شعبها، الذي يمكن له أن يكون خائناً، ويكون من حقها كـ “دولة وطنية” أن تمارس كل أشكال الإبادة ضده، فهو يستحق القتل والإبادة بالضبط لأنه “خائن”. لكن أليست الدولة هي منتوج “شعبها”؟ وهل يمكن أن توجد دولة بدون شعب؟ 

هذا المنظور المستشري لدى “اليسار الممانع” (الذي هو ليس مثل أي يسار، بالضبط لأنه في أقصى اليمين) يصبّ في “الفكرة العبقرية” التي عبّرت عن جوهر النظام، التي تقول “الأسد أو لا أحد”، “الأسد أو نحرق البلد”. وهذا اليسار يعطي التبرير “الوطني” لهذه الفكرة التي عبّرت عن مدى وحشية النظام، وبالأساس طبيعة نظرته لسورية كونها ملك شخصي لـ “عائلة الأسد”، توارثها بشار عن حافظ، ويعدّ حافظ الصغير لكي يستلمها بعده. أي أن في قاعها منظور بطريركي قروسطي، يقوم على ملكية الإقطاعي للأرض والشعب معاً، الشعب الذي من حقه تعذيبه وقتله. بالتالي تصبح “الوطنية” هي الغطاء لهذا المنظور الإقطاعي القروسطي، والتبرير “الحديث” له. فالمنظور القروسطي الذي يعاقب الشعب لأنه تمرَّد على “مالكه” يتحوّل في الآلة “اليسارية” إلى سياسة “وطنية”. ومن ثم تصبح “السياسة الوطنية” هي الغطاء لممارسة كل وحشية القرون الوسطى ضد الشعب الذي قرَّر أن يتمرّد على “مالكه”. فـ “الوطنية” تظهر، نتيجة ذلك، فقط حين تعرُّض الإمبريالية الأميركية للنظام، وليس من وطنية حين تمارس هذه الإمبريالية ذاتها كل وحشيتها ضد الشعب، وتعمل على إنهاك ثورته.

هنا، في هذا المنظور “اليساري”، الشعب لا وجود له، والدولة تصبح هي السلطة، التي تُختصر بـ “الرئيس”. لتصبح “الوطنية” هي التعدي على السلطة، ولتُختصر “السيادة الوطنية” في حدود السلطة ذاتها، دون المجتمع. 

في كل الأحوال يدافع هذا “اليسار” عن نظام وحشي، ويقبل منه قتل الشعب الذي من المفترض أنه يحكمه. فالقتل هنا مبرَّر بـ “الوطنية”، “وطنية النظام” بالتحديد. لكن يعي هذا “اليسار” (أو لا يعي) أن في ذلك سقوط أخلاقي، فليس من مبرِّر لقتل الأطفال والنساء والشباب، قتل الشعب وتهجيره، مهما كانت الأسباب. فالشعب هو أساس البنية المجتمعية، وليس من دولة بدون شعب. هذا “الوعي” (أو اللاوعي) بالجريمة التي يمارسها تحت حجة “الوطنية” تدفعه إلى التغطية بزيادة جرعة “الوطنية” بين الحين والآخر، حيث يحتاج إلى خطاب عالي النبرة ضد الإمبريالية، ولهذا ينتظر أي مبرِّر لإطلاق هذا الخطاب “المسجّل على كاسيت” منذ عقود طويله. هذا ما وفرته الضربة الصاروخية الأميركية، لأنها “اعتداء مباشر” على النظام. وهي “التأكيد” على أن النظام “وطني”. وأنه معرَّض لـ “مؤامرة” إمبريالية (ومصطلح الإمبريالية بات يخصّ أميركا فقط، فليس من إمبريالية غيرها، بل هناك أتباع لها أو يميلون الى الاستقلال عنها!). هذا هو سبب كل هذا الدفق من البيانات التي تدين “الاعتداء الأميركي السافر على سورية”، طبعاً “على سورية”، فهي “سورية الأسد”، ولقد جرى تكثيف سورية بالنظام، وبالأسد.

بالتالي إن كل هذه البيانات التي جرى إمطارنا بها، والتي تدين الهجمة الإمبريالية على “الشقيقة سورية” هي للتغطية على موقف ليس خاطئ أيديولوجياً وسياسياً فقط، بل مدان أخلاقياً، موقف: دعم نظام مجرم، وتبرير كل سياساته. هذه هي “ورقة التوت” التي تغطي على موقف منحط أخلاقياً، حيث يعمل على مسح كل هذه القذارة ببيان يدين “الاعتداء الأميركي”، لتأكيد أن الأمر يتعلق حتماً بـ “المسألة الوطنية”، هذه المسألة التي يجري الاعتقاد أنها تمسح كل هذه القاذورات. لم يُدن هؤلاء قتل الشعب السوري من قبل الطيران الأميركي (وأيضاً لا نريد أن نشير إلى كل القتل الذي يتعرَّض له الشعب من الطيران الروسي والقوى الإيرانية وقوات النظام)، لأن “الحفاظ على النظام الوطني” يقتضي ذلك، وأدانوا القصف الأميركي لقاعدة جوية تابعة للنظام، لأن ذلك يهدد استقرار النظام. لديهم، يكون قتل الشعب السوري من كل الأطراف مسموحاً به بينما يُمنع المساس بالنظام، بالنظام فقط.

هل من خساسة أكثر من ذلك؟ “يسار” خسيس، باسم الوطنية يقبل بتدمير الوطن وقتل الشعب، المهم “استمرار النظام الوطني”. والمهم أن يتلطى وراء بيانات نارية “ضد الإمبريالية” لكي “يبلع” كل ما يقوم به النظام وكل حلفائه. “الوطنية” هنا هي تبرير لوحشية كامنة في بنية هذا “اليسار”، “اليسار الممانع”. وتغطية على انحدار أخلاقي مريع.

الكاتب: سلامة كيلة

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع