إذا اعتقدتم أنكم بالضغط والتهديد ستنتصرون على حماس، فهذا وهم، لا أحد ينتصر على معارضة وُجدت كي تعاند، وتقاوم أقسى الظروف والتحديات، إن حماس لا تتحلل بالضغوط بل بالتصالح والانفتاح، لقد وُجدت في فلسطين لتعيش الأزمة وليس الانفراجة، إن أدبياتها وحكاياتها ونصوصها بُنيت على الضيق وليس على الوسع.
كل محاضرة ودرس وتدريب تلقاه أحد المنتمين لحماس، لم يكن تدريباً ليدخل قصراً أو يحكم من على كرسي بل ليعيش بسرداب ويحتمل الهوان، لذلك فما تفعلونه هو استدعاء كل ما تعلمته الحركة منذ بداياتها كي تقاوم الآن وتكون على أوج الاستعداد، فتكون حماس هي حماس كما لم تكن طوال عشر أعوام في السلطة.
حتى في أوقات الحروب، فقد كانت تواجه عدوها المعتاد الذي يوقظ حب الجماهير لها، ولكن هذه المرة هي تواجه “عدواً” غير معتاد ويشبهها، وهو ما يُعتبر أصعب، فلا حباً للجماهير ستناله ولا بركة من الدول المحيطة، إنها تواجه محمود عباس والمتحالفين معه، وبذلك تعود إلى موقعها الأصلي كمعارضة سياسية محلية، وأنتم هنا تضعونها بخانتها الصحيحة، لذلك لا خوف عليها، بل الخوف على الجماهير التي تقع تحت إداراتها. فلن يحدث شيء، لن تتغير حماس، من سيتغير هو نحن، الشعب الذي تحت حكمها، فنحن نكبر وتشيب رؤوسنا، وتضمحل أحلامنا، والوقت يتسرب من بين أيدينا أثناء الانتظار كي تتخلى حماس عن غزة، وكيف ستفعل ذلك، وقد حولتها لجهنم الرعية وجنة الراعي، إنها الأرض الوحيدة التي بقي يحكمها الإخوان المسلمون، لأنهم يملكونها بقوة الأمن وليس الانتخابات فقط.
هذه الانتخابات التي انتهت شرعيتها، لم يكن أصعب ما مر علينا بعدها في عقد من الزمن؛ أن العالم رفض الاعتراف بفوز حماس المستحق في انتخابات السلطة الوطنية الفلسطينية ـ نتاج اتفاقية أوسلو مع العدو الإسرائيلي الذي طالما احتقرتها وخونتها حماس ـ بل أصعب شيء هو عدم تصديقها هي ذاتها هذا الفوز، فلم تصبح بخطابها وسلوكها حكومة الكل الفلسطيني الواحد على الإطلاق، كما لم تتوقف عن لعن أوسلو، كأنها في حالة إنكار أنها أعطتها الحكم ومقاليده في غزة والضفة.
لقد بقيت حماس حركة الجزء، وأصرت على حمل خطاب المعارضة، والخطاب الحركي الاسلاموي، ولم تعترف يوماً بالشعب ككل، فقد بقيت راعية لأبنائها وبناتها ومؤسساتها قبل الحرب، وأثناءها، وبعدها، وهنا الخطيئة الفادحة التي ستقوضها يوماً، وأيضاً هنا مصدر ثباتها الحالي، لأنها بهذا الخطاب المتعنت تحافظ على قوّتها الأمنية وكتلتها الحركية، ولا تهمها جماهيريتها وتدهور شعبيتها.
هذا ديالكتيك التدمير الذاتي المتكرر تاريخياً يحدث حين تتصاعد انتقائية السلوك والخطاب، وتصبح حماس لخاصة الخاصة مع الوقت، وتزيد اتساع الطبقية في داخلها، ظالم ومظلوم، فقير وغني، صاحب سيارات الجيب، وخالي الوفاض، أما من هو خارجها فهي لا تراه، ليس في خطابها أو حظوتها، فالخارج كله ضدها إلى أن يثبت العكس.
قطاع غزة الذي كان لفترة قريبة النعيم لأبناء حركة حماس، بدأ العديد منهم التنصل منه، لأنهم يدركون أي عزلة تأخذهم إليها الحركة، كما لم يعد الخطاب الحركي يتسعهم، فركض هؤلاء الإسلاميون ليتمتعوا بحكم العلمانيين في تركيا والسويد وبلجيكا، وتركوا حكم الإسلام السياسي الذي دعوا إليه وشجعوه منذ البداية ليتحول سعيراً لأهل بلدهم.
إن غزة تعيش الآن ذروة الأكاذيب، وكل أكذوبة لها شعارها الرنان وطريقتها في استعطاف الجماهير والداعمين؛ نعيش كذبة الضحية، وكذبة الكهرباء، وكذبة الانتصار وكذبة الصمود.
كنت أعتقد أن العمر لا يحتمل كذبتين كبيرتين كما قال ذات مرة غسان كنفاني في واحدة من رواياته، لكن في غزة أثبتنا عكس هذا الإقرار فنحن نعيش كل يوم مئات الكذبات، ونتحمل ونتكيف، ونناور لنعيش وحين يتطلب منا الأمر نتملص أيضاً.
روت لي صديقة أنها كانت في لقاء تدريبي مع طالبات صغيرات في السن، وتحدثن عن حكاية وفاة توأم من الرضع نتيجة الاختناق، فتأسفت صديقتي على حسرة والدتهما، لكن الطالبات استغربن حزنها، وقلن أن الأمر العادي، واستنكرن البكاء كبديل عن الصبر.
كيف وصل لهؤلاء الصغيرات أن كوننا من غزة لا يعني أن نحزن ككل البشر، وكيف أصبح لديهن فعل الفقد والبكاء مستهجناً، وأن الموت عادي، والقسوة حالة طبيعية.
كيف تتركنا الحرب، ناقصي إنسانية، تمزقنا القسوة، كيف جعلنا الحصار نعتاد على العنف ونقبل بالحل الأكثر تطرفاً ونطالب به علانية، حتى إن الجرائم الجنائية التي من المفترض أنها عبارة عن سرقات، تتحول إلى جرائم قتل. إننا نعيش ذروة كل شيء على مساحة قطاع غزة الذي يختنق بالفقر والبطالة وغلاء الأسعار، نعيش جميعاً سيكولوجيا ما بعد الحصار، سيكولوجيا الاختناق الجماعي.
لذلك يجب أن يعرف من يريد أن يخنق حماس أن الأمر لا يؤثر عليها، بل نحن من نختنق، فإجراءات محمود عباس والاقتطاع من مخصصات موظفي القطاع، هو عقاب للناس وليس لحماس لأنها مستعدة تماماً لمثل هذا اليوم الذي وجدت من أجله ولن يضرها السياسات التي لا تعبّر سوى عن مراهقة سياسية متأخرة يمر بها عباس ولفيفه من أصحاب الخطابات العنصرية قصيرة النظر كالهباش وعزام الأحمد الذين يحملون كل الكره لغزة.
وحين أقول كره غزة، فأنا لا أستخدم كلمات مطلقة ديماغوجية كشعارات الوطنية والوحدة، بل أنا أتحدث عن مشاعر وسلوك كراهية ونبذ حقيقي اتجاه غزة التي غدت تأكل نفسها، فالكره الذي يحمله هؤلاء لغزة لا يأتي شيئاً بجانب الكره الذي غدت تحمله غزة لذاتها ويحمله أبناؤها لبعضهم البعض.
حين يتم خطف شخصية وطنية لا تخاف قول الحق في وجه سلطان ظالم؛ كمحمود الزق الذي يحتاجه القطاع لأنه أصبح من النادر أن تجد من هو غير خائف، فاعرف أن العنف والضرب والخطف أصبح سلوكاً سياسياً فلسطينياً رسمياً للـ”تأديب”، ومصادرة الكلمات من الأفواه.
أصبحنا نعيش في عقر دار معارضة بوليسية، لا تحكم الشعب بل تظنه هو الحكومة فتراقبه وتحرض عليه، في هوس أن الجميع يريد إسقاطها وتنسى أنها تحكم الجميع، ويجب أن تتسع لهم؛ فمعها السلاح والأجهزة الأمنية والصحة والتعليم والمرأة والثقافة والجامعات، والمدارس. ولم يبقَ سوى أن تمتلك الناس، لنصبح نحن عبيد المعارضة، لأنه لا يجوز معارضة المعارضة إنها تمتلك العلامة التجارية لكلمة لا، لذلك لا يجب علينا سوى أن نكون تابعين، خانسين، ساكتين، ومع ذلك لا تزال حماس تتوهم الأعداء حتى في أقرب الناس إليها لتبدأ مع هذه التخيلات محاربة طواحين الهواء كدونكيخوت.
ومع كل ذلك فإن الحل بسيط؛ تكون حكومة للكل، تحتضن الجميع، تعمّر منازل الشعب، وتوزع مساعداتها عليهم، وأن تصدق أنها فازت بالانتخابات عام 2006 باختيار الأغلبية ولم تعد الأقلية المعارضة.
راكمنا دمار هذا الوطن بأيدينا، إن هذا ما أصبحت عليه غزة؛ دون محبة، ولا أمان، ولا رضا أو سعادة، بل كراهية. إن عباس ينتقم من غزة، وغزة تنتقم من التاريخ، والتاريخ ينتقم من حماس، وحماس تنتقم من الحاضر وأهله.
لذلك أرجوكم لا أحد يستغرب حين تأتي حوادث تاريخية مهمة كإضراب الكرامة الذي سيمر عليه الأسبوع الثاني، ولا يكون التفاعل معه كما يستحق بل إن كل ما يحدث من تضامن هو فيسبوكي استعراضي، لا يدعم سوى “الإيجو” الذاتية عند كل مستخدم، ولا يترك بصمته خارج السوشيال ميديا.
هذه الإضرابات في تاريخ الأسرى لم تكن يوماً بحاجة إلى تضامن، إنها معركة داخلية بين السجين والسجان، لقد مات الأسرى في السجون بصمت منذ السبعينات وهم يخوضون هذه المعارك في عزلة لنأتي نحن ونثير الضوضاء حول أنفسنا، إن التضامن الحقيقي مع هكذا حوادث لا يعني سوى التماس المباشرة مع الاحتلال، وعند بوابات السجون، وأن نخجل قليلاً ونكف عن خوض معارك داخلية نعاند فيها بعضنا البعض.