“اليسار الممانع” يعلي من خطاب الـ “أنتي إمبريالست” (أي ضد الإمبريالية)، وربما كان هو النغمة الوحيدة التي يُتقنها، لهذا يظلّ يكررها بلا توقف، و”يدحشها” في كل المواقف. وربما كان الغلو فيها هو التعويض عن الفعل العملي، والغطاء الذي يخفي عجزاً مزمناً، وخوفاً أبدياً.
هذا الخطاب عالي النبرة يوحي بأن “اليسار” هذا قد قرَّر خوض “حرب التحرير الشعبية”، وأنه امتشق السلاح واستعدَّ لحرب طويلة تُسقط الإمبريالية في “عقر دارها” وليس في بلادنا فقط. ولهذا يكرر التأكيد على تأسيس جبهة عالمية ضد الإمبريالية، ويكرر التوضيح عن ضرورة تحالف اليسار العالمي لكي “يهزم الإمبريالية”. خطاب “قوي”، “شديد اللهجة”، و”واضح الى حدٍ بعيد”. فـ “الإمبريالية هي الخطر الرئيسي على البشرية”، وهي “سبب كل الحروب”، و”سبب الفقر والتهميش”، وأيضاً هي التي تحتل وتقتل، وتدعم الإنقلابات العسكرية، وتفتعل المؤامرات. وكثير من هذه الجمل “الجميلة”، وغير الخاطئة في كل الأحوال.
الخاطئ هو تحويلها إلى شعارات، وكليشيهات تتكرر في بيانات تصدر كردود أفعال على ما تفعل الإمبريالية هذه، التي باتت تُلخّص بأميركا وحدها (كون أوروبا واليابان ملحقتان بها).
لهذا يصبح السؤال الأساسي هنا هو: كيف يتمظهر الخطاب المناهض للإمبريالية في المواقف العملية؟ في الممارسة؟ في الصراع الفعلي؟ أي ما هي إستراتيجية “اليسار الممانع” في مواجهة الإمبريالية؟
لا شك في أن هناك “حواجز” تمنع هذا اليسار، بعض اليسار يعيش في حضن الإمبريالية، والبلدان الرأسمالية الأخرى، ودوره هامشي، حيث لا يريد تجاوز الرأسمالية. و”يسارنا” نحن لا يخضع مباشرة لسلطة الإمبريالية بل يُحكم من قبل نظم تابعة، وهو الأمر الذي يجعله ينتقد النظم لتبعيتها ويصدر البيانات ضد الإمبريالية، كلما فعلت فعلاً عدائياً. هو هنا يمارس “هواية” إصدار البيانات ضد عدو بعيد، بيانات “تكشف وتفضح” السياسات الإمبريالية. فيكون الفعل العملي هو اصدار البيانات التي تدين وتشجب، سواء فردياً (أي كل حزب لوحده) أو بتوافق عدد من الأحزاب. إنه يقوم بالتحريض ضد الإمبريالية، بفضحها لـ “الشعب”، وإدانة كل ممارساتها البشعة. فهو “يثقّف” الشعب ضد الإمبريالية، يطلب منه الوقوف ضد الإمبريالية، وهي تعاني من وطأة النهب الذي يطالها من قبل الرأسمالية المحلية المسيطرة.
بمعنى أن “العداء للإمبريالية” يتمظهر على شكل “خطاب”، يصدر في بيانات. هذا هو شكل “الحرب الضروس” التي يخوضها هذا اليسار ضد الإمبريالية. وهنا يظهر خطابه كـ “فرقعة” بلا نتيجة. فلا اليسار في الدول الإمبريالية يطرح إسقاط الرأسمالية، ويريد أن يتجاوزها، حيث يلعب دور الكاشف لسياساتها وأخطارها على البشرية، ولا اليسار الآخر في البلدان الأخرى في وارد بناء سياسة مواجهة مع الإمبريالية، ولا حتى مع النظم التابعة لها. بالتالي هو لا يواجه أدوات الإمبريالية كما يسميها، ولا يستطيع مواجهة الإمبريالية إلا عبر البيانات لأنها “في مكان آخر”. فهي لا تحتلّ لكي تواجَه. فهو يسار “يتكل على الله” في مسار التطور المتتالي، الموضوعي/العفوي، الموصل إلى هزيمة الإمبريالية وانتصار الاشتراكية. ومن ثم هو يعلن عن ذاته عبر البيانات والخطاب الحماسي، شديد اللهجة، ضد الإمبريالية. حيث ما دام المسار تطوري عفوي، وبالتالي لا دور له فيه، يصبح الخطاب اللفظي هو التعبير عن الوجود.
هنا يحلّ اللفظ بديلاً عن الفعل، وتصبح مواجهة الإمبريالية فعلاً لفظياً. وفي الألفاظ يمكن زيادة الشدة إلى أقصى مدى، وبأقسى العبارات. بالتالي ستكون عبارة “ضد الإمبريالية” فعلاً كلامياً ليس أكثر، وأوراقاً تُنشر للتعبير عن السخط والرفض والإدانة. هل في خطاب “اليسار الممانع” أكثر من ذلك؟ خصوصاً هنا في الوطن العربي. رغم أن “اليسار العالمي” ليس أفضل، حيث يظلّ منحاه “يمينياً”، ما دام قابلاً باستمرار وجود الرأسمالية، ومتوجساً من الانتقال إلى خيار تجاوز الرأسمالية. فهو بذلك لا يناضل في بلدانه من أجل إسقاط الرأسمالية بل من أجل “عقلنتها”، وتحقيق بعض القضايا المطلبية، وشيء من الحريات أفضل.
لهذا فهو يريد “عقلنة” رأسماليته وتجاوزها لسياساتها الإمبريالية ونحن نهجوها من بعيد. هذا هو وضع “اليسار الممانع”، واليسار العالمي الذي يقف مع الطغاة، وضد الثورات.
السؤال الجوهري هنا هو: كيف نواجه الإمبريالية فعلياً؟ فالبيانات خطاب دعائي، وإعلان مواقف، لكنه لا يطوّر صراعاً حقيقياً ضد الإمبريالية. والمبدأ الماركسي هنا هو أن الصراع هو صراع بين طبقات بالأساس، ولهذا فليس من صراع مباشر مع الإمبريالية بل أن الصراع هو مع البنى الطبقية المحلية المرتبطة بها، ومع النظم التي تمثّل الطبقة التابعة. الصراع المباشر هو هنا، حيث يكون إسقاط الطبقة المسيطرة وتغيير النمط الاقتصادي بما يتجاوز الرأسمالية هو الخسارة الكبيرة للإمبريالية. بالتالي فإن مواجهة الإمبريالية لهزيمتها تعني مواجهة الطبقات الرأسمالية في البلدان الرأسمالية وفي الأطراف لإسقاطها وتغيير النمط الاقتصادي في مسار تجاوز الرأسمالية. وغير ذلك هو كلامولوجيا.
فهزيمة الإمبريالية تعني تدمير آليات نهبها للأطراف عبر إسقاط الرأسمالية التابعة ونمطها الاقتصادي الريعي المافياوي، وإسقاطها في البلدان الرأسمالية ذاتها. هذا هو التمظهر العملي للصراع ضد الإمبريالية، وغير ذلك هو إعلاء الصوت تعويضاً عن الفعل، والهروب من خوض الصراع الطبقي الفعلي إلى الصياح ضد الإمبريالية.