لستُ مع عقوبة الإعدام، وأرجو أن يحظر نص دستوري تطبيقها في بلادنا. وفي السياق نفسه، أعتقد أن “مؤسسة الضمير” الحقوقية لم تجانب الصواب في بيان لها حول مخالفة محاكم حماس، في غزة، لمعايير المحاكمات العادلة. ولكن هذه المقالة لا تستمد ما يبررها من قناعات شخصية بشأن عقوبة الإعدام، أو التذكير بضرورة الاحتكام إلى معايير أفضل، بل من الوقوف أمام ظاهرة تداولتها منابر إعلامية مختلفة، بالصوت والصورة، في الآونة الأخيرة، لكنها لم تسترع انتباه أحد.
المقصود، هنا، عبارات أطلقها أحد المدانين بتهمة العمالة، وقتل مازن الفقهاء، بعد سماع الحكم، ولحظة وصوله إلى قاعة المحكمة، وخروجه منها. وهي مصوّرة ومتداولة على اليوتيوب. فبعد سماع الحكم بالإعدام، هتف المذكور “يحيا العدل”. وفي لحظة الخروج من القاعة، قال بأعلى الصوت، وبالحرف: “أدعوا لي بالرحمة، وسامحوني، وأقول للمخابرات الإسرائيلية إنكم ربطتموني لأعمل معكم، ولكنكم حثالة الدول جميعها، إنكم أتعبتم الأنبياء، ولكن المقاومة انتصرت عليكم، وستنتصر عليكم، والأمن الداخلي يعرف كل شيء، أنا ابن الشعب، أنا ابن غزة”.
وأوّل ما يتبادر إلى الذهن: كيف يمكن لشخص يتبرّع بعرض مؤهلاته الوطنية، وتحيّزاته السياسية، وقناعاته الفقهية، وحسه الأمني، أن يقول في جملة واحدة، إنه “ابن الشعب”، و”ابن غزة”، وأن الإسرائيليين “حثالة الدول”، وأنهم “اتعبوا الأنبياء”، وأن المقاومة “انتصرت عليهم”، وأن الأمن الداخلي “يعرف كل شيء”، وأن يعترف في العرض والاستعراض أنه كان قاتلاً وعميلاً في خدمة من وصفهم قبل قليل بأقذع الأوصاف؟
كيف تستقيم الوطنية مع العمالة والقتل؟ وما معنى، ودلالة، هذا القدر من الانفصام؟ هل في العرض والاستعراض ما يدل على توبة لم يعد من الممكن تأجيلها، وعلى صحوة الضمير، مثلاً؟ أم أن المشهد التمثيلي مجرّد طلقة أخيرة يائسة قد تُسهم، بمعجزة من نوع ما، ربما في تخفيف الحكم، أو حتى محاولة اقتناص بعض دعوات الرحمة في الدنيا لعلها تنفع في الآخرة؟ مَنْ يدري، الاحتياط واجب في كل الأحوال.
بداية، أُصر، هنا، على فكرة المشهد التمثيلي، ففي كل حديث، أو سلوك على مرأى من الناس، ومسامعهم، أو على مقربة من عين الكاميرا، ما يستدعي قدراً من التمثيل، بصرف النظر عن الدوافع. وبداية، أيضاً، أعتقد أن ذلك الشخص كان صادقاً وكاذباً في آن. ولأنه كذلك، فإن الخواء، وموت المعنى، هما البطانة الوحيدة لهويته، وأصدق ما فيه.
ولا علاقة، هنا، بين الصدق والقيم، ففي حال موت القيم، وضياع المعنى، تزول كل حدود محتملة للفصل بين الصدق والكذب، فكلاهما مجرّد قناع لوجه بلا هوية ولا ملامح، لا تعلو فيه قيمة على غريزة البقاء، وضرورات ومهارات تحقيق المصلحة الشخصية الضيّقة. لذا، كان صادقاً (وكاذباً) في الانتماء إلى المقاومة، بقدر ما كان صادقاً (وكاذباً) في العمالة، أيضاً. فالمهم في الحالتين، وفي ما لا يحصى من أحوال غيرهما، قضاء المصلحة، بصرف النظر عن دلالتها الأخلاقية، وما قد تُلحق من ضرر بالآخرين. وهذا، بدوره، يستدعي ويُحرّض على قدر من التمثيل.
والواقع أن الوصول في التحليل إلى هذا الحد يُسوّغ النظر إلى المذكور كضحية أيضاً. ففي مجتمعات يُراد تحويلها إلى قطيع، ويتهدد الخارجين منها وعليها مصير العزل أو القتل (أو النبذ الاجتماعي في أفضل الأحوال) يبتكر الناس تقنيات مختلفة للتماهي والتأقلم أو الممانعة (وغالباً ما تكون سخرية لاذعة)، وفي القلب منها الفصام كاستراتيجية للبقاء.
في مجتمعات كهذه تُصاب اللغة بفقر الدم إلى حد يشبه التغريد على تويتر هذه الأيام، مع فارق أن تغريدات تويتر، على فقرها، مفتوحة على احتمالات وموضوعات لا تحصى، أما الكلام الذي يُراد للآخرين سماعه، في المجتمعات المعنية، فيختزل في كليشيهات وعبارات وسيطة تفتقر إلى أدنى قدر من الفردية، أو تجليات المزاج الخاص. بمعنى آخر، يصبح الكلام وجبة جاهزة من فصيلة الهامبورغر، مثلاً. وهذا النوع من الوجبات اللغوية متوفر في دكاكين حماس الأيديولوجية، كما في ما لا يحصى من الدكاكين الأيديولوجية في أماكن مختلفة من العالم.
ومع ذلك، ثمة ما يتجاوز حماس، وما هو أبعد من غزة، أيضاً. فهذا النوع من الكائنات يمكن العثور عليه في مجتمعات عربية مختلفة. وقد أسهمت فيه تحوّلات سياسية وأيديولوجية وديمغرافية هائلة على مدار نصف قرن مضى. فالمجتمعات المستقرة تقاوم موت المعنى، وانهيار القيم، وتبلور آليات للمقاومة، ولكن هيمنة الاستبداد السياسي والأيديولوجي على مجتمعات غيرها، معطوفة على تعطيل لكل إمكانيات التفاوض الاجتماعي، وحل الصراعات بالطرق السلمية، أو التوصل إلى تعريفات تحظى بالقبول العام لمعنى الصالح العام، والمواطن الصالح، ينجب أرواحاً ميّتة.
وعلى خلفية كهذه: في صدق الممثل، كما في كذبه، ما يستدعي التفكير بأدوات البحث الاجتماعي، والسياسي، والتاريخي. كيف خرجت شخصية من كتاب لغوغول في القرن التاسع عشر، لتتجسّد في إنسان من لحم ودم في غزة؟ وكم من الأرواح الميّتة خرجت من الروايات إلى شوارع في بلادنا، كم من هؤلاء بيننا؟ لا نعرف. المهم أن كل كلام من فصيلة الهامبورغر ينبغي أن يشعل أكثر من ضوء أحمر.
نُشرت صباح اليوم في الأيام الفلسطينية.