اليسار “المناهض للإمبريالية” ماذا يطرح في الواقع؟ هل أن مناهضته للإمبريالية هي هدفه المركزي، هي “الحلقة المركزية”؟ لكن ذلك يعني أن يظلّ ناشطاً في المستوى اللفظي، لأن الإمبريالية التي يجري تلخيصها في الدولة الأميركية ليست جزءاً مباشراً من الواقع، بل أن بنية تفصلها عنه، هي “الدولة الوطنية”. و”من خلف السور” ليس سوى “رمي الأحجار”، أي “التراشق بالكلمات”.
اليسار هو ذاك الذي يسعى إلى تغيير الواقع بالأساس، وإلا لا يكون جديراً بتسمية يسار (وبالأحرى ماركسية، أو اشتراكية). إن دوره الأساس هو تغيير الواقع المباشر، العيني، القائم. والتعبير عن طبقات عينية، مشخصة، واقعية. وكذلك خوض الصراع ضد طبقة محدّدة في الواقع. وهو انطلاقاً من ذلك يبني موقفه من الإمبريالية، التي هي بكونها شكل الرأسمالية الأعلى تمثّل التناقض الأساسي الذي لا تقدّم إلا بتجاوزها. لكن هذا التجاوز لا بدّ من أن يتحقق في الواقع، أي في البنى “القومية” ذاتها وليس في المجرّد الذي هو العالم. فالتناقضات تنشأ في بنية محدّدة واقعية، بنية طبقات موجودة في واقع معيّن. فهنا يكمن التناقض الرئيسي، وعليه تُحدَد السياسات، وتوضع الإستراتيجية، بهدف حسم التناقض الطبقي (إلا في حالة الاحتلال).
فماذا يطرح هذا اليسار في الواقع؟ ما هو برنامجه؟
الفكرة التي سادت منذ ثلاثينات القرن العشرين وظلت تحكم هذا اليسار (الأحزاب الشيوعية وجزء مهم من اليسار الجديد الذي تسَفيَت) تتمثّل في أننا في “عصر الانتقال إلى الرأسمالية”، أو في مرحلة تطور ونضج الرأسمالية، وبالتالي انهيارها. رغم أن التناقض الرئيسي كان يتحدّد (إلى انهيار الاشتراكية) بأنه بين الرأسمالية والاشتراكية، ومن ثم بين الطبقة العاملة والرأسمالية في الغرب، وثالثاً بين حركات التحرر الوطني والإمبريالية. وبهذا كان يمركز التناقض بين دول، ويُترك الصراع الطبقي لعفويته، حيث لم يُطرح انتصار الاشتراكية في البلدان الرأسمالية، وأصبحت حركات التحرر الوطني برجوازية الطابع هي قيادة الصراع ضد الإمبريالية، ويكون الحزب الشيوعي ضمنها تحت قيادة البرجوازية.
إن الأمر الجوهري هنا هو أن “البديل الاشتراكي” ليس ناضجاً لأن الرأسمالية “لم تستنفذ” آفاق تطورها، وأن مجتمعات الأطراف لا زالت في مرحلة الانتقال إلى الرأسمالية، لهذا لا بدّ من “استكمال مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية”، هذه الثورة التي هي ليست “برجوازية الطابع بالمعنى الذي حدّده لينين، بل هي “ثورة برجوازية”، تنجزها البرجوازية. وبما أنها أنجزت بعضاً منها خلال العقود السابقة (خلال أكثر من قرن)، فلا بدّ من استكمال إنجازها. وبالتالي لا يمكن ذلك إلا “تحت قيادة البرجوازية”. لهذا ظلت تبحث عن برجوازية تستكمل هذه “الثورة الوطنية”، وظلت تبحث عن “برجوازية وطنية” لأنها ضد البرجوازية التابعة التي تخضع للإمبريالية. ومقياسها هنا يتمثّل في هذه العلاقة بين “البرجوازية المحلية” والإمبريالية، حيث أن “وطنية البرجوازية” التي ستحقق استكمال مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية تتمثّل في “الصدام” مع الإمبريالية. ولهذا كانت تقع دائماً في توهُّم وجود “برجوازية وطنية”، سرعان ما ينكشف أنها لا تحقق شيئاً من ذلك الاستكمال. لتبحث عن أخرى، وهكذا منذ عقود طويلة (منذ منتصف ثلاثينات القرن العشرين).
هذا اليسار إذن، يتمسك بالبرجوازية، ويريد أن تكون هي “قيادة التغيير”، وأن تنشئ نظاماً رأسمالياً. ويحدّد مهمته في ترشيدها، وعقلنتها، وإفهامها الدور الذي يجب أن تلعبه لكي تحقق مصالحها، وتنجز “المهمة التاريخية” الملقاة عليها، لكي يقود ذلك حتمياً إلى الانتقال إلى الاشتراكية. هو هنا “مستشار” لدى برجوازية موجودة في الخيال، برجوازية متوهَمة، لكي تحقق “مهمات تاريخية” لا يمكن أن تُنجز إلا بها. لقد انتظر ثلاثة أرباع القرن، ولا زال ينتظر أن “يعود غودو”، وأن يتقدّم التاريخ لكي يصل إلى الاشتراكية. هنا تكمن “حتمية الانتقال إلى الاشتراكية” التي تحكم كل اليسار العالمي المشار إليه. بالتالي نحن إزاء “حتمية انتصار الرأسمالية”، ثم “حتمية انتصار الاشتراكية”، وما علينا سوى الانتظار، ولكن تكمن “مهمتنا التاريخية” في ترشيد الرأسمالية لكي تكمل مهماتها. لنعود هنا إلى الكلامولوجيا، النصح، والنقد من أجل التوضيح، و”كشف الأخطار لكي تتجاوزها الرأسمالية”، وما إلى ذلك من كلام.
بهذا يكون اليسار هو “يسار الرأسمالية” وليس يسار الطبقات الشعبية، ويكون نقده للرأسمالية من هذا الموقع وليس من موقع تغييرها. هذا الأمر يجعله يرفض سياسات رأسمالية ولا يرفض الرأسمالية، ويركّز على السياسة دون أن يلمس الأساس الاقتصادي، الذي هو “من حق” الرأسمالية. وبالتالي هو لا يطرح بديلاً عن الرأسمالية، ويرفض تجاوزها. وهذا أساس مهم في فهم مجمل مواقفه، وفهمه للصراعات المحلية والعالمية. وما يجعله يسير في مواجهة “حركة التاريخ” وليس معها، كما يظهر في كل ممارساته. إنه “يسار” يريد انتصار الرأسمالية، واستمرارها إلى أن “تتعفن” و”تنهار”. ويبني مواقفه انطلاقاً من ذلك، مما يجعله يقع في اللفظية المفرطة، حيث يقوم بدور الاستشارات والإدانات، والدعم لطرف رأسمالي ضد آخر.
ما الذي أوصل إلى ذلك؟
فقد توقف “التوسع” في انتشار قوى الإنتاج الرأسمالية منذ بداية القرن العشرين، وبالتالي لم يعد ممكناً “انتصار الرأسمالية” في البلدان التي لم تكن قد انتصرت فيها. هذا ما توصّل إليه لينين، واعتبر أن المهمات الديمقراطية التي كان على البرجوازية أن تنجزها باتت على ضوء ذلك من مهمة الماركسيين. وتوضّح هذا الأمر خلال كل سنوات القرن العشرين، حيث ظهر تحكُّم الإمبريالية في مسارات التطور (لهذا سمحت لبعض دول آسيا – كوريا الجنوبية وتايوان)، وأنها معنية بمنع انتشار قوى الإنتاج، أي خصوصاً الصناعة التي هي أساس اكتمال “انتصار الرأسمالية”. حيث لم تنشأ الصناعة وتتطور إلا في البلدان التي باتت اشتراكية، أي على الضد من الإمبريالية. وفي البلدان التي حاولت في الأطراف دون أن تنجح.
الرأسمالية في أساسها الصناعي باتت مستحيلة، وعلى هذا الأساس يتحقق المشروع الرأسمالي وتستكمل المهمات الديمقراطية، لهذا لن تُستكمل، وسيظل هذا اليسار منتظراً قروناً أخرى. لكنه تحوّل في الواقع إلى “يسار الرأسمالية”، لهذا يقوم بدور المرشد لرأسمالية تعرف مصالحها بالتأكيد، ولا تريد مَنْ يرشدها. وهو الأمر الذي يحوّله إلى الغرق في الخطاب اللفظي، بلا مشروع تغيير، ولا مشروع أصلاً سوى ترشيد الرأسمالية. في واقع يحتاج إلى مشروع تغيير يتجاوز الرأسمالية.