مقال لإريت غال. ترجمناه عن الإنكليزية من موقع 972mag الذي نشره بتاريخ 18/7/2017.
هناك من بين اللاجئين السوريين الفارّين من بلدهم المحترق إلى البلدان الأوروبية، والتي كانت كريمة بما فيه الكفاية لتفتح أبوابها لهم، مجموعة من اللاجئين الذين ينتمون إلى جيل ثان من اللاجئين. فرّ الجيل الأول في عام 1967 عندما احتل الجيش الإسرائيلي مرتفعات الجولان السورية. وعلى النقيض من حكاية اللاجئين في الضفة الغربية وغزة، فإن قصة هؤلاء اللاجئين قد طمست من الوعي الإسرائيلي. اختفت الوقائع، وتم التعتيم على ما حصل معهم وحجبه، واختفوا عن الأنظار تماماً، كما لو أنهم لم يكونوا هناك يوماً.
أوفدني برنامج تلفزيوني إسرائيلي في أواخر التسعينيات لتوثيق حكاية السكان الدروز في مرتفعات الجولان. طلبوا مني دراسة السبب الذي جعلهم يحافظون على ولائهم لوطنهم السوري ورفضهم قبول الجنسية الإسرائيلية، على الرغم من “الفوائد العديدة” التي منحتها لهم إسرائيل. فوجئتُ في سياق التحقيق بقصة مختلفة تماماً. اتضح أنه عندما اندلعت حرب الأيام الستة في عام 1967 كان الجولان مأهولاً من قبل مواطنين سوريين من الدروز الذين كانوا يشكلون أقلية هناك. بحثتُ عن البراهين التاريخية في كتب التاريخ، ولكنني وجدت أن السكان السوريين قد اختفوا ببساطة. ذُكرت مادة وحيدة فقط في إحدى الموسوعات حقيقة أنه قبل الغزو الإسرائيلي كان عدد سكان مرتفعات الجولان أكثر من 100 ألف نسمة.
سمعنا الكثير في سياق التحقيق والتصوير، من جنود جيش “الدفاع” الإسرائيلي السابقين الذين قاتلوا في مرتفعات الجولان، ومن أعضاء الكيبوتسات والقرى في وادي الأردن، وكذلك من الدروز أنفسهم. لقد اخبرونا جميعهم القصة نفسها: هضبة الجولان، التي كان يُنظر إليها في الوعي الإسرائيلي على أنها فارغة وخالية من الناس، كانت في الواقع مليئة بالسكان – تماماً مثل الضفة الغربية عندما تم غزوها. صوّرنا التقرير وقمنا بعمليات المونتاج، ولكن عندما بُث الإعلان الترويجي للبرنامج، طالب رئيس مكتب الشؤون العربية بوقف بثه خوفاً من التعرض للسخرية. وقال إنه لم يكن هناك مدنيون قط في مرتفعات الجولان باستثناء القوات المسلحة السورية، وكان دليله على هذا أن “الجميع يعلم ذلك”.
وتجنباً لسوء الفهم، تم استدعاء مؤرخ كبير في هذا المجال. كان الرجل متخصصاً في الشرق الأوسط وعقيداً متقاعداً في الجيش، كما كان الحاكم العسكري لعدد من المدن في الضفة الغربية وعمل سفيراً في تركيا. وفي الوقت الذي تم فيه بث التقرير، تواصل الخبير الواقع في الحيرة مع زملائه، والذين كانوا خبراء في هذا المجال أيضاً، ولكن لم يستوعب أي منهم عن أي مواطنين سوريين كنا نتحدث.
إذن كيف اختفى هؤلاء السكان؟
كانت مرتفعات الجولان في بداية حرب 1967، التي انتهت بنصر استراتيجي باهر، وبتمكين إسرائيل من توسيع أراضيها ونقل الحدود من الوادي في أسفل الجولان إلى الجبل في الأعلى، موطناً لما يقرب من 130 ألف إلى 150 ألف نسمة، وكان معظمهم من المدنيين الذين يعيشون في 275 بلدة وقرية. كانت المدينة الكبرى القنيطرة، المدينة الرئيسية في المنطقة، حيث يعيش ربع هؤلاء السكان -والذين كانوا عبارة عن أقلية من الأفراد العسكريين وأسرهم.
وأثناء انسحاب الجيش السوري خلال المعارك، انضم إليه حوالي نصف المدنيين للبحث عن ملجأ من القصف الإسرائيلي، بانتظار وقف إطلاق النار الذي سيسمح لهم بالعودة إلى ديارهم. ولكن الذين بقوا خلف خط وقف إطلاق النار لم يسمح لهم بالعودة. أُطلق لاحقاً على هؤلاء اللاجئين السوريين الذين حاولوا العودة إلى ديارهم اسم المتسللين، وغالباً ما أطلق عليهم الجنود الإسرائيليون النار لتخويفهم، بينما صدرت أحكام على الذين نجحوا في عبور الحدود وتم اعتقالهم.
وبقي في مرتفعات الجولان عشرات الآلاف من الناس بعد انتهاء القتال، نصفهم تقريباً من السكان السوريين. ثم تم طردهم جميعاً، باستثناء الدروز. ونُقل السكان المدنيون عبر الحدود بطريقة منظمة، حيث كان معظمهم من المسلمين السنة، وكان من بينهم بضعة آلاف من اللاجئين من حرب 1948، وكذلك بعض الشركس وغيرهم.
وقد شهد المقاتلون السابقون والمقيمون في وادي الأردن الذين جاؤوا إلى مرتفعات الجولان بعد وقف الأعمال العدائية شهادات مختلفة عن الجنود الذين كانوا يجلسون وراء الطاولات التي أخذوها من منازل قريبة من خط وقف إطلاق النار، وأُجبر السكان السوريين على توقيع وثائق تفيد بأنهم يغادرون منازلهم طواعية وينتقلون إلى الأراضي السورية.
ويمكن بالطبع افتراض أن القوائم والأوراق التي تشهد على عملية النقل الصامت الذي حدث في الجولان وتوثقه مخفية في مكان ما في أرشيفات الجيش التي لن تفتح للجمهور لسنوات عديدة لأسباب تتعلق بأمن الدولة. بعد انتهاء القتال حدثت عمليات نهب واسعة النطاق، ولكن لم تقع أعمال ذبح مثل تلك التي يرتكبها الأسد ضد شعبه. بل على النقيض من ذلك، نفذت عمليات الطرد بأسلوب منظم ومنهجي -كانت عمليات طرد وتهجير هادئة. دخلت قوافل من المركبات العسكرية القنيطرة مع رسالة نشرت عبر مكبرات الصوت تحذر السكان وتقول بأنهم مجبرون على الرحيل، وإلا سيتعرّضون للأذى. بقيت المدينة الجميلة بمبانيها التاريخية فارغة لفترة بعد فرارهم قبل أن يتم تجريفها وتسويتها بالأرض. هدمت المدفعية العسكرية والقصف الجوي الإسرائيلي المنازل والمراكز التجارية ودور السينما والمستشفيات والمدارس ورياض الأطفال والمقابر والمساجد والكنائس.
أُمر سكان القرية المرتعدين في منازلهم والخائفين من الخروج منها بمغادرتها والمسير نحو الجانب الآخر من الحدود. جاءت الجرافات والجرارات من وادي الأردن في الأيام اللاحقة، إلى مرتفعات الجولان، وفي عملية سريعة كالبرق لم يسبق لها مثيل، دمرت جميع القرى، باستثناء بعض المباني التي تركت للعسكريين لأغراض التدريب.
انهار عالم عشرات الآلاف من الناس في غضون فترة قصيرة من الزمن: فقد المدرسون والعاملون في المجال الطبي والموظفون والمدراء والتجار والمزارعون أراضيهم ومنازلهم وجميع ممتلكاتهم. وظلت امرأة عجوز، يتذكرها جميع الشهود جيداً، في إحدى القرى لبضع سنوات حتى وفاتها.
نفذت السلطات الإسرائيلية أثناء المعارك والفترة التي تلتها خطة أخرى، حيث سُمح لحوالي 7000 درزي بالبقاء في قراهم، على افتراض أنهم سيتكيفون مع الحكومة الجديدة ويحوّلون ولائهم من سوريا إلى إسرائيل، مثل إخوانهم الدروز الإسرائيليين الذين يعملون في جيش “الدفاع” الإسرائيلي، وهذا ما ثبت أنه افتراض خاطئ في نهاية المطاف. وأُرسل ضباط دروز من الجيش من قرى شمال إسرائيل في بعثات كشفية إلى القرى العربية في الجولان ليعلنوا عبر مكبرات الصوت أنه على جميع السكان الخروج إلى نقاط الاجتماع على طول الحدود، باستثناء أشقائهم الدروز الذين سُمح لهم بالبقاء في منازل مع وعد بأنهم لن يتعرضوا للأذى. نقل الجيش الإسرائيلي من تلك النقاط السكان غير الدروز إلى الجانب السوري من خط وقف إطلاق النار.
وهكذا حدث أن السوريين الوحيدين الذين بقوا في الجولان هم من سكان أربع قرى درزية كانت إسرائيل “طيبة” بما فيه الكفاية لتركها وشأنها.
استُقبل اللاجئون الذين فقدوا منازلهم في عدد من مخيمات اللاجئين، معظمها في منطقتي دمشق ودرعا. لم يكن الرئيس حافظ الأسد، والد بشار الأسد، على عجلة من أمره لإعادة توطينهم، على أمل أن التدخل الدولي سيعيد الأراضي المغتصبة إلى سوريا، وهكذا سيسمح للاجئين بالعودة. في عام 1974، بعد عام من حرب “يوم الغفران” عام 1973، وقّعت كل من إسرائيل وسوريا اتفاق فصل القوات، وبالتالي أعيدت مدينة القنيطرة المدمرة تماماً إلى السيطرة السورية. وقد أدانت الأمم المتحدة إسرائيل، وأعلنت مسؤوليتها عن عملية التدمير الخبيثة. قرر الرئيس الأسد من جانبه عدم إعادة بناء المدينة وتركها كمعلم للدمار والخراب. ووفقا للتقديرات العامة، هناك الآن حوالي 1.5 مليون من اللاجئين وأبناء لاجئين من حرب 1967.
كان مصير هؤلاء اللاجئين أفضل، إن أمكن القول، من اللاجئين الفلسطينيين الذين تُركوا عديمي الجنسية وبدون هوية وطنية نتيجة لحرب عام 1967. فقد طُرد اللاجئون السوريون في نهاية الأمر إلى بلد ينتمون إليه، ولم يفقدوا جنسيتهم.
زعم القادة الإسرائيليون في ذلك الوقت أنهم يعتزمون السيطرة على مرتفعات الجولان مؤقتاً، وأنه ستتم إعادتها مجدداً عند توقيع اتفاقية سلام. أما من الناحية العملية، وبعد مرور أكثر من شهر على الحرب، فقد أنشأت إسرائيل أول مستوطنة يهودية في الجولان، ميروم هاجولان، لم يصادر مستوطنوها الأراضي فحسب، بل صادروا أيضاً كمية هائلة من الماشية والحقول المزروعة. وبعد عامين من الحرب، وافقت حكومة إسرائيل على خطة تتضمن ضم الجولان وملأه بالمستوطنين اليهود. وفي عام 1981، أصدر الكنيست “قانون مرتفعات الجولان” الذي ضم رسمياً مرتفعات الجولان إلى دولة إسرائيل. ويصل عدد السكان اليهود اليوم إلى 22 ألف مستوطن يعيشون في 32 مستوطنة.
وتتشكل الأغلبية السكانية في الجولان اليوم من الدروز حيث يبلغ عددهم حوالي 24 ألف نسمة، اختاروا أن يظلوا مخلصين لوطنهم السوري الذي انفصلوا عنه رغماً عن إرادتهم. لقد أرسلوا شبابهم للدراسة في دمشق، وسعى أولادهم إلى الزواج من بعضهم البعض على جانبي الحدود. حاولت إسرائيل إجبارهم على الحصول على مواطنتها، ولكنهم رفضوا قبولها. لقد عاشوا في ظل الحكم العسكري لعدة سنوات، واعتبرت إسرائيل أن أي نشاط قومي من جانبهم يعد بمثابة الخيانة. واتُهم العديد منهم بالتجسس وحُكم عليهم بالسجن لفترات طويلة.
لم تحدث عملية اختفاء اللاجئين السوريين في عام 1967 ببساطة: لم يتحقق المؤرخون الذين كتبوا كتب التاريخ من الوقائع. بل قبلوا على العكس من ذلك النسخة من الحكاية التي تمليها الدولة، ونسخوا من بعضهم البعض، وتتالت الأعوام وأصبحت تلك الكذبة حقيقة. بدأت الشهادات تظهر على مدى العقد الماضي فقط في صحيفة هآرتس أو على موقع زوخروت (منظمة غير حكومية إسرائيلية مكرسة للحفاظ على ذكرى النكبة الفلسطينية)، ولكن السردية الرئيسية لا تزال تؤكد حتى اليوم على أنه لم يكن هناك سكان سوريون في مرتفعات الجولان، وإذا كان هناك، فقد تركوا منازلهم وهربوا بإرادتهم. كان سكان القرية الدرزية مجدل شمس حتى بزوغ عصر الإنترنت يقفون على تلة الصراخ، حيث كانوا يصيحون من خلال مكبرات الصوت لينادوا على أفراد أسرهم على الجانب السوري من الحدود. الأسر التي انفصلت عن بعضها البعض، والأقارب، والجيران، والأصدقاء الذين تفرقوا يسألون بعضهم البعض عن أحوالهم، ويحدثون بعضهم البعض عن الأخبار الجديدة ومن ولد ومن توفي.
منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا، عادت الصيحات إلى التل. ينظر السكان الدروز بيأس شديد بينما يهرب أقاربهم من الفظائع التي يرتكبها ضدهم رئيسهم. وهم غير قادرين على مد يد العون لهم وتقديم الملجأ لهم في منازلهم.
وقد أصبح خط وقف إطلاق النار، الذي أنشئ منذ 50 عاماً، عبارة عن حدود دائمة لا تزال تفصل فيما بينهم.
إريت غال: مخرجة وكاتبة إسرائيلية. نشرت هذه المقالة أصلاً على موقع هوكيتس Haokets باللغة العبرية.
تدخّل التحرير في رمّان اقتصر على الأقواس