ولدتُ لاجئة، لم أعرف بيتاً أو أرضاً سوى منزل العائلة في مخيم رفح، كان بيتي الأول، ولن يكون الأخير كما كنت دوماً أعتقد، ففي كل أسفاري وتنقلاتي كان ما يهدئ غربتي أن هذا البيت موجود.
هذا البيت حيث مشيت أولى خطواتي في “قاع الدار”، فَدُور المخيم مفتوحة السطح على السماء، وسقوف غرفه من الاسبست، قبل أن تصبح الآن مجموعة من البنايات المصمتة.
في هذا البيت، سمعت قصص جدتي غزالة عن الأرض، أو كما تسميها “البلاد”؛ كانت متزوجة حديثاً وفي يدها عمي الكبير خليل الذي كان وقتها لا يزال رضيعاً، تقول لي جدتي “كنت أعتقد أني سأعود لأطعم دجاجتي وأسقي الوردات”.
أنا من هناك، قرية صرفند، لم أزرها يوماً ولا أعتقد أنني سأفعل، فهي لا تزال بيد الاحتلال الإسرائيلي، وقد بنى فيها واحداً من أكبر المعتقلات للفلسطينيين.
تركت جدتي الأرض ومشت مع جدي، حاملة ابنها خليل، يتعثران في الطريق، يملأهما الرعب من ملاحقة المجموعات الصهيونية المسلحة، حتى وصلا إلى جنوب قطاع غزة، لتصبح هذه البقعة من الأرض لهما، ويبني جدي ووالدي وأعمامي الثمانية هذا البيت، الذي لم يتغير فيه شيء منذ تلك اللحظة حتى قصفه في حرب 2014، لحظتها فقدت البيت الوحيد الذي أعرفه والأرض الوحيدة التي كانت لنا.
لا أدرك شعوري نحو صرفند التي عاش بها أجدادي، ولن تكون ردة فعلي حين أعود كجدتي إذا ما رأت ورداتها ودجاجاتها، بيد أن 69 عاماً مرت منذ هجرتها عام 1948، فلم يبقَ شيء سوى الحكايات.
وكم أتمنى لو أن في ذاكرتي ما يربطني بتلك الأرض، كما يوجد ما يربطني بأرض اللجوء والبيت الذي أصبح ركاماً في القصف، ولن يعود حتى لو رأيت منزلاً جديداً بعد إعادة الإعمار على الأرض ذاتها.
إن الحرب تغير جغرافيا الأماكن إلى الأبد، كأنك غبت عنها سنين طويلة ثم عدت لتجد أن لا شيء بمكانه، ومدينتي غزة لم تحتفظ منذ زمن بالجغرافيا ذاتها؛ فقد تغيرت الشوارع والأراضي والمنازل، وتلك العلامات التي تحفظ بها المناطق، وكانت ثلاثة حروب كافية لفعل ذلك.
أحلم لو أنني يوماً أتمشى مع جدتي في صرفند وتشير لي إلى الأماكن الأولى، والحب الأول، وكيف تعرفت بجدي، ومكان ورداتها، كم أتمنى لو نجتمع سوياً، نسحب المستقبل إلى الماضي لنصنع حاضراً مليئاً بإدراك الأرض الأولى.
يقولون أن “الأرض لله وليست ملكاً لأحد”، وكل البشر يحلمون دوماً بامتلاكها؛ كعائلة أو كفرد أو كأمة. لدينا جميعاً ذلك الهوس بامتلاك أرض ما، ولو بضعة أمتار، فنزرعها أو نبني عليها، تكون كابنة نرعاها ونراقب تغيرها بحب.
نريد أن نعتقد أنها تنتمي لنا، إنها أنانيتنا المتتابعة عبر الأجيال لإرضاء غرورنا كبشر اعتقدوا أنهم أعلى من الطبيعة، ما سماها كارل ساجان في كتابه «كوكب الأرض» المركزية العرقية (١).
وتابع: “الإنسان إذا ما نظر إلى حياته كحياة وموت النمل الذي يجري داخل الثقوب وخارجها بحثاً عن الطعام وضوء الشمس سيشعر أنه لا توجد أهمية كافية تتلازم وواجبات الحياة البشرية، كما أن الجبرية العميقة واليأس، وليس الأمل، سيلازمان الجهود البشرية” (٢)، ومن هنا احتاج الإنسان إلى أن يشعر أنه مركز الأرض، كما اعتقد أن كوكب الأرض مركز الكون أيضاً.
وفي خضم التسابق والحروب ورسم الحدود ومحاولة امتلاك ما هو مشاعي من أرض الله، نسينا أن الأرض تتحكم بنا، ولسنا نحن من يتحكم بها، فالأراضي النائية تجعلنا سكان أصليين، بينما التجمعات البشرية الغريبة والبعيدة عن المكان تلتقي في الخصب.
وانطلاقاً من هذه الفكرة يضرب الفيلسوف جان جاك روسو في كتابه «محاولة في أصل اللغات» مثالاً دولة اليونان التي لطالما كانت جاذبة للغرباء بخصوبتها، في حين أن الشعب الأتيكي كان فخوراً على الدوام أنه أصيل وابن نفسه في أرض أقل ما يقال عنها بأنها قَفر.
تحكمت الطبيعة بالبشر، فالكوراث المناخية، وعدم استقرار الأرض في الزمان البعيد دفعت البشر إلى النجاة بالتقارب، وزادت من تجمعاتهم البشرية، وتحكمت بسلوكهم الاجتماعي مع بعضهم البعض، فالدفء يجعلهم يتآلفون، في حين أن البرد يفرقهم ويعزلهم.
واليوم في العصر الحديث غدت هذه التجمعات البشرية تقوم مقام كوارث الطبيعة والمناخ، لتحافظ بشكل أو آخر على التوازن، فهي تملك وسائل لوقف زحف المياه، أو الحد من أن تغطينا الأعشاب الضارة والعشوائية (٤)، وتبعاً لذلك فهي تفرق الجماعات، وتجمع المتفرقين، بما يسمى هجرة الريف إلى المدن.
إن كل هذا الحراك البشري يجعل الإنسان يعتقد أنه يملك الأرض والطبيعة على الرغم من كونه غرائزي، يقول روسو: “إن العلاقة التي بين حاجات الإنسان وما تنبته الأرض لهي من الوثاقة بحيث يكفي أن تكون الأرض آهلة حتى يستمر كل شيء” (٥).
ولكن لا يزال تفسير روسو للعلاقة بين البشر والأرض قائم على كثير من المصالح، وكأننا نسينا أن هذه الأرض والطبيعة منذ البداية كانت قوامة علينا ولم نكن القوامين عليها.
حين درستُ في كوريا الجنوبية بجامعة هانجوج، كنت أمشي بين الناس وأشعر باختلافي كل لحظة بسبب نظرات المحيطين، وهو بالضبط الأمر ذاته لو رأيت كُورية في مدينتي، إن هذا العرق الثقيل المرتبط بالأرض، فنصبح شبهها، من الصعب عليه هضم الآخر، كما أن الآخر من الصعب عليه هضم البيئة الجديدة.
لم أفهم على الإطلاق الأمطار المستمرة والرطوبة الشديدة في طقس سيؤول صيفاً، والتي تجعل شعر رأسي يقف، في حين أن شعورهم كقطعة حرير لا تتأثر إطلاقاً بتلك الرطوبة.
وحين جاء الشتاء وانخفضت درجات الحرارة إلى ما بعد التجمد بكثير، لم أتجرأ على الخروج من السكن الجامعي، في حين كانت عيونهم بجفونها المبطنة وأنوفهم الصغيرة ملائمة كي يألفون هذا البرد القارص، إذن الإنسان فيزيائياً ونفسياً تماهى مع البيئة بل أصبح أحد عوارضها.
إن كوننا نتبع قاراتنا، لا يعني سوى أننا كنا على الدوام مُلحقين بالأرض، وطارئين عليها، فلم تكن ملكاً لأحد على سطحها، بل نحن ملكاً لها، حتى إن الآلهة في أساطير الحضارات القديمة لم تكن أي منهم قبل الأرض، كما لا يوجد آلهة الأرض بل آلهة الخصب في حين أن هناك آلهة السماء، تقول إحدى الأساطير:
بعد أن أُبعدت السماء عن الأرض
وفصلت الأرض عن السماء
وتم خلق الإنسان
وأخذ “آن” السماء
وانفرد “انليل” بالارض
أخذ الإله “كور” الآلهة “ارشيكيجال” غنيمة (٦).
لأرضي الأولى أنا الأخرى أساطير وحكايات سمعتها من جدتي غزالة، كانت “تخرفني” عن سبب إطلاق اسم الغول على عائلتنا، فتقول: ” كان جدي الأول يركب عربة حماره، ذاهباً ليفلح الأرض حين أوقفته امرأة تعبة، وطلبت منه أن يوصلها معه، وبالفعل أخذها، لكنه سرعان ما لاحظ أن حركة العربة ثقيلة، وحين نظر إلى الراكبة، وجد أن ساقيها تطولان إلى أن أصبحتا تنجران على الأرض، فقد أخذ جدي الغول ليوصله دون أن يعرف، وهكذا سُمينا بالغول”.
أما جدتي الأخرى، فكانت تحكي لي حكايات صباها هناك، والتي تنتهي هي الأخرى بالحسرة، فجدتي هذه فقدت الرؤية بإحدى عينيها، وحين سألتها قالت لي: “فرع شجرة من أيام البلاد دخل فيها وإحنا بنجري”، مضيفة “مسكوا سلحفاة وركضوا خلفنا في بيارات البلاد، لم نكن نعرف السلاحف، وماتت أختي الصغيرة رعباً”.
من هذه الحكايات كونتُ صورة عن أرضي، أرض الأمهات والجدات، لم أشعر يوماً أنها “أرض الآباء”، فنحن نتداول هاتين الكلمتين بشكل روتيني، دون قصد أو ربط حقيقي بوجودنا، على عكس موروث شعوب الجرمان الذي يفخر بأرض الآباء.
إن الحياة بدأت كأم، كان المكون الرئيسي للكون هو المياه، ففكرة الميلاد المائي تتكرر في الأساطير البابلية، تقول إحداها: “في تلك الأزمان الأولى، لم تكن سوى المياه”، كما نجد في الكتب السماوية الشيء ذاته، فتقول التوراة العبرانية: “وكانت الأرض خربة وخالية، وروح الرب ترف فوق وجه الماء”.
وهناك الآية القرآنية في خاتمة الوحي: “خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ” (٧).
إن بداية الحياة بالميلاد المائي لتشبه الجنين في رحم أمه، ولقد استقر الإنسان مع أمه الأرض حين تطور شكل الكون إلى ما هو عليه الآن.
وتسرد أسطورة عند شعب تاهيتي أن التصاق السماء بالأرض جعلهم ينجبون عدداً من الآلهة الصغار الذين عاشوا في ظلمة وضيق لشدة الالتصاق، فقرروا التمرد على الوضع بزعامة الإله “تاني” الذي رفع السماء بقوة ذراعيه حتى استقرت مكانها، ثم قال لتبق السماء بعيدة عنا، أما الأرض، فلتبق قريبة هنا أماً رؤوماً (٨).
إن الحضارة الذكرية التي نعيشها اليوم، هي حضارة نزاع دائم مستمر، تشكلت على أنقاض النظام الأمومي الذي أعطى العالم بدايته (٩)، لكنه اختلف كلياً الآن كأننا لم نعد نحن.
لقد تباعد البشر، وأصبحوا أصحاب قوميات وأعراق وملامح تنتمي لأسمائهم وأماكنهم، قد يجذبهم الرخاء وتطردهم الحروب، لتتكرر صورة اللاجئ بملايين النسخ والقصص المختلفة، لكننا جميعاً فقدنا نزعتنا الأولى نحو التجول، والتوق للبعيد والانتماء إلى كل الأرض، وضاقت الأماكن على أجسادنا وأرواحنا، وزاد تنظيرنا للجذور والانتماء الإثني ونسينا أننا طارئ زمني كما غيرنا من الكائنات، وأن الأرض سيدتنا أجمعين.
هوامش
(١) ساجان، كارل، 2000،كوكب الأرض “نقطة زرقاء باهتة – رؤية لمستقبل الإنسان في الفضاء، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والادب، الكويت، ص55
(٢) ساجان، المرجع السابق، ص57
(٣) روسو، جان جاك، 1984، محاولة في أصل اللغات، دار الشؤون الثقافية العامة (آفاق عربية)، العراق، بغداد، ص61
(٤) روسو، المرجع السابق، ص64
(٥) روسو، المرجع السابق، ص63
(٦) السواح، فراس، 1996، مغامرة العقل الأولي ” دراسة في الأسطورة- سورية وبلاد الرافدين، ط11، دار علاء الدين، دمشق، سوريا، ص34
(٧) السواح، مرجع سابق، ص35-36
(٨) السواح، مرجع سابق ، ص37
(٩) الأيوبي، يسري، ، المرأة عبر الزمن ، ج1، ص16، http://albizri.com/yusra/Women/WOMEN1.pdf
نُشرت ورقياً بمجلة “أوراق” الثقافية، عدد ربيع 2017