المقالة الثانية ضمن ثلاث مقالات كتبها الروائي البيروفي إثر زيارته للضفة الغربية بعنوان عام هو “تخريبات الاحتلال الإسرائيلي”

بارغس يوسا: الوقاية من الرعب بزرع الهلع في الضفة الغربية

ماريو بارغس يوسا الحائز على جائزة نوبل للأدب لعام ٢٠١٠

أحمد عبد اللطيف

روائي ومترجم وصحفي مصري

هل تعرف حضرتك أنه في عام 2012 لم يُقتَل ولا مستوطن واحد في مستوطنات الضفة الغربية؟ وأن معدل الجريمة ضد مستوطني المستوطنات في الخمس سنوات الأخيرة هو 4,8 في العام، ما يعني أن الأراضي المحتلة أكثر أمنًا بالنسبة لهم من مدن مثل نيويورك والمكسيك وبوجوتا لجيرانها؟ ولو وضعنا في الاعتبار أنه في الضفة الغربية يصل عدد المستوطنين إلى 370 ألف (ولو أضفنا القدس الشرقية لوصلوا لنصف مليون) وأن الفلسطينيين مليونان وسبعمائة ألف، فما من شك من أنه أقل الأماكن عنفًا في العالم، رغم تبادل إطلاق النار والهدم الممنهج والأحداث الإرهابية والاضطرابات التي ترصدها الصحافة.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

02/09/2017

تصوير: اسماء الغول

أحمد عبد اللطيف

روائي ومترجم وصحفي مصري

أحمد عبد اللطيف

يقيم بمدريد، صدر له خمس روايات والعديد من الكتب المترجمة من الإسبانبة والكثير من المقالات

في سلسلة من الريبورتاجات المنشورة بجريدة “الباييس” الإسبانية، يتأمل بارغس يوسا، النوبلي الشهير، في الاحتلال الإسرائيلي. هذه الحلقة الثانية، وقريباً سننشر الثالثة والأخيرة.
لقراءة الحلقة الأولى… هنا

سلوى دعبيس وجيرارد هورتون محاميان، هي فلسطينية وهو بريطاني أسترالي، وهما عضوان في مؤسسة لحقوق الإنسان تراقب إجراءات المحاكم العسكرية في إسرائيل المكلفة بمحاكمة الفتيان من سن 12 إلى 17 ممن اعتدوا على أمن الدولة. قضيت معهم الصباح في القدس وكانت من أكثر التجارب التي تعلمت منها.

هل تعرف حضرتك أنه في عام 2012 لم يُقتَل ولا مستوطن واحد في مستوطنات الضفة الغربية؟ وأن معدل الجريمة ضد مستوطني المستوطنات في الخمس سنوات الأخيرة هو 4,8 في العام، ما يعني أن الأراضي المحتلة أكثر أمنًا بالنسبة لهم من مدن مثل نيويورك والمكسيك وبوجوتا لجيرانها؟ ولو وضعنا في الاعتبار أنه في الضفة الغربية يصل عدد المستوطنين إلى 370 ألف (ولو أضفنا القدس الشرقية لوصلوا لنصف مليون) وأن الفلسطينيين مليونان وسبعمائة ألف، فما من شك من أنه أقل الأماكن عنفًا في العالم، رغم تبادل إطلاق النار والهدم الممنهج والأحداث الإرهابية والاضطرابات التي ترصدها الصحافة.  

يقول جيرارد هورتون “هذا النجاح الكبير يحسب لقوات الدفاع الإسرائيلية”. وهل يجب أن نهنئهم على ذلك؟ لا يتم ذلك إلا عبر خطة ذكية وباردة ومنفذة بمنهجية. وما عناصر هذه الخطة المطبّقة على الأطفال والمراهقين؟

عناصرها برنامج تعذيب منهجي، يتم تنفيذه بخبث وبطريقة غير ملحوظة. البرنامج عبارة عن وضع  هؤلاء السكان الشبان، من سن 12 إلى 17، تحت الاضطراب النفسي. من أجل ذلك هناك محاكم خاصة يراقبها محاميو هذه المؤسسة. المنهج يكمن في “برهنة وجود” القوات العسكرية الإسرائيلية في أي مكان، “وحرق الوعي” و”عمليات تعكير الحياة الطبيعية”. هذه الألاعيب صعبة الفهم يمكن تلخيصها في عبارة بسيطة: الوقاية من الرعب بزرع الهلع. (هذا المنهج يختلف عما يستخدمونه ضد البالغين، وخاصة المشتبه بإرهابهم، في هذه الحالة يلجأون لعمليات قتل انتقائية، وللتعذيب، ولأحكام بالسجن لسنوات طويلة، بالإضافة لحرق بيوتهم وسحبها منهم).

يتمتع الجيش بضابط مخابرات في كل منطقة بالضفة الغربية، وسلسلة فعالة من المخبرين المشتَرين بالرشاوي والابتزاز، يقوم كل هؤلاء بعمل تقارير تضم أسماء الشبان الذين يشاركون في المظاهرات ضد المحتل أو يلقون حجارة على الدوريات الإسرائيلية. عادة ما تحدث العمليات ليلًا، يقوم بها جنود مقنّعون يعلنون عن وجودهم بضجيج يصيب بالصمم، يلقون بالقنابل اليدوية أحيانًا بشكل جنوني لتنتهك البيوت، ثم يكسّرون كل الأشياء ويصدرون الأوامر بصراخ بهدف بث الرعب في العائلات، خاصة في الأطفال. العواقب دقيقة وواضحة، ولا يمكن توقعها. الشاب أو الطفل الموشى به يغمّون له عينيه ويقيدونه ويجرونه على الأرض إلى العربة، ويرفعون قدميه إلى أعلى ويضربونه بأقدامهم ليرهبوه. في وسط الاستجواب يفرضون عليه الرقود على الأرض ما بين خمس أو عشر ساعات ليذلوه ويرعبوه بالانتظار في الظلام. يتبّع المحقق بروتوكولًا محددًا: ينصحه أن يعترف أنه ارتكب إلقاء الحجارة، بهذا الاعتراف قد يقضي شهرين أو ثلاثة في السجن. ولو رفض، ربما تستمر محاكمته لفترة أطول: سبعة أو ثمانية شهور. ولو حُكم بأنه مذنب، سيكون الحكم أسوأ. وبعد هرسه هكذا، يمكن أن يقترحوا عليه أن يعمل مخبرًا لهم. وإن لم يؤد المهمة كما ينبغي، يهددونه بالانتهاك أو التعذيب، وهو أمر لا يجب أن يقع في حيز التنفيذ إلا في حالات استثنائية. لكن يكفي أن يهددوا البعض بأن سلوكهم قد يجبر الجيش على اعتقال ذويهم، أمهاتهم أو أخواتهم، مثلًا. وفي بعض الحالات يقبل الشاب أو الطفل هذا العرض، وعادة ما يخرج من هذه التجربة ممزقًا ومجروحًا ومضطربًا، يشعر بالعار من نفسه. هذه الحالة النفسية تقلل، بحسب مبرمجي هذه المنهجية، من خطورته، وتعيده مكسورًا. ومن الممكن أن تؤثر هذه الحالة المحطمة على بقية عائلته.

لذلك، لا يهم كثيرًا تصنيف المذنبين برماة الحجارة، إذ أن الهدف في النهاية هو إدخال الرعب والحذر المستمر في كل البيوت وكل الضواحي، ويتم ذلك من خلال الأطفال والمراهقين. بوضعهم تحت تهديد أن يكونوا ضحايا، بالقبض عليهم في منتصف الليل، بتكسير أوانيهم وأسرّتهم ومؤنهم، باعتقال أبنائهم او إخوتهم وأحفادهم، تغدو العائلات الحانقة أقل خطورة. ولنفس هذا الهدف يفرضون تحريمات هوجاء، وحظر تجوال مستمر، وإجراءات مباغتة تتجاوز الروتين وتفاقم الاعتداءات اليومية. الارتباك والفوضى يمنع أو على الأقل يقلل من المؤامرات. وكنتيجة لهذه الطريقة المباغتة والمسرحية والإجراءات المحيطة بها، بات سكان الضفة جدّ عزّل نفسيًا فلا ينظمون أنفسهم ولا يقومون بأي عملية. وهكذا خفتت أي مجازفة لإثارة خطورة جادة في تلك المستوطنات المسلحة جيدًا والواقعة، استراتيجيًا، في أفضل الأماكن.

يعاني الجيران بالضواحي والمدن المسيجة والخاضعة للمستوطنات من تحريمات صارمة تمنعهم من التنقل بين المستوطنات، ما يضطرهم للف لمسافات طويلة ليتواصلوا فيما بينهم. المستوطنون، في المقابل، تربطهم طرق حديثة لا يمكن لأحد أن يستخدمها إلا الإسرائيليون. إن عزل القرى والمدن الفلسطينية عن بعضها في مقابل سرعة التواصل بين المستوطنات ضمانة أخرى لتأمينها. حقيقةً، إن ثمة جرائم فظيعة تقع أحيانًا ضد المستوطنين، لكن لو التفتنا إلى الإحصائية غير الإنسانية لوجدنا أن ضحاياهم أقل عددًا مما يقع في العالم من حوادث سير. تبرهن إسرائيل هكذا أنه في القرن الـ 21 يمكن أن تكون دولة استيطانية وفي نفس الوقت آمنة جدًا.

ماذا يحدث عندما يقع هؤلاء الأطفال والشباب في يد القضاء؟ لأعرف ذلك، قضيت بصحبة جيرارد هورتون وسلوى دعبيس ساعات في أحد السجون بضواحي القدس، حيث تعمل محاكم محدثي السن العسكرية. مهمة طويلة أن تدخل حرم المحاكم، فعادة ما تخضع للتسجيل والسير في ممرات طويلة مسيجة مراقبًا بكاميرات ذكرتني بالدخول والخروج من قطاع غزة. 

الملفت أكثر من الأحكام نفسها هو الحديث مع آباء وأمهات وإخوة وأخوات الشبان الفلسطينيين الخاضعين للمحاكمة. سيدة من ضاحية بيت فجار حكت لي أن ابنها، 15 سنة، قضى سبعة شهور في السجن وأنهم، في الليلة التي جاء الجنود لاعتقاله، كسروا كل ما في البيت. لقد عانوا الأمرّين للسفر من بيت فجار إلى القدس. رغم ذلك، لا تزال عيناها تلمع من الفرحة وتبتسم طول الوقت: لقد أنهى ابنها فترة العقوبة وتنتظر أن ينادي القاضي على اسمه بعد دقائق ليعلن السماح له بالعودة للبيت.

ما من شخص آخر في هذه الصالة يبدي سرورًا مشابهًا. يحكي لي رجل طويل ونحيف أن له ابنين مسجونين -أحدهما 15 سنة والآخر 17-  وأنه لم يرهما حتى الآن. الرجل يقطع ثلاثة أيام ليصل من قريته وهو غير متأكد حتى إن كان سيتمكن من الحديث معهما اليوم. ترافقه ابنته، فتاة صغيرة وخجولة جدًا، ضربها الجنود بالقدمين ليلة القبض على الابنين وكسروا باب البيت، لأنها نسيت أن تطلعهم على تليفونها المحمول الذي كان في جيبها وربما كانت تصورهم به. 

النطق بالأحكام كان سريعًا. القاضي أو القاضية، برداء رسمي، يتحدثون بالعبرية فيما يترجم أحد الضباط للعربية. والمحامون يستخدمون العربية وتترجم للعبرية. المتهمون، الشبان بشعرهم المحلوق وبردائهم الأسود، يسمعون في صمت لمن يقرر مصيرهم. وسريعًا، تنفجر فتاة في البكاء، هي أخت أحد المتهمين. ومن دكة المتهمين تغرغر عيونهم فتمسحها أيديهم، فالبكاء قد يزيد الأمر سوءًا.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع