تشكّل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي سنة 1898، من عدد قليل من الرفاق. كان الإسم هو تكرار لما بات يُطلق على الأحزاب في البلدان الرأسمالية، ولم يكن مصطلح شيوعي متداولاً بعدُ، بعد أن عاد التيار الاشتراكي عن تسمية شيوعي كما وردت في البيان الشيوعي، والتي عللها ماركس بأنها أتت كنتيجة لتلوث مصطلح اشتراكي. وأصبح جزءاً من الأممية الثانية، متأثراً في رموزه بمنظورها للاشتراكية، حيث كان بليخانوف هو الزعيم الأبرز.
لينين كان من جيل أحدث، وكان يعتبر أن عليه أن “يصفّي الحساب” مع تيارات سائدة تدعو إلى الاشتراكية. وكان الشعبيون التيار الأقوى، لهذا عمل على تصفية الحساب معه في كتاباته الأولى. ومن ثم ركّز على التيار الاقتصادي الذي كان يؤسس لـ “ماركسية شرعية”. وربما كان مساره في بناء الحزب بدأ حينما كتب كراس «مهمات الاشتراكيين الديمقراطيين الروس»، داعياً الى تأسيس حزب، والبدء بجريدة لعامة روسيا. كان الهدف هو إسقاط القيصرية وافتكاك الحريات الديمقراطية، والدعوة إلى الاشتراكية. حيث كتب سلسلة مقالات تحاول الإجابة على سؤال: بمَ نبدأ؟ وفي محور الجواب كانت الدعوة لتأسيس هذه الجريدة لعامة روسيا، حيث تكون العنصر الجامع الذي تتحلّق حوله المجموعات الماركسية المنتشرة في روسيا. بالتالي سنلمس هنا كيف أن لينين اعتبر أن تصفية الحساب النظري مع الاقتصادوية التي هيمنت على الماركسية كان خطوة حاسمة من أجل الانتقال إلى بناء حزب البروليتاريا.
وإذا كان قد تشكّل الحزب، وعقد مؤتمره الثاني سنة 1902 (المؤتمر الأول كان سنة 1898)، وتشكّل مركز يقوده، وتصدر عنه جريدة، فقد شهد أول خلاف كبير تمحور حول المسألة التنظيمية، حيث كان السؤال هل نبني حزباً يضم كل من يقبل، ويكون “مرناً”، وواسعاً، أو نبني حزباً طبقياً منضبطاً ويتشكل من البروليتاريا، ويناضل من أجل تحقيق استيلائها على السلطة؟ وكان مثال الحزب المرن هو الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في البلدان الرأسمالية، التي باتت أحزاباً برلمانية، بينما كان لينين يريد حزباً ثورياً يقود نضالات البروليتاريا، ويطوّر الصراع ضد القيصرية من أجل إسقاطها. على ضوء ذلك تشكّل كل من تيار البلاشفة (الأغلبية) والمناشفة (الأقلية). توضّحَ هذا الصراع في الحزب أكثر بعد ثورة 1905، حيث ظهر أن الخلاف يتحدّد في فهم طبيعة الثورة، ودور الحزب الاشتراكي الديمقراطي فيها، كما أشرت قبلاً. فهل نلعب دور المساعد للبرجوازية أو نلعب دور القائد للثورة من أجل الدكتاتورية الثورية للعمال والفلاحين؟ وهو الأمر الذي كرّس الانقسام في الحزب ليصبح حزبان، بلشفي ومنشفي. ورغم محاولات التوحيد العديدة (التي قام في بعضها تروتسكي الذي كان قد مال نحو المناشفة ثم اتخذ موقفاً “ثالثاً”) فقد تعمّق الشرخ، لأنه ظهر أن كل طرف يعمل في سياق مختلف جذرياً عن الآخر. فالمناشفة يريدون انتصار البرجوازية، لهذا كانوا دائمي الدعم لها، بينما عمل البلاشفة على تطوير الصراع الطبقي وتعزيز التحالف مع الفلاحين من أجل الاستيلاء على السلطة. وكما أشرت، كان لدى لينين والبلاشفة تصوّر واضح عن تردد وجُبْن البرجوازية، وبالتالي عجزها عن تحقيق المهمات التي كان يجب أن تحققها، كونها تحققت من قبل البرجوازية في البلدان التي انتصرت الرأسمالية فيها (بناء الصناعة وإنهاء الإقطاع وتحديث البنى المجتمعية والتعليم والدولة). الفارق هنا هو بين طرف يسعى لدعم البرجوازية التي كانت فعلاً عاجزة ومترددة وجبانة، وأصلاً متداخلة مع كبار ملاّك الأرض والنظام القيصري، وطرف يعرف بأن ذلك هو منظور وهمي، وأن وضع روسيا يفترض أن تلعب البروليتاريا والفلاحون الفقراء، بالتحالف مع الفلاحين الدور المحوري في تحويل وضع روسيا من خلال الاستيلاء على السلطة.
يقول لينين: “معلوم أن نشاط الاشتراكيّين – الدّيموقراطيّين العمليّ يستهدف قياد نضال البروليتاريا الطّبقيّ وتنظيم هذا النّضال بمظهريه: الاشتراكيّ (النّضال ضد طبقة الرأسماليّين، النّضال الذي يرمي إلى القضاء على نظام الطبقات وتنظيم المجتمع الاشتراكيّ)، والدّيموقراطيّ (النّضال ضد الحكم المطلق، النّضال الذي يرمي إلى الظفر بالحرية السّياسيّة في روسيا وإشاعة الدّيموقراطيّة في نظام هذا البلد، السّياسيّ، والاجتماعيّ)”. ويكمل “إن الاشتراكيّين – الدّيموقراطيّين الرّوس قد بينوا دائماً بدقة تامة هذا الهدف من نشاطهم، وذلك منذ ظهورهم اتجاهاً اجتماعياً ثورياً مستقلاً؛ وأشاروا دائماً إلى مظهري نضال البروليتاريا الطّبقيّ، وإلى ازدواج مضمونه، وألحوا دائماً على الصلة الوثقى التي لا تنفصم عراها بين مهماتهم الاشتراكيّة والدّيموقراطيّة، هذه الصلة التي وجدت تعبيراً جلياً لها في الاسم الذي أطلقوه على أنفسهم” (لينين، «مهمات الاشتراكيين الديمقراطيين الروس»، كُتب سنة 1897). وتأسيساً على ذلك كان يعتقد بأن الحزب يجب أن يكون ثورياً، سرياً، ومتغلغلاً في البروليتاريا، وأن يكون هدف التحريض هو اقناع البروليتاريا والفلاحين الفقراء بأن مطالبهم لا تتحقق إلا بالاستيلاء على السلطة، من خلال النضال وسطهم، ومعهم، ومن أجلهم. وأن يلعب الحزب دور المثقف الجماعي، حيث يشكّل حلقات القراءة والتثقيف، ودور المنظم الجماعي بكل الأشكال التي تجعل البروليتاريا منظمة.
هذا هو الإطار العام لـ “الهدف” وللحزب الذي يحققه، الذي جرى الشغل عليه منذ البدء، وتعزّز بعد انقسام الحزب وتحوّل البلاشفة إلى قوة. لينين هنا، الذي كان يعرف جيداً عجز البرجوازية، كان يحضّر لأن يصبح حزب العمال والفلاحين الفقراء هو قائد النضال الشعبي، وأن يعمل على تطوير هذا النضال إلى أن يتحوّل إلى ثورة شعبية تطيح بالقيصرية. لهذا رفض الاقتصادية التي ركزت على القضايا المطلبية فقط، وحسم مع الرهان على دور قيادي للبرجوازية، بحيث يلعب الحزب دور المنظم للبروليتاريا والقائد لها وهي تسعى للإطاحة بالقيصرية. من هذا المنظور كانت ثورة أكتوبر هي نتيجة لتصور كان واضحاً منذ البدء، يسعى لأن تتنظم البروليتاريا وتقبل باسقاط القيصرية. ولينين يعتبر أن هذا هو دور الحزب، وليس “النضال” في البرلمان، رغم أنه لم يرفض البرلمانية بشكل تام، بل مارسها، لكنه اعتبر أن الظرف الموضوعي هو الذي يحدد المشاركة أو رفض المشاركة، وليس “الموقف المبدئي”. لهذا رفض المشاركة في الانتخابات خلال ثورة 1905، وشارك بعد أن فشلت الثورة، ولم يعد من بدّ سوى البرلمان لإيصال صوت البروليتاريا.
إذن، كان الحزب المنضبط الملتصق بالعمال والفلاحين الفقراء ضرورة، كما كان تصعيد نضالات الشعب بكل الأشكال الممكنة ضرورة كذلك. وظلت المسألة الأساس، والتي تتمثل في حدوث الثورة.
حدثت ثورة سنة 1905، وربما هنا تظهر عبقرية لينين، حيث لم يكن الحزب قوياً بما يكفي، والبروليتاريا لا زالت ضعيفة وغير منظمة، وكانت الثورة فلاّحية الطابع، والفلاحون يميلون ليس لتجاوز الرأسمالية بل يميلون للتملك وبالتالي يميلون إلى “انتصار الرأسمالية”. كان لينين يرى أن انتصار ثورة سنة 1905 يعني سيطرة الفلاحين على الدولة، ومن ثم السير في مسار رأسمالي. لم يكن يرفض هذه النتيجة ما دام الصراع الواقعي يفرضها، وكان يرى أن الانتقال إلى الرأسمالية عبر هذا الطريق، إذا كان ممكناً، سيسهل على البروليتاريا، بالضبط لأنه سيزيل كل أوساخ القرون الوسطى، ويفتح إلى تحقيق المهمات الديمقراطية. هذا الاحتمال وضعه لينين نصب عينيه، لكنه كان يعتقد بأن ثورة فلاّحية من غير الممكن أن تنجح. وانطلاقاً من هذا التحليل رفع شعار الدكتاتورية الثورية للعمال والفلاحين، قاصداً كما أشار، إلى ربط الفلاحين بالبروليتاريا ما دام أنه كان يعرف بأن انتصار البروليتاريا غير ممكن دون مشاركة الفلاحين. بالتالي كان هدف الشعار هو جرّ الفلاحين خلف البروليتاريا. وإذا كان قد اتخذ أبعاداً أوسع من ذلك، فلأن أخصامه حاولوا استغلال الأمر لتبيان أنه قد غيّر من شعاراته، وأنه بات يسعى لتحقيق انتصار البرجوازية. وهذا الأمر هو الذي جعل تروتسكي لا يرى فرقاً كبيراً خلال الثورة بين لينين والمناشفة، رغم أن لينين كان قد أوضح موقفه في كتاب ينتقد فيه تكتيك المناشفة (كتاب «خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية»).
لقد طرح لينين شعاراً في لحظة الثورة انطلاقاً من موازين القوى المشاركة فيها، وهدف من ذلك دعم الفلاحين، ومن ثم ربط العلاقة بينهم وبين البروليتاريا في نضالهما المشترك لإسقاط النظام القيصري. وكان يعرف أن على البروليتاريا أن تقود التحالف وليس الفلاحين. ولا شك في أن ذلك قد أسهم في توسيع الحزب، وتغلغله في البروليتاريا والفلاحين. وتحوّله إلى حزب واضح الرؤية، ومتماسك، وفاعل. وخلال كل هذه السنوات كان لينين يرفض التحالف مع البرجوازية، ويتناولها بالنقد العنيف، حيث حدّد تكتيك البلاشفة بكسب الفلاحين وشلّ تذبذب الفئات الوسطى وعزل البرجوازية. ولقد كشف مصالح كل الأحزاب التي وُجدت في روسيا، وموقفها من القيصرية، وممكنات مشاركتها في الثورة. وظل ينتقد بحدّة المناشفة الذين ظلوا يراهنون على البرجوازية.
بمعنى أنه إذا كان لينين يطرح “قيادة نضال البروليتاريا الطبقي” (والذي أضاف إليه فيما بعد الفلاحين الفقراء)، بهدف الاستيلاء على السلطة وتحقيق “المهمات الاشتراكية والديمقراطية”، فإنه والبلاشفة اعتبروا أن ثورة 1905 هي ديمقراطية الطابع، جوهرها هو الفلاحون، لهذا طرح شعاراً لهذه الثورة (رغم أن هناك من اعتبر أنه بات شعاراً عاماً) يقوم على تحقيق الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا والفلاحين، انطلاقاً من موازين القوى الطبقية، ودافع عن “إبعاد” البرجوازية عن قيادة الثورة، لأنها متذبذبة وستقبل بأقلّ الإصلاحات، فهي ترى في البروليتاريا والفلاحين الخطر الرئيسي عليها. وإذا كانت الثورة قد فشلت فقد كسب الحزب قوة معنوية كبيرة، ووجود مادي كبير، سمح له بأن يتوسع خلال السنوات التالية، وأن تصبح القوة الأكبر التي تستحوذ على نفوذ في صفوف الطبقة العاملة، وحتى لدى الفلاحين. فقد ظهر كحزب يدافع عن العمال والفلاحين وعامة الشعب، ويطرح التغيير الذي يحقق مصالح كل هؤلاء، ويناضل في صفوف العمال والشعب عموماً.
لهذا حين عادت الثورة من جديد سنة 1917 كان قادراً على أن يقود البروليتاريا، وأن يجذب قطاعات من الفلاحين (وكان منافسه حزب الاشتراكيين الثوريين، الذي كان ذو طابع فلاّحي، واعتبره لينين امتداداً للشعبيين الذين نشؤوا نهاية القرن التاسع عشر). حدثت ثورة شباط/ فبراير التي قادتها البرجوازية ووصلت إلى السلطة بالتعاون مع المناشفة وجزء من الاشتراكيين الثوريين. لكنها لم تحقق مطالبها، بل استمرت في الحرب، ولم تحقق الإصلاح الزراعي، أو تحسّن من أوضاع الشعب (وبالخصوص الطبقة العاملة). ومالت نحو الدكتاتورية كذلك. وإذا كانت قد هدأت الأمور بعض الشيء من شباط/ فبراير إلى حزيران/ يونيو، فقد أخذت الإضرابات والانتفاضات تتصاعد بعد إذ، وأخذ الجنود يفرون من الجبهة، وبالتالي عادت الحالة الثورية لتفرض ذاتها.
البرجوازية مدعومة من المناشفة سارت في السياسة القيصرية ذاتها، في وضع كان يعاني من احتقان شديد، وأزمة كبيرة أوجدتها المشاركة في الحرب، وأنتجت البطالة والفقر والجوع. لهذا كان محتماً أن تحدث ثورة أكتوبر. الأمر هنا لا يتعلق بقرار إرادي من فرد أو حزب، بل يتعلق بظرف موضوعي فرض انفجارها، بعد أن خانتها البرجوازية التي وصّفها لينين بأنها عاجزة، مترددة ومتذبذبة وجبانة، وأيضاً تخون. وهنا كان الخيار بين ثورة تضعف الدولة ويمكن أن تفضي إلى تفككها كما أشرت قبلاً، أو يتقدم الحزب الجذري لكي يستلم السلطة في سياق تحقيق المطالب التي يطرحها وضع الشعب. مطالب الخروج من الحرب، وحلّ مشكلة الأرض، والحرية.