“نحب البلاد
كما لا يحب
البلاد أحد”
الصغير أولاد أحمد
بعد سنوات من القراءة ومحاولة المراكمة المعرفية في الشأن الفلسطيني، وتحديداً الثقافي، أجد أن لدي ما أفخر به من شعبنا، بعد أن قدم ما قدم من أسماء وكتب، بعضها سيخلده التاريخ.
قد يبدو من الكلام محاولة للفصل بين الفلسطينيين ومحيطهم العربي؛ ليس هناك محاولة لمثل هذا الفعل المذموم على الإطلاق. ولكن فحوى القول هو أن فلسطين ولّادة من خصوصية قضيتها، ويحتمل إنتاج مبدعيها النقد، مثلهم مثل سائر المبدعين في العالم. وهنا لا بد من الإشارة بعناية إلى أن خصوصية الفلسطينيين تنبع من استمرار وجود الاحتلال، واستمرار معركة التحرر بأشكالها المختلفة؛ هذا الواقع يعطي المبدع الفلسطيني بعض الشرعية لقول أشياء ليس بوسع أي عربي قولها، اللهم إلا من انخرط في السياق الفلسطيني الثوري والسياسي والعسكري.
إميل حبيبي أحد هؤلاء الأسماء، خاض تجربة سياسية فيها من الأخطاء ما فيها، ولها من محاسنها ما لها، ومن الصعب جداً الخوض بنقد تجربته الأدبية باتكاء مقصود على السياسة، رغم أن أدبه اتسم تماماً بالسياسة، وذلك لكونه رجلاً متسقاً ومنسجماً مع نفسه تماماً.
وعليه، ليس نافعاً على الإطلاق تجريده عن السياسة، ولكن في أي سياق علينا وضع هذه السياسة، إن بمحاولات عتيدة يخوضها البعض للنيل منه، وطعنه بالخيانة بمسميات وأساليب مختلفة، أو بوضع الأمور في نصابها، ومراجعة تجربة الرجل كاملة، وتراجعاته الجريئة في وقت ما من حياته عن بعض ما رآه خطأ، وهنا من باب الندية، كم من مثقف عربي تجرأ على مراجعة مواقفة والتراجع عن بعضها؟!
بعضنا سينال منه، لأنه حصل على جائزة إسرائيل للأدب، ولكن علينا أن ننتبه لما قاله الرجل في فيلم «باق في حيفا» حول الجائزة: “في تلك الأمسية لم أشعر أكيداً بالفخر، في تلك الأمسية شعرت أن كاهلي ينوء تحت مأساة شعبي العربي الفلسطيني، ولكن علي أن أرتشف هذه الكأس، كأساً مرة، ولكني سأشربها من أجل شعبي”، فيما قال عن جائزة “فلسطين للأدب” التي منحها إياه ياسر عرفات إنها جائزة لبقائه في الوطن، حسب ما قال.
أبو سلام الذي رحل قبل 21 عاما، من مواليد حيفا، وقد بقي في مدينته، وأوصى أن يُحفر على قبره “باق في حيفا”، ربما لأنه يعلم خصوصية نضال أبناء داخل الداخل، ويريد لنفسه حتى وهو في القبر أن يبقى حالة مناضلة تعلن دائماً أنه الفلسطيني الباقي في بلاده، وأن لا مجال للدولة التي نشأت داخلها أن تتحلى بالصفاء الذي تطمح له الحركة الصهيونية.
وعطفاً على ما سبق، فمن أسوأ ما يحصل دوماً بكل ما يتعلق بأهلنا في الداخل الفلسطيني المحتل سنة 1948، أنهم معرّضون من بعض العرب للإدانة وأحياناً للخيانة حتى تثبت البراءة، أو تتغير المواقف في السياسة. وهنا لا بد من لعبة تراجيدية حصلت ولم تحصل، فكان يمكن أن يبقى إميل حبيبي خارج فلسطين، ويكتب أدبه عن المخيمات واللاجئين والثورة الفلسطينية. فيما كان يمكن غسان كنفاني أن يبقى في فلسطين، ويكتب مثل ما كتب إميل حبيبي. كان يمكن لجدي ابن حيفا أن يكون هو المتشائل.
يقول إميل حبيبي في لقاء أجراه معه الأديب السعودي محمد رضا نصر الله في برنامج “هذا هو” على شاشة “العربية” العام 1993: “نجاحنا في البقاء في وطننا، قد جنّب فلسطين مصير الأندلس ومصير اسكندرون، وأبقى التراث العربي واللغة العربية في فلسطين، في داخل هذه البلاد، ولم يعد من الممكن أن يزول الشعب العربي الفلسطيني من فلسطين ونحن أسهمنا في ذلك“.
هذا الكلام الواضح المباشر المختصر والمكثف، ربما لا يدركه الملايين في الوطن العربي، وربما ليس هناك من يريدهم أن يعرفوه، أن يعرفوا أن من بقوا في فلسطين، حرّموا على إسرائيل الوصول لهدفها الصهيوني داخل بلادنا، وأن ما أنتج من أدب فلسطيني في الداخل كان أحد أعمدة هذا التحريم والمنع.
إميل حبيبي أو أبو سلام أو المتشائل كما أشار لاحقاً في حوار له، هو الزمن الأول لفلسطين والزمن المستمر، والعقدة التي ينبغي للعرب فكها، وليس على الفلسطينيين تفكيكها، فهي ليست مسؤوليتهم، بمنتهى البساطة قضيتهم واضحة، الأرض محتلة، وهناك من بقوا في فلسطين ولم تنجح العصابات الصهيونية في تشريدهم، وهناك لاجئون؛ وبذلك كل فرد وكل جماعة من الشعب الفلسطيني تدفع ضريبة ما فرض عليها من تشريد وبقاء.
وختامي ختام كل فلسطين، أقتبسه من الصغير أولاد أحمد “ولو قتلونا/ كما قتلونا/ولو شردونا/كما شرّدونا/لعدنا غزاة/لهذا البلد”