يقف رئيس مكتب حماس إسماعيل هنية، في صورة تم تبادلها على وسائل التواصل الاجتماعي أمام الإطارات “الكاوشوك” المحترق في شوارع مدينة غزة، مرتدياً حذاءً رياضياً يناسب الحدث! وهو يتفقد الحرائق الصغيرة بنظرة رضا، فهم يوفرون عليه الحرائق الكبيرة.
وقد كان هنية قبلها بيوم ألقى خطاباً حماسياً يدعو إلى الانتفاض بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل سفارته من تل أبيب إلى القدس ما يعتبر بمثابة إعلان غير مباشر بأن القدس عاصمة لإسرائيل.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس لم يكن بعيداً بدوره عن الكاميرا والخطابات ولكن غير الحماسية والمحبطة ودون حذاء رياضي يتفقد به الرعيل الجديد من ثوار الانتفاضة.
الصورتان جاءتا رداً على حدث القدس ولكن مع فروق تليق بقيادي تحدى إسرائيل في ثلاثة حروب، وقيادي آخر قاد عملية سلام لأكثر من 20 عاما، والنتيجة واحدة؛ إنها الخطابات، إنه الكلام.
خطاب الأول يليق بماضٍ مقاوم، ويحتم عليه صورة مع الاشتعال حتى لو كانت لبضع إطارات، والثاني اختفى عن الأنظار بعد أن أهداه ترامب أكبر صدمة في حياته على الرغم من انصياعه للأمريكان لسنوات طويلة.
بالتأكيد ليس مطلوباً من حماس إعلان حرب جديدة بعد أن غاصت غزة في ركام ثلاثة حروب ماضية، بل ما هو مطلوب يجب أن يبادر إليه محمود عباس الذي طالما تفاخر بحراكه الدبلوماسي حتى آخر نفس، ونعته محبوه بأنه ثعلب سياسة إلى أن جاء دب السياسة بنفسه وقلب الطاولة الدبلوماسية على رأسه وأعلن السفارة في القدس، فيجب أن يتحرك عباس وهو الذي لم يتبقَ له الكثير في ولايته.
لا أحد يريد حرباً وهي التي بدأت في السابق لأسباب أقل قدسية بكثير مما يحدث الآن، كما ليس على حماس وقائدها تَمَثّل إرهاصات الحرب، وأن تنفخ في غزة وشبابها الحماسة، بل يجب أن تُظهر طبيعة نواياها في هذه المرحلة وأن تكتفي بالنفخ على “شمعات تورتة” ميلادها وهي صورة أخرى تم تداولها لمجموعة من أعضاء الحركة وهم يقطعون كيك الانطلاقة الثلاثين للحركة التي يصادف تاريخها شهر ديسمبر الحالي.
بقيت غزة لسنوات قرباناً على مذابح السلم والحرب، وعَجز القيادات وتحريض الفصائل الفلسطينية المسلحة التي تنادي الشباب العاري لمواجهة قناصة العدو على حدود قطاع غزة! فقد وصل بهم النكوص إلى استجداء الشباب الأعزل وهم الذين يمتلكون المكاتب والميزانيات والأسلحة والقرارات والرواتب!
كل فصيل منهم بحاجة إلى كبش فداء كي يزداد وقع خطاباته تأثيرا ويصبح الكلام الذي أتقنوه، لصداه الدم بدلاً عن الفراغ، وكله باسم غزة العزة والعروبة، وبذلك يتجرأ كل قيادي تبدو على ملامحه أموال المرحلة، ليخطب بالفقراء والمحاصرين أن يخرجوا بصدورهم ليثبتوا أن غزة هي حارسة العروبة والدم الفلسطيني والقدس.
لا لوم على الشعوب والشباب الذين يؤمنون بالقضية، فكلمة “فلسطين” لا تزال تدغدغ لديهم الحلم الوردي عن التحرير وثنائية الخير والشر المجردة، وتجعلهم ينزلون إلى الشارع من أجل القدس بعد سنوات طويلة من “مديح الكراهية” العربي العربي، فهذا حدث تاريخي وملكية القدس إنسانية قبل أن تكون عربية أو إسلامية، حتى لو بدت هذه الردود مألوفة ومُستعدٌ لها مسبقاً من قبل إسرائيل وأمريكا. لذلك سيبقى اللوم أنه لن يحدث ذلك غير المألوف، بل ستبقى التظاهرات عنواناً للأخبار وسط من يدفع غزة من جديد إلى المواجهة وهي التي أثخنتها الجراح، وبذلك ينفض عن نفسه مسؤولية الفعل لأنه يعتبر قرار ترامب نوع من الطقوس لا أكثر، وبالتالي يحتاج إلى طقوس من التضحية وليس التحرك الحقيقي “أكم من شهيد على أكم من مسيرة” وهكذا ينتهي الحدث.
ليس معقولاً أن تكون غزة كل مرة مطالبة بالدفاع عن كل شيء؛ القدس واغتيال القادة وكسر الهدنة وإضراب الأسرى وكل حدث.. لماذا غزة ؟ هل لأنه لن يصيبها جوع أكثر مما أصابها، ولا تدمير أكثر مما تم، ولا فقدان أكثر مما حدث، أم لأن أهلها آلفوا الرعب والحروب.
لماذا ننسى جميعاً أن من يعيش في غزة هم من البشر العاديين وليسوا فوق العادة؟! أفيقوا أيها القادة، ففي غزة يعيش الإنسان كما يعيش في الضفة والقدس ومصر والجزائر وأمريكا وإيران، وخطاباتكم التي تلقونها في عيد ميلاد أحزابكم وانطلاقاتها الجوفاء، فيها كثير من الكذب، بل تصل فيكم الجرأة أن تعبروا فيها عن جلَد أهل غزة وصبرهم، وتتناسون أنهم لم يعتادوا أبداً على رائحة الموت وصوته، وقد أحيا لديهم القصف الإسرائيلي الأخير قبل ثلاثة أيام رعب الماضي من الحرب وكثف رعب اللحظة الفيزيائية الآنية، وترك لديهم رعب القادم، إنهم يعيشون رعباً متراكماً ومضاعفاً، فاتركوهم وشأنهم كي يلتقطوا أنفاسهم.
أليست هناك مدن أخرى تراهنون على خرابها، مدناً شَبِعة ومتخمة، غير مدمرة وليست معتادة على دفع الأثمان الباهظة فتقبضون مقابلها في تحركاتكم السياسية!
إن غزة مدينة لا تزال عاطفية وحميمية وشجاعة، ولا تتعلم من تجاربها، وهي معذورة فالتجارب تتكرر وليس هناك مجال للإبداع في الرد على هذا التكرار سوى إعادة ذات الاستجابة، وسط قطع رواتب وحصار وفقر وبطالة وإغلاق معابر تحرمهم من السفر والدراسة والتغيير.
أي مدينة في العالم فيها معبر وحيد ألا وهو معبر رفح البري على حدود مصر يفتح سبعة عشر يوماً متفرقات طوال عام كامل وهو العام الحالي 2017، أما المعبر الآخر هو معبر “بيت حانون” مع “إسرائيل”، ويسمح بدخول حالات معينة وكثير منها يتعرض للابتزاز أو الاعتقال، هكذا يعيش مليونا شخص وسط حياة باهظة ودخل فردي متدهور، ينتظرون على أحر من الجمر أي خبر يخفف عنهم أعباء الحصار والخوف والمشاكل التي أكلت شبابهم وأحلامهم وأيامهم.
إن قيادات غزة والضفة الغربية برئيسها؛ يعيشون خريف أوقاتهم لذلك تبدو التضحية بالشعب أسهل عليهم من أي وقت مضى، والإعلام نادراً ما يجرؤ على النقد وسط منابر لها أجنداتها، ومعارضة مجتمع مدني تقضي وقتها في استعراض نفسها ومناصبها الجديدة فهي الأخرى تعيش خريفها وغير قادرة على تغيير الفساد والظلم والترهيب الذي يكون في لحظة ما مبرراً لاستمرارها.
كل هذا الخريف اتسع واستطال وغطت أوراقه المتساقطة الناس حتى انحشرت في أفواههم، لذلك حين خرج قائد حماس في غزة يحيى السنوار لأول مرة يطالب بالمصالحة الوطنية، أعلنت الجماهير عليه الحب في ليلة واحدة ليس لأنه مختلف بمقدار أنهم غرقى يحتاجون إلى من يمدهم بالأمل، ويعطيهم قبلة الحياة.
وهكذا كان.. إلا أنه في معمعة المصالحة، ومضي هذا الرجل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه في حركته وفي غزة أمام ند متلوّن وكاره لغزة ومحب للسلطة ألا وهو عزام الأحمد الذي أفشل في الماضي جولات عدة من المصالحة ويسعى اليوم بكامل قوته لذلك، ظهر ترامب قاطعاً كل هذا السعي، وألقى بصخرته، معلناً انتقال سفارته إلى القدس.
مجنون آخر في العالم يريد أن يدخل التاريخ ويراهن أن لا أحد سيفعل شيئاً، وبالتأكيد متوقعاً أن من غزة ستخرج أقوى الردود، وبالفعل في نهار وليلة أصبح هناك أربعة شهداء، وعشرات الإصابات بينهم رضيع جريح ذكرتني صوره، ربما بسبب تدويرة وجهه بالطفلة ايمان حجو التي استشهدت في قصف إسرائيلي عام 2001، وبقيت للأبد أيقونة شهداء انتفاضة الأقصى، إلا أن ذلك لا يمنع أن أتخيلها كيف كانت ستبدو الآن وهي تبلغ من العمر 16 ربيعاً. لتتوالى الألقاب فالشهداء الأربعة أصبحوا بدورهم شهداء القدس وكأننا بهذه الإضافات اللُغوية سنواسي عائلاتهم أو سنخفف من الفقد، فنحن أيضا نتقن الشعارات والتجمل بالوطنية كي نغطي على ألمنا.
نعم.. على الدوام يخرج من غزة أقوى ردود الفعل ليس لأنها أقوى المدن، بل لأنها أتعسها والتعاسة تحمل في طياتها دائماً براءة الشجاعة، ويدرك جيداً هؤلاء القادة مقدار هذه التعاسة، بل هي رهانهم، فهؤلاء يخرجون بحافلات مخصصة وقت فتح معبر رفح البري وسط آلاف العالقين دون أن ينظروا خلفهم إلى المعاناة التي يتراكبون عليها، وكلما زادت معاناة وتضحية أهل هذه المدينة تزيد حافلاتهم وأحذيتهم ارتفاعاً، ليدخلوا إلى الرئيس السيسي الذي ترك غزة تموت طوال 51 يوماً في حرب 2014 دون أن يفتح الحدود، ويركضون إلى عزام الأحمد الذي لا يحب إلا نفسه ورئيسه ورؤساء رئيسه، ويركضون إلى المخابرات المصرية التي عذبت وسجنت ولا تزال المئات من أبناء غزة، مشددة الحصار على البقية.
نحن أصبحنا نداهات حرب، بل حفاري قبور مهرة، كلنا نعتاش على السياسة والأخبار والشهداء وخوف الآخرين، نعم قد تأتي الصدفة ونموت معهم كقادة وصحافيين وكتاب، ولكن بالأساس هذا الشعب هو من يواجه المدفع من أطفال ومقاومين يحملون الحلم، ونساء وشيوخ.
ولا يوجد لدى هؤلاء الناس ترف سوى شبكة الإنترنت “في حال توفر الكهرباء بالطبع” يسافرون عبرها إلى عوالم مختلفة، لكن الحياة خارج هذه الشاشات يكبلها الفقر ومنع السفر وإغلاق المعابر وطائرات الموت والعتمة وعائلات مزقتها المشاكل والحاجة، ليأتي إسماعيل هنية وينادي بالهبة الجماهيرية ويتفقد الرعية “بالكوتش” الرياضي، وأبو مازن يكاد يغطي وجهه بيديه كما يفعل المتهمون وهم يمرون أمام الكاميرات، وحرياً به أن يفعل ذلك بعد سنوات طويلة من إيمان بالدبلوماسية والحل السلمي، وقد سقى الآخرين هذا الدواء الذي حوله ترامب إلى سم ليس بأسلحته بل بالدبلوماسية أيضا.
أعزائي العرب والمتحمسين ستمر هذه الموجه كما غيرها وسيكتب التاريخ أن مدن العالم شهدت تظاهرات وسقط شهداء في غزة، ولكن في لحظة المستقبل تلك ونحن نقرأ كتب التاريخ سنقرأ أيضاً أن سفارة أمريكا باقية في القدس، وأنه كان بمثابة الإعلان الأول للقدس عاصمة ”إسرائيل”.
قبل خطوة ترامب مباشرة كان مخ الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح قد توزع على القبائل حين قتله حلفاء الأمس من الحوثيين، ولم يمر يوم واحد إلا ونسيه العالم العربي، ومثلها مرت موجة الهجوم على غزة والألم لسقوط الشهداء، وهكذا ستمر موجة الغضب من ترامب، وستبقى مجرد صور تعرضها الفضائيات في برنامج “حدث في مثل هذا اليوم”، لا بل سيضاف إلى ذاكرة هذا اليوم أن لأول مرة وفداً بحرينيا رسمياً يزور القدس بمعية إسرائيلية ويتحدث أحد أعضاء الوفد ممن يرتدون العمائم الدينية لوسيلة إعلام إسرائيلية بأن زيارتهم بمثابة رسالة سلام للعالم.
يبدو أن الشرق الأوسط يركض لنهايته هو الآخر آخذاً معه العروبة والقومية والوطنية، فلم يفعل الربيع العربي سوى أنه رفع الغطاء عن خريف كان دائما ينتظر الظهور..