إرنستو ساباتو: العالم يعيش أزمة روحيّة (ترجمة)

Ernesto Sabato

أحمد ليثي

باحث ومترجم مصري

وهكذا، سيكون من السخيف جدًا أن يُطلب من أي فنان أن يفسر عمله، هل تتخيل بيتهوفن يحلل أي سيمفونية من سيمفونياته، أو أن كافكا يفسر ما الذي كان يقصده فعلًا براويته «المحاكمة»؟ فكرة أن كل شيء يمكن أن يُفسر بطريقة عقلانية هو السمة الرئيسية للعقلية النموذجية للوضعية الغربية في العصر الحديث، عصر يبالغ في قيمة العلم والعقل والمنطق، ولكن هذا الشكل من الثقافة لا يمثل إلا لحظة قصير في التاريخ البشري.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

11/01/2018

تصوير: اسماء الغول

أحمد ليثي

باحث ومترجم مصري

أحمد ليثي

أجري هذا الحوار لمجلة “يونسكو كوريير” في عام 1990، ورغم مرور 27 عامًا على الحوار، إلا أنه لم يفقد راهنيته، لا يزال العالم يعاني من الحروب المحتملة، ولم يتعاف من الكارثة الروحية التي ألمت به، والتي كان ساباتو يدركها، منذ دخول أوروبا عصر الثورة الصناعية. وُلد ارنستو ساباتو في بوينس أيرس بالأرجنتين عام 1911، والتحق بكلية العلوم الفيزيائية والرياضيات بجامعة لا بلا تا، وحصل على درجة الدكتوراة في الفيزياء. ورغم عمله في جزء كبير من حياته في الأبحاث الفيزيائية إلا أنه لم يجد فيها شغفه الخاص الذي وجده في الأدب، ذلك أن الأدب -كما يقول- يستطيع التعبير عن شكوك الإنسان تجاه الله والقدر والحياة. وهو أحد عظماء كتّاب الإسبانيّة، سمّته جريدة “إل باييس” بـ” آخر الكتّاب الكلاسيكيين في الأدب الأرجنتيني”.

المترجم

لقد كتبت العديد من المقالات، لكن الأكثر أهمية كانت مجموعة مقالات عنونتها بـ «الإنسان والآلة»، حول الآثار غير الإنسانية للعلم والتكنولوجيا. كيف تأتّى لعالِم مثلك أن يرى الأمور بهذا الوضوح؟

رغم دراستي لتخصصات الفيزياء والرياضيات، التي قدمت لي نوعاً من النظرة التجريدية والملاذ المثالي في “جنة أفلاطونية”، بعيدًا عن فوضى ذلك العالم، لكني سرعان ما أدركت أن الإيمان الأعمى بالفكر الخالص والعدل والتقدم، الذي يتحلى به بعض العلماء، جعلهم يتغاضون، وفي بعض الأحيان يحتقرون، الجوانب الأساسية في حياة الإنسان، كاللاوعي والأساطير التي ترقد تحت أصول التعبير الفني. وباختصار، لقد وجدت الجانب الخفي في حياة الإنسان، والذي كنت أفتقده تمامًا في عملي العلمي البحت -أي أني وجدت مستر هايد الذي يحتاجه كل دكتور جيكل كي يغدو فرداً كاملاً- في الرومانسية الألمانية، وفوق كل ذلك، في الوجودية، والسريالية. وهكذا، صرفت نظري عن اللوغاريتمات والأوعية الدموية، لأنظر صوب وجه الإنسان، ومن حينها، لم أستطع أن أولي وجهي عنه. 

لقد تمكّن بعض الكتاب المعاصرين العظام من إقامة تصالح بين العلم والإبداع، على ما يبدو، غير أن هذا لا يقلل من اعتقادي أن عصرنا يتسم بتناقض ملحوظ بقوة بين العلم والدراسات الإنسانية، والذي بات غير قابل للمساومة اليوم. لقد انحسر العلم وتراجع تراجعًا أولمبيًا، عازلًا الإنسانية، منذ عصر التنوير وأيام الموسوعات، وفوق كل ذلك، منذ نشأة الوضعية. كما أن السيادة المطلقة للعلم والتقدم على معظم سنوات القرنين التاسع عشر والعشرين قد قللا كثيرًا من قيمة الفرد، لدرجة أن جعلاه ترساً في آلة ضخمة. ولا سيما أن النظريتين الرأسمالية والماركسية -على حد سواء- قد ساهما في نشر هذه النسخة المحرّفة، والتي مفادها أن الإنسان الفرد ينصهر في المجموع، وأن سرّ الروح يقلّ لأنها باتت قابلة للقياس الكمـي بالانبعاثات الإشعاعية.

لقد نشأ في القرن التاسع عشر تيار فلسفي قوي يشكك في الصرح العقلاني الضخم الذي أسسه هيجل، وادّعى أن فلسفته تسحق الفرد، لقد كنا نفكر في كيركجارد، عن أي فيلسوف قد كتبت على نحو واسع؟

كيركجارد هو أول مفكر تساءل ما إذا كان يجب على العلم أن يكون له الأولوية على الحياة، لكن الإجابة التي جاءت بحزم، هي أن الحياة يجب أن تأتي أولًا. ومن حينها، زُحزحت الذات التي أُلّهت من قبل العلم كمركز للكون، واستُبدلت بالموضوع، موضوع الإنسان الذي هو من لحم ودم. وهذا ما قاد كارل ياسبرز ومارتن هيدجر، خلال القرن العشرين لأن يتبنا الفلسفة الوجودية، التي تقول أن الإنسان لم يعد مراقباً علمياً نزيهاً، لكنه ذات مكسوة باللحم، ومقدّر له أن يموت، وهو مصدر التراجيديا والميتافيزيقا، اللتان تعّدان أعلى أشكال التعبير الأدبي.

لكنهما ليسا الوحيدين اللذين كتبت عنهما؟

بالطبع لا، لكنهما في رأيي الأكثر أهمية بسبب البعد المأساوي والمتعالي في كتاباتهما، لكن للمرء أن يعتقد أيضًا أن رواية «مذكرات قبو» لدوستويفسكي كانت خطبة لاذعة مكسوة بكراهية كبيرة. لقد استنكر دوستويفسكي العصر الحديث، وعبادة التقدم.

لقد ولجنا إلى الأدب الآن.

نعم، لأن الرواية تستطيع التعبير عن أشياء أوسع من نطاق الفلسفة أو البحث، كشكوكنا المظلمة تجاه الإله، والقدر، ومعنى الحياة، والأمل. الرواية تجيب على كل تلك الأسئلة، ليس بالتعبير عن الأفكار ببساطة، لكن من خلال الأسطورة والرمز أيضًا، أي من خلال الاعتماد على الخصائص السحرية للفكر. رغم ذلك، كثيرًا من الشخصيات في الروايات هي حقيقة واقعية تمامًا. هل يبدو أن دون كيشوت غير واقعي؟ ثم إذا كان الواقع له أي علاقة بالأبدية، إذن فإن هذه الشخصية التي وُلدت في مخيلة سيربانتس تغدو حقيقية أكثر من الأشخاص الذين يحاوطونا، ذلك أنها شخصية خالدة.

وهكذا، الأدب يفسر الواقع؟

لحسن الحظ، أن الشعر والفن لم يدّعيا مطلقًا الفصل بين العقلاني وغير العقلاني، بين الإدراك والحكمة، بين الحلم والحقيقة. والحال أن الحلم والفن والأسطورة لديهم مصدر مشترك في اللاوعي، ذلك أنهم يكشفون عن عالم لا يمكن أن يتم التعبير عنه بأي شكل آخر. وهكذا، سيكون من السخيف جدًا أن يُطلب من أي فنان أن يفسر عمله، هل تتخيل بيتهوفن يحلل أي سيمفونية من سيمفونياته، أو أن كافكا يفسر ما الذي كان يقصده فعلًا براويته «المحاكمة»؟ فكرة أن كل شيء يمكن أن يُفسر بطريقة عقلانية هو السمة الرئيسية للعقلية النموذجية للوضعية الغربية في العصر الحديث، عصر يبالغ في قيمة العلم والعقل والمنطق، ولكن هذا الشكل من الثقافة لا يمثل إلا لحظة قصير في التاريخ البشري.

يبدو أنك تعتبر أن عصرنا هو المرحلة النهائية للفكر الحديث الذي يبدأ من منتصف القرن التاسع عشر وينتهـي بعصرنا الحالي؟

لا يجب أن نخلط الموضات الأدبية مع الاتجاهات العامة للفكر، ذلك أن حركة الأفكار الشاسعة والمأساوية تتسم بالتقدم والتقهقر، بالانحراف والتيارات المضادة. مع ذلك، يبدو واضحًا أننا نشهد نهاية عصر، أو أننا نعيش أزمة حضارة، حيث يوجد نوع من المواجهة بين القوى الأبدية من العاطفة والنظام، أو بين الأخلاق والعاطفة أو بين أبولونيوس وديونيسيوس.

هل يمكن أن نجد حلًا لهذه الأزمة؟

الطريقة الوحيدة التي يمكننا الهرب بها من هذه الأزمة المروّعة، التي يعاني فيها الإنسان من الآلة الضخمة، المتورط فيها والتي تسحقه سحقًا، هي بانتزاع الحياة. لكن في الوقت نفسه علينا أن لا ننسى، في فجر ألفية جديدة، أن العصر لا ينتهـي في اللحظة نفسها لكل شخص، ذلك أنه عندما كان التقدم في أوج ازدهاره في القرن التاسع عشر، كان كتاب ومفكرون مثل دوستويفسكي ونيتشة وكيركجارد، قد سبقوا عصرهم بالفعل، وأبدوا نظرة تشاؤمية من الكارثة التي كانت تنتظرنا، والتي كان كافكا وسارتر وكامو يعبرون عنها، هذا على الرغم من نظرة العلماء المتفائلة.

ألهذا ترفض مفهوم “التقدم” في الفن؟

الفن لا يحرز أي تقدم أكثر مما يفعل الحلم، وللأسباب نفسها، هل كوابيسنا اليوم تعد متقدمة عن تلك التي كان أنبياء العهد الجديد يرونها؟ نستطيع أن نقول أن رياضيات أينشتاين متقدمة بشكل كبير عن رياضيات أرخميدس، لكن لا يمكن أن نقول عن «عوليس» جيمس جويس متقدمة بشكل كبير عن أسطورة «الأوديسة» لهوميروس. أتذكر أن إحدى شخصيات بروست كانت مقتنعة أن كلود ديبوسي أفضل من بيتهوفن لمجرد أنه قد وُلد بعده، لكن لا يحتاج المرء أن يغدو عالم موسيقى ليقدّر تهكم بروست الساخر في تلك الفقرة. صحيح أن كل فنان يطمح تجاه ما يمكن أن نسميه الكمال، أو تجاه قطعة من الكمال، سواء كان نحّات مصري في عصر رمسيس الثاني، أو فنان يوناني في العصر الكلاسيكي، أو دوناتيللو. لهذا السبب لا يوجد تقدم في الفن. هناك فقط تغير وانطلاقات جديدة، لا تتوقف فقط على أحاسيس هذا الفنان أو ذاك، لكنها تتوقف أيضًا على رؤية كل عصر أو ثقافته، هناك شيء واحد فقط مؤكد، وهو أنه لا يوجد فنان في وضع أفضل من الآخر أو بإمكانه تحقيق تلك القيم المطلقة لأنه ببساطة قد وُلد متأخرًا. 

لذا، ألا تعتقد أن هناك جماليات كونية؟

دائمًا ما تكون الجماليات منعكسة في نسبية التاريخ، ذلك أن كل فترة تاريخية تهيمن عليها قيم دينية واقتصادية وميتافيزيقية معينة، وبالتالي تصبغها بألوانها. سنجد أن التماثيل الضخمة والكهنوت الذي أقرّه رمسيس الثاني مثلًا، تمثل الحقيقة أكثر مما يمثلها تمثال واقعي ما، وذلك في نظر الناس الذين يعيشون في ثقافة دينية، تنشغل بشكل أساسي بالحياة الأبدية. وهكذا، يعلّمنا التاريخ دائمًا أن قيماً مثل الحق والجمال تتغير من فترة لأخرى، وأن الثقافة البيضاء والثقافة السوداء تتأسسا على معايير مختلفة، وأن سمعة الكتاب والفنانين والموسيقيين دائمًا ما تكون مادة مرهونة بتقلبات البندول.

إذن، لن يكون ثمة مبرر للحديث عن تفوق ثقافة على أخرى؟

لقد قطعنا شوطًا طويلًا من اليقين المتغطرس للنظرية الوضعية، ومن فكر الأنوار عمومًا. لكني عندما تابعت عمل عالم الاجتماع ليفي بريل، الذي أكّد بكل أمانة بعد 40 عامًا من البحث، أن ليس ثمة تقدم في حركة الفكر من فكر أسطوري إلى فكر منطقي، وإنما كان لا بد من التعايش بينهما في نفس الإنسان، وأنه يجب علينا النظر إلى جميع الثقافات على أنها تستحق الاحترام، والحق أننا قد أنصفنا مؤخرًا الثقافات التي كنا نسميها سابقًا ثقافات بدائية.

أنت غير راض عن التعليم المتاح حاليًا في الجامعات والمدارس، ما الذي يفتقر إليه في اعتقادك؟

اعتدت -حينما كنت طفلًا- أن أبتلع جبلاً من الحقائق، التي كان علي أن أتخلص منها بسرعة كلما استطعت إلى ذلك سبيلًا، ولأضرب لك مثلًا، كنت بالكاد أتذكر رأس الرجاء الصالح، ورأس هورن في مادة الجغرافيا، وربما كان ذلك لأن الصحف عادة ما كانت تذكرهما. قال شخص ذات مرة أن الثقافة هي ما يتبقى حينما تنسى كل شيء آخر، لذا، فإن التعلم يعني أن تأخذ القليل، أن تكتشف، وتبتدع. إن كان على الناس أن تمضي قدمًا، فإنها يجب أن تشكل رؤاها الخاصة بها، حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب الأخطاء والتقهقر للبداية مرة أخرى، الأمر هو أن الناس يجب أن تكتشف طرقاً وتجارب بوسائل أخرى، وإلا سنظل ننتج أعداداً هائلة من العلماء في أحسن الأحوال، أو مثقفين ببغاوات يجترون الجمل الجاهزة من الكتب في أسوأ الأحوال. صحيح أن الكتب أداة رائعة للمعرفة، بشرط ألا تكون عائقًا يمنعنا من متابعة بحوثنا.

كيف ترى دور المعلّم؟

أن يولّد الكلام. ذلك أنه كـي تتعلم يعني أن تتطور، أن تُخرِج ما هو موجود في شكله البدائي، أن تدرك الاحتمالات. بيد أن هذا العمل نادرًا ما يتم من خلال المعلّم، وربما هذا هو الأصل في كل أخطاء نظامنا التعليمي. والحق أن التلاميذ يجب أن يعتادوا أن يسألوا أنفسهم، وأن يقتنعوا بجهلهم وجهلنا، وبالتالي سيكونون مستعدين، ليس فقط لطرح الأسئلة وإنما لأن يفكروا بأنفسهم، حتى وإن كانوا غير متفقين معنا، كما أنه من المهم جدًا لهم أن يكونوا قادرين على ارتكاب الأخطاء، ويجب علينا أن نتقبل منهم تلك الأسئلة والطروحات التي تبدو غريبة في بعض الأحيان. نظرًا لهذه الحالة الذهنية، سيتفهم الطلاب حينها أن الحقيقة معقدة بشكل لا نهائي وأكثر غموضًا من تلك المنطقة الصغيرة التي تشملها معرفتنا، وكل شيء سيأتي بالتتابع بعد ذلك، وهذا هو ما يثير الأسئلة واليقين، ذلك أن المزج بين التقاليد والابتكار هو الذي يؤسس لديناميكية الثقافة. وكما قال كانط ذات مرة، ليس على الناس أن تتعلم الفلسفة، لكن عليهم أن يتعلموا كيف يتفلسفوا، وهذا ما أدركه أفلاطون أيضًا في محاوراته، التي كانت تعتمد منهج التهكم والتوليد، عندما كانت الأسئلة تُثار بسبب وعينا الأساسـي بجهلنا.

أيمكن أن تضرب لنا مثلًا؟

عندما كنت أسافر عبر غابات باتاغونيا، منذ وقت طويل جدًا، أرتاد سيارة جيب مع مأمور الغابات، الذي أخبرني كيف أن الغابات تتناقص تدريجيًا بفعل حرائق الغابات المتعاقبة، لكنه لفت نظري إلى الدور الدفاعي التي تقوم به أشجار السرو، والتي تحوّل نفسها لجيش دفاعي يضحّي بنفسه لتأخير انتشار النار في الغابة ويحمي بذلك الأشجار الأخرى، ما جعل الرجل يقارن تلك الأشجار بالأبطال الخارقين. بيد أن هذا جعلني أتساءل ماذا لو أننا اعتمدنا تلك الطريقة في تعليم مادة الجغرافيا، لو أننا ربطنا الصراعات بين الفصائل، وغزو المحيطات والقارات، بتاريخ الإنسان الذي يعتمد بطبيعة الحال على البيئة الأرضية. أظن أن هذه هي الطريقة التي ستجعل التلاميذ تلتقط فكرة المغامرة الحقيقية، بتصوير تلك المعركة المثيرة ضد القوة المعادية للطبيعة والتاريخ، وسيبتعدون بذلك عن الحمل الثقيل للمعارف الموسوعية، والأفكار المعبأة مسبقًا. وهكذا، ستتجدد المعرفة بشكل دائم، عندما نمنح كل تلميذ شعور الاكتشاف والمشاركة في مغامرات العصور القديمة. ولأضرب لك مثلًا، لو أنك تريد أن تحفر في عقول الأطفال نقشاً لا يمحى عن الجغرافيا المعقدة للقارة الأمريكية، كتجربة معيشة، لن تكون الطريقة المثلى أن تعلمهم إياها عن طريق سرد مغامرات المستكشفين العظام مثل فرناندو ماجلان أو فاتحين مثل إرنان كورتيس. الأمر هو أنك يجب أن تشكّل لا أن تتشكّل، كما قال ميشيل دي مونتين “التعلم بالقلب لا يكون تعلمًا”. ما التأثير الذي سيتركه كتاب ثمانين يومًا حول العالم لجول فيرن على المراهقين في مادتي الجغرافيا والإثنولوجي؟، يجب علينا بدلًا من ذلك أن نثير الدهشة بشأن الأسرار الغامضة للكون، وأني أعتقد أن كل شيء في الكون مدهش لو أنك تأملته، لكن الألفة تجعلنا غير مبالين ولم يعد شيئًا يبهرنا بعد الآن، لذا، علينا ان نعيد اكتشاف حس التساؤل لدينا.

لقد اقترحت طريقة التعلم من الأحدث إلى الأقدم، بداية من الحاضر، وصولًا إلى الماضي؟

أؤمن أن الطريقة المثلى لإثارة اهتمام المراهقين بالأدب هو أن تبدأ بالكتاب المعاصرين، فعادة ما تكون لغتهم واهتماماتهم قريبة من آمال التلاميذ ومخاوفهم، بعد ذلك سينتقل اهتمام التلاميذ تلقائيًا إلى ما كتبه هومر وسيربانتس عن الحب والموت، وعن الأمل واليأس، وعن العزلة والشجاعة، وهذا هو ما ينطبق على دراسة التاريخ أيضًا، بقراءة المشاكل الحالية على ضوء جذور الماضي.

كما أني أؤمن أيضًا أنه من الخطأ محاولة تعليم كل شيء. فقط يجب تعليم بعض المشاكل الرئيسية التي تكون كافية لتأسيس هيكل أساسي، وسيكون من المفيد أن يقرأ التلاميذ بعض الكتب القليلة، لكن عليهم أن يقرأوها بشغف، هذه هي الطريقة الوحيدة لتجنب السير في مقبرة من الكلمات الميتة، لأن القراءة ستكون مفيدة لو أنها لمست وتراً في عقل القارئ، لكنها لن تكون كذلك إذا كانت نوع من التعلم شبه الموسوعي، المرتبطة دائمًا بالتعلم الكتابي، ما يجعل الأمر شكلاً من أشكال الموت، كما لو أنه لم يكن هناك ثقافة قبل أن يخترع جوتنبرج المطبعة.

لسنوات، كنت تشير إلى الخطر المتأصل في الأسلحة النووية، وإلى سباق التسلح والمواجهات الأيديلوجية، ألم تنزع الاضطرابات التي نشهدها هذه السنوات، وتحديدًا في الشهور الحالية شيئاً من قوة هذه الرسالة؟

لست متأكدًا من هذا. وقبل كل شيء، يجب أن نعترف بحقيقة تكاثر أعداد الأسلحة النووية، الكثير من الدول تمتلك بالفعل قنابلها الذرية، بالإضافة إلى سلسلة من ردود الأفعال التي تبدأ ببعض الأعمال الإرهابية غير المسؤولة والتي لا يمكن حصرها، لكن هذا فقط قمة جبل الجليد، والذي يبدو وحشيًا على أي حال. غير أن ما يقلقني حقًا هو الكارثة الروحية التي تواجه عصرنا، والتي هي نتيجة حزينة لقمع قوى اللاوعي في المجتمع المعاصر. وأني أرى دليل ذلك في تكاثر كل أنواع الأقليات الاحتجاجية، كما أني أراها في تاريخنا الجماعي. للأسف نحن نعيش في عصر مكروب وعصابي وغير مستقر، ومن ثم تواتر الاضطرابات النفسية وتصاعد العنف واستخدام المخدرات. بيد أن هذه مشكلة فلسفية وليست أمنية. لكن على الناحية الأخرى، وحتى وقت قريب جدًا لم تكن المناطق الهامشية من العالم مصابة بهذه الظاهرة، ذلك أنه في الشرق على سبيل المثال، كما في إفريقيا وأوقيانوسيا، ظلت التقاليد الفلسفية والأسطورية تحافظ على نوع من التوائم بين الإنسان والعالم. 

إن الفوضى المفاجئة، والتي لم يسبق لها مثيل في القيم والتكنولوجيا، قد ألحقت الدمار بأوروبا، كما حدث خلال الثورة الصناعية، عندما أغرق ملاك محالج القطن في مانشستر السوق ببضائعهم من القطن الرخيص، وقد عرف الناس وقتها كيف ينسجون المنسوجات الرائعة. هذه الكارثة العقلية ستقودنا إلى انفجار نفسي وروحي، الأمر الذي سيؤدي إلى موجات من الانتحار ومشاهد الهيستيريا والجنون الجماعي، لكن لحسن الحظ، لا يمكن أن تُستبدل التقاليد العريقة بقيم صناعة الترانزستور.

ألا ترى شيئًا إيجابيًا في المحصلة النهائية؟

نعم، ربما، لكني صراحة، أشك في أني أنتمـي إلى عرق في طريقه إلى الانقراض، أنا أؤمن بالفن، والحوار، والحرية وكرامة الإنسان الفرد، لكن من الذي يؤمن بهذا الهراء اليوم؟ هذا وقد أفسح الحوار المجال للإهانة، وأفسحت الحرية المجال للسجون السياسية. ترى ما الفرق بين الجناح اليميني والجناح اليساري في دولة بوليسية؟، كما لو أن هناك جلادون جيدون أو جلادون سيئون. على أني يجب أن أكون رجعيًا لأني لا أزال أؤمن بالديمقراطية العادية والمملة، لأن هذا هو النظام الذي يسمح للمرء أن يفكر بحرية ويمهد السبيل لتحقيق واقع أفضل.

الكاتب: أحمد ليثي

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع