يتكرر الاستشهاد بنص لماركس يقول أن “تحرير العمال هو من صنع العمال أنفسهم“، وهو يُطرح في سياق يبدو وكأن الأمر يتعلق بكون الطبقة العاملة هي “في ذاتها” قادرة على أن تحرر ذاتها. وبالتالي لكي توضع مسافة بين العمال و”ممثليها الأيديولوجيين”، كون الأمر يتعلق بتحرير ذاتي يقوم به العمال بعيداً عن دور “النخب”، و”المثقفين العضويين“.
ربما هذا يتسق مع الفهم الرائج للأطروحة السادسة من «أطروحات حول فورباخ» التي تقول “إن ما قام به الفلاسفة هو تفسير العالم، بينما المطلوب هو تغييره”، حيث جرى القفز عن تفسير العالم لمصلحة تغييره. حيث جرى الفصل بين التفسير والتغيير لمصلحة التغيير، وبالتالي جرى تعميم العفوية. وهنا يجري تعميم العفوية كذلك، حيث يُترك الأمر للعمال أنفسهم.
وإذا كان ماركس لا يقصد تجاوز تفسير واقع العالم بل يحضّ على ضرورة تغييره بناءً على فهم هذا الواقع، فإنه لم يقصد ترك العمال دون “مساعدة” من قبل مَنْ يستطيع تقديم تفسير الواقع لهم. حيث تشير الماركسية إلى لحظة انفصال العمل الذهني عن العمل اليدوي، وتعتبر أن الفكر بات يتطور “بعيداً” عن العمل/الممارسة، وأنهما باتا يسيران في سياقين متوازيين. ولقد وصّفت صيرورة التاريخ انطلاقاً من هذا الانفصال، ودرست مسار تطور الطبقات، ومسار تطور الفكر. وكانت ترى في ذلك إشكالية، اعتبر إنجلز أن التوصّل إلى الديالكتيك قد أعاد الربط بين المسارين، ولهذا أتت الماركسية من منبع الفلسفة والاقتصاد والفكر الاشتراكي، أي كانتقالة نوعية في الفكر. في الفكر تحديداً، وإنْ كان أتى متوافقاً مع نشوء الطبقة العاملة، وهو الأمر الذي حوّل الاشتراكية من أفكار طوباوية إلى منظور علمي. فقد بات هناك الطبقة التي ليس لديها ما تخسره، والمنهجية التي تقدّم لها القدرة النظرية لفهم تناقضات الواقع، والصيرورة الضرورية لتجاوزه.
لقد تحدث ماركس عن الطبقة “في ذاتها” والطبقة “لذاتها”. وكان يقصد بالطبقة “في ذاتها” الطبقة ككم عددي من أشخاص يعملون في الإنتاج (أي في المستوى الاقتصادي)، والطبقة “لذاتها” الطبقة كنوع كان للوعي دوراً حاسماً في تشكّله، حيث أن “إدخال” الوعي الذي تبلور في المستوى الفلسفي إلى الطبقة بما هي كمّ، يفرض تحوّلها إلى تكوين نوعي، أي طبقة تمتلك الوعي بواقعها، وبالواقع بشكل عام، وأيضاً بما تريد؟ وكيف تحقق ذلك؟
لهذا سيكون التركيز على أن “تحرير العمال سيكون من صنع العمال أنفسهم“، هو من قبيل الإغراق في العفوية، في حال جرى فهم الأمر بعيداً عن دور الفكر، وبالتالي دور “المثقف العضوي” (حسب تحديد غرامشي)، أي المثقف الذي ينخرط في مشروع طبقة، ويؤسس الرؤية والإستراتيجية التي تحقق مصالحها. ومن ثم يعمل على “زرع الوعي” في أفرادها. هنا يجب الفهم الدقيق لمسار التطور التاريخي الذي أدى إلى تبلور “شيئين” بشكل متباعد: الطبقة العاملة التي نشأت نتيجة التطور التاريخي الذي أفضى إلى نشوء الصناعة، وهو مسار طويل لتطور الحِرَف من جهة، والعلم من جهة أخرى، والذي أدى إلى اكتشاف الصناعة، التي باتت هي وسيلة الإنتاج المركزية. وفي سياق آخر، “الوعي” الذي يمكن أن يعبّر عن مصالح هذه الطبقة، وهنا لا بدّ من أن نلمس مسار تطور الفلسفة الذي كان يسير بعيداً، وفي إطارات ضيقة، من “نخب” تعمل في الفكر، وأيضاً كان لتطور العلم دور في ارتقائها، ووصولها إلى “قمة تجريدها” حين قام هيغل بـ “اكتشاف” آليات تطورها (التي كانت في الواقع هي آليات صيرورة الواقع ذاته)، ليستخلص منها ”الجدل“، اعتماداً على كل أشكال التجريد الذي نشأت فيما يخص المصطلحات والمفاهيم.
وإذا كان هيغل يرى بأن هذه الصيرورة الجدلية لمسار الفكر هي التي كانت تصنع الصيرورة الواقعية (تصنع الواقع)، فقد أوقف ماركس جدل هيغل على قدميه ليعتبر أن صيرورة الواقع الجدلية هي التي أنتجت صيرورة الفكر، وعبر الفلسفة فرضت “اكتشاف” الآليات التي تحكمه. هذه الآليات هي التي باتت تمثّل منهجية في التفكير تجاوزت منطق أرسطو، هي: الجدل المادي.
في كتابه «الاشتراكية: الطوباوية والعلم»، يوضّح إنجلز لماذا باتت الاشتراكية ممكنة التحقق، حيث أوضح الربط بين وجود الطبقة العاملة “التي ليس لديها ما تخسره”، و”اكتشاف” الجدل المادي الذي بات هو المنهجية التي تستطيع تحليل الواقع علمياً، ومن ثم صياغة المشروع الذي يحقق مصالح الطبقة العاملة هذه. ولأن التشكلين حدثا “في تباعد”، فقد توصّل كاوتسكي إلى فكرة “إدخال الوعي من الخارج”، وهي الفكرة التي اعتمدها لينين في منظوره للحزب، حيث يقوم أفراد من البرجوازية أو البرجوازية الصغير، والذين توصلوا إلى اعتناق الماركسية في سياق قراءاتهم وبحثهم، ببلورة الرؤية والإستراتيجية والوعي الذي يطابق مصالح هذه الطبقة، لكنهم ينشطون ضمنها من أجل دلّها على مسار انتصارها، من خلال مراكمة الوعي والتنظيم لديها. وانطلاقاً من البدء من واقعها، وممكنات تمرّدها، وصولاً إلى اقتناعها بضرورة الاستيلاء على السلطة. وهنا يتشكّل الحزب ضمن الطبقة، وتتحوّل الطبقة من “طبقة في ذاتها” إلى “طبقة لذاتها”. حينها يصبح ممكناً أن تحرر الطبقة بـ “نفسها”، حيث أنها تكون قد تحوّلت إلى “نوع”، أي تحوّلت إلى “تكوين نوعي” بعد أن كانت تتشكّل من كمٍ من الأفراد. فقد باتت “كتلة متراصة”، وواعية، ولديها إستراتيجية التغيير.
هنا يكون تحرير العمال من صنع العمال أنفسهم، لكن بالتفاعل مع “مثقفين عضويين”، أي مع ماركسيين حقيقيين لديهم القدرة على بلورة رؤية وإستراتيجية وتكتيك ووعي. حيث يجري الانتقال من الصراع العفوي إلى الصراع الواعي المنظم، ومن المستوى المطلبي إلى المستوى السياسي، ومن الإصلاح إلى الثورة. باختصار يجري الانتقال من الصراع من أجل تحسين الوضع المعيشي إلى الصراع الطبقي حيث تصبح مسألة الاستيلاء على السلطة هي الهدف. إن مسار الصراع المطلبي هو الدوران في الحقل المطلبي، وهو مسار يؤسس لتراكم يفرض الانتقال إلى مستوى آخر هو ضروري من أجل تحقيق المطالب، وهو لا ينتج الوعي الذي يطوّر من قدرات العمال لكي يستطيعوا الارتقاء إلى المستوى السياسي. فقط إن إدخال الوعي من الخارج هو الذي يحقق ذلك، حيث يجب تملّك المعرفة التاريخية، وفهم ممكنات الصراع من أجل تحديد مسار التطور.
في الأخير، لا شك في أن الصراع هو صراع طبقي، وهذا يعني أن الطبقة العاملة كطبقة هي التي تخوض الصراع، وأنها تهدف فيه إلى تحقيق مصالحها. لكن، ومن أجل تحقيق ذلك، يجب أن تحقق نقلة في الوعي واقعُها وظروفها لا يسمحان بها، وهو الأمر الذي يفرض تدخل “المثقف العضوي”، المثقف الذي توصّل إلى أن ينتقل من موقعه الطبقي (كبرجوازي أو برجوازي صغير) إلى موقع الطبقة العاملة، حيث يجب أن يكون قادراً على التفكير بمنظورها وانطلاقاً من مصالحها، مصالحها هي بالذات وليس من مصالحه هو. هذه النقلة هي ما باتت توفره الماركسية، لكن الماركسية التي تعني الانطلاق من “منطق التفكير” الذي أتت به، أي الجدل المادي. وهي نقلة ليست سهلة، أو يمكن اكتسابها دون ثقافة ومعرفة وبحث، في الفلسفة والاقتصاد والمجتمع والسياسة (وحتى في الطبيعة وعلم النفس والتاريخ). على العكس، لا يمكن أن تتحقق دون مجهود كبير، وتركيز عالٍ، ووقت يسمح بالقراءة المركزة.