أحياناً يكرر: كما لو أنني بطل قصة.
يتذكر رواية الياس خوري «أولاد الغيتو: اسمي آدم» وما ورد فيها عن إميل حبيبي وغسان كنفاني. كذّب إميل حياته وصدق أدبه. ماذا يقصد مؤلف الرواية الضمني آدم بهذا؟ يفكر في أدب الأديبين وفي حياتهما أيضاً.
“هل أنا صرت أيضاً مثل أبطال القصص والروايات التي أدرسها وأكتب عنها؟”يسأل نفسه ويضحك، فقد كتب عن عشرات الروايات والقصص ودرس أيضاً عشرات منها. “إن كنت على شاكلة من كتبت عنهم ومن درستهم، وعلى شاكلة أبطال قصصهم ورواياتهم فأنا خليط كوني عجيب“، ويضحك في سره حين تخطر الفكرة على باله. “أنا رجب في شرق المتوسط وأنا سعيد أبو النحس في المتشائل وأنا حامد وسالم وزكريا في ماتبقى لكم” يضحك. كيف أكون هؤلاء كلهم؟ زكريا خائن وسالم فدائي شهيد وحامد مشروع فدائي.
ولأنه قارئ جيد لأشعار مظفر النواب فإنه يكرر مقطعاً من قصيدة الشاعر أتى فيه على الاتهامات الموجهة إليه: “صوفي بذيء مجنون لوطي” ويكرر تساؤل مظفر: “كيف جميعاً؟ ما أوسخهم!“. كل ما سبق يولد لديه نوعاً من الأسى والحزن ولا يجد مخرجاً له من كوميدية المشهد ومأساويته معاً إلا الضحك.
“كيف جميعاً؟ ما أوسخهم!“.
القصة القصيرة الوحيدة التي تلح عليه أكثر من غيرها هي قصة نجاتي صدقي “شمعون بوزاجلو” من مجموعة “الأخوات الحزينات“ الصادرة في العام 1951. من سنوات كان يكتب عن القصة وكان درسها أيضاً لسنوات.
شمعون بوزاجلو يهودي متدين يؤدي الصلوات ويتعامل بالربا ويكره النساء، فهن أنانيات عنيدات يتجبرن إن لانَ الرجل لهن. لهذا فقد عزف شمعون عن الزواج وصار في الخمسينيات من عمره. جمع الأموال وراكمها وصار أيضاً يتسول رغبة في المزيد.
لقد حزنت الأم على شمعون. لماذا لا يتزوج؟ لماذا لا يستقر؟ ولماذا لا يتنعم؟
رفقة وسمحة وشمعون، أم وابنتها ورجل أعزب. “يا شمعون من سيهتم بك إذا كبرت؟ وابنتي مثل قصب السكر“. تقنع الأم شمعون بالزواج من ابنتها. وهو غدا كبيراً في السن ويملك الأموال. هل يكره النساء؟
كلما كان يدرس القصة كانت طالبة ما تنظر إليه كما لو أنه بطل القصة كما لو أنه شمعون. إن درس«ما تبقى لكم» يختلف الطلاب في النظر إليه. قسم يرى فيه زكريا. قسم ثان يرى فيه حامداً. قسم ثالث يرى فيه زكريا وحين يتباله أو يتغابى يصبح مثل سعيد أبي النحس في رواية إميل، وإن أجاد التعبير يصبح مثل إميل حبيبي نفسه ويناديه الآخرون ”حبيبي” وإن خاطبته امرأة أو كتبت له يحتار في مدلول دال ”حبيبي”. “هل أنا حبيبها أم أنا حبيبي؟“.
الأمر يبدو طريفاً ويستحق أن تكتب فيه رواية. نعم تستحق أن تكتب فيه رواية. أكثر ما بدا يلفت نظره حواره مع امرأة تقيم في اليابان. هو يقيم في عمان وهي تقيم في اليابان. تراسلا لمدة عامين ليلياً ثم أعجبا ببعضهما. هي صارت تختبره لتتأكد مما يشاع عنه، وهو تارة يكون جاداً وطوراً يمزح. يجمع في شخصه بين شخصيتي غسان كنفاني وإميل حبيبي. هل سيصدق أدبه ويكذب حياته؟
أحياناً يقول: “حياتي أنا أكبر من رواياتي، ورواياتي جزء صغير من حياتي. حياتي رواية لم تكتب ولن تكتب“. المرأة التي تراسله بدأت تفكر في الارتباط به وهو أيضاً بدأ يفكر فيها. في البداية ظن أنها تمثل دور زوجته المتوفاة.
حاور المرأة لفترة على هذا الأساس .ثم نسي التمثيل وهي أيضاً نسيته وصارا يتحاوران. هل كانت المرأة قرأت قصة نجاتي صدقي “شمعون بوزاجلو“؟ أم أنها قرأت قصة “كاتب العرائض” لماجد؟
ذهبت ريتا لتقديم اعتراض على حبسها بسبب الديون فالتقت بماجد وأقاما معاً. ينفق عليها ويشبعها حتى يعود زوجها الغائب. ما إن دخلت ريتا شقة ماجد حتى ألقت بأكثر أثاثه في القمامة.
ماذا قالت اليابانية عنه حين قيل لها إنه بخيل ولا يستمتع بالحياة؟ المرأة اليابانية أخذت تحثه على الاستمتاع بالحياة. أن يأكل ويشرب ويسافر فليس من أحد أحق منه بماله.
وهو يبتسم: “كيف جميعا؟”.