“رمان” التقت صاحب «وارث الشواهد» للحديث عن روايته وهي في شوطها الأخير من السباق المحموم لنيل جائزة البوكر 2018. كما دار الحديث معه حول مجمل مشروعه الروائيّ الإبداعيّ، ومكانة الرواية الفلسطينيّة الحديثة ضمن مشهد الرواية العربيّة اليوم.. فكان هذا الحوار:
كيف بدأت في كتابة روايتك «وارث الشواهد»؟ وهل كانت الحبكة في ذهنك مسبقًا؟ وما هو سبب اختيارك موضوعها؟
لم تكن فكرة الكتابة طارئة، بل هي تراكم يسكنني منذ المغامرة الأولى في «محكمة الشعب» عام 1991. هي نتاج متراكم وهاجس يرافقني في كل التفاصيل اليومية، وهي تفاصيل تسائل الواقع لتحويله إلى سرد بالمعنى الفني للكلمة، أي اختيار محكوم برسالة ما وجماليات قادرة على المساءلة والمقروئية، الكتابة في «وارث الشواهد» استنساخ جديد للسرد في القادم من القيامة، تحت وطأة الفجيعة والهلوسة في سردها وتناقض المشاعر وتحولاتها، لكن الوارث كانت رواية الحكاية كلها منذ تأسيس فكرة اغتصاب فلسطين حتى الآن ضمن لوحات تنتجها شخصيات مفجوعة، بالمعنى الشامل للكلمة، شخصيات تئن تحت وطأة الفقدان، فقدان الأرض والذات وما يتبعه ذلك من “هلوسة”، الحبكة لم تكن حاضرة لكنها تطورت تحت إكراهات الأبعاد النفسية للشخصيات التي تتوراث همومها، من خلال الشواهد. أما عن سبب اختيار الموضوع، فهو ناجم عن قسوة المكان الذي تحول بفعل الصدمة إلى شواهد واشارات للفاجعة ومعادل لفقدان ما كان متحققاً، لذلك كانت الشواهد للقبور والمنازل، أرواح وإن تصلبت من خلال الرواية.
كم كانت ذاتك حاضرة أثناء عملية كتابة هذه الرواية؟ وما هي حدود الواقعي والمتخيل في «وارث الشواهد»؟ وبالتالي هل تعتقد أن الواقع يمكن أن يصنع رواية ناجحة؟
أستطيع القول إن الذات في «وارث الشواهد» حضرت بكل ما تعني الكلمة “رومنسياً”، ولا يمكن الفصل بين الواقعي والتخييل إلا عبر الذات، لأن الذات هي التي تنتج الاستعارة نفسياً وتخييلياً ومن ثم تعبر عنها اللغة ضمن اختيارات السرد، من خلال العلاقة بتفاصيل الواقع، الواقع دائماً هو المنتج الحقيقي للحكاية، لكن العبرة في التلقي الفني له والقدرة على تحويل التفاصيل إلى سرد ضمن معادلة الاختيار والإخفاء، والقدرة على التوريط، الواقعي أكبر مصدر للتخييل إذا تمت قراءته ضمن معادلة فنية، بتقاطع مع حالة ثقافية، ضمن الأسطورة الكبرى للوجود، الجدوى والتيه والموت والحب والبراءة والإثم، وهل هناك غير فلسطين تشي وتصرخ بكل ذلك.
الموت، الشهادة، الوحدة، الوحشة، الفقدان.. مُفرداتٌ ركزتَ عليها في مغامرتك السردية الثالثة. سؤالي: إلى أي درجة أثّر الاحتلال على نتاجك الأدبيّ الإبداعيّ؟
المفردات نفسها سيطرت على القادم من القيامة، لكن بسياق مختلف، لتأكيد الاحتلال كان قانون التحويل في الرؤية بين البراءة وبين الرؤية النقدية التناصية المعقدة لتناسخ القمع عبر التاريخ، تلقيت الاحتلال كممارسة يومية للقمع فأنا من جيل الانتفاضة الأولى ودرست مرحلة الشهادة الجامعية الأولى أثناء الانتفاضة في جامعة النجاح بنابلس، وكنت قبلها طالباً في الثانوية، حدث تزامن في الوعي والصدمة عندما كنت في المرحلة الثانوية، وقت اكتشافي لموهبة الكتابة الكامنة في، كتبت ببراءة عن الاحتلال وصور المواجهة وكنت أسيراً لمجموعة من النصوص الكبرى دينية وقومية، بالتزامن مع معايشتي لصور القمع اليومية من شهداء وهدم واعتقال.
استمر ذلك حتى سقطت البراءة بالصدمة بالتحول إلى الواقعية، حيث استشهد ابن عمي مراد، وهو رفيقي منذ الطفولة حتى اليوم الأخير، باستشهاده خلقت قانوني الخاص للفجيعة، وعرفت الفرق بين قراءة المأساة ومعايشتها، تمزقت طفولتي واحترقت براءة المستقبل الذي بدا بهاجس الموت، إذ كيف للبريئين أن يموتوا بهذه القسوة. منذ تلك اللحظة بدأت بتحويل الانفعال إلى قانون نظري يمكن أن يتلقى الحالات وينتجها ليس كحوادث وإنما كقضايا كبرى ذات أصول أسطورية وجودية.
حدثنا عن تمنياتك اليوم لروايتك وهي في شوطها الأخير من السباق المحموم لنيل جائزة البوكر الأدبيّة. وبرأيك إلى أي مدى تساهم الجوائز في صناعة الروائيّ وتطوير تجربته وترويج اسمه؟
سعيد بما وصلت إليه الرواية بوصولها إلى الشوط الأخير وأشعر بفخر وامتنان شديدين، أتمنى أن تنتشر الرواية أكثر لنشر المأساة الفلسطينيّة بحالاتها الإنسانية واحالاتها الثقافية. الجوائز تساهم بنشر العمل وتقصير مدة التفاعل لصالح الرواية، إنها تخلق مقروئية عالية للرواية، لكنها ليس بالضرورة أن تخلق الخلود واستفزاز القراء، المعادلة هي التجربة والقدرة على اختراق مناطق مظلمة في النفس البشرية.
بين روايتيك «القادم من القيامة» و«وارث الشواهد» ما الذي تغير برأيك مِن حيث الأسلوب واللغة والفنّيّةِ وبنية وحداثة النص والرؤى والمقاربة للواقع المضمون؟
سؤال صعب جداً، لكن الذي تغير بعد هذه المدة الطويلة هو المسافة بين البراءة والإثم، وهو المسافة بين الحدث والتنظير، وهو المسافة بين اللفظ والمعنى، إن اللغة طبقات معقدة، لا يتم الدخول إليها إلا بمستوى معقد من الصدمات، الأسلوب تجاوز البراءة إلى المشهد المعقد، واللغة تجاوزت التوصيف لصالح المشاهدة والخلق، والمقاربات كلها أصبحت تئن تحت وطأة بعد مزدوج؛ هو تحويل العلاقة داخل الواقع إلى علاقة بين تصورات وليس بين أحداث، كلتا الروايتين كان بهما مغامرة سردية، لكن السرد في «وارث الشواهد» كان أكثر حدة وقسوة، إذ لا يمكن أن تجد نصوصاً خارج الصدمة والهلوسة، بحيث يمكن القول إن النص جمعه نص متوتر، ويكاد يخلو من الطبيعي. في «وارث الشواهد» لا زمن ولا مرحلة، إنها رواية تحاكم الأزل والأبد ضمن قانون جديد هو قانون الفلسطينيّ، في حين تعاملت «القادم من القيامة» مع مرحلة، ما بعد أوسلو، ووجدانية انكسار الحلم. في الروايتين عودة مقترنة بالموت والفقدان، والقبر والوراثة للمأساة. لكن «القادم من القيامة» كانت محاكمة ذاتية، في حين كانت «وارث الشواهد» محاكمة كونية.
مسافة زمنيّة بعيدة تفصل بين تاريخ صدور روايتك الأولى «محكمة الشعب» (1991)، وتاريخ صدور «القادم من القيامة» (2013)، فما السبب؟ وأي دلالات يحملها ذلك؟
الدلالات هي باليأس ربما في بعض المراحل، ومن ثم التفرغ للتحصيل الأكاديمي في مراحل أخرى، لكن الرهان العميق في داخلي ظل ينحاز للإبداع بالدرجة الأولى وهي عودة بعد رحلة من العمل الأكاديمي حصلت من خلالها على الماجستير والدكتوراه، الدلالات هي أن الإبداع وحده يمكن أن يحدث الفرق، ولدي الآن حالة يائسة من فكرة البحث في العلوم الإنسانية جلها. لذك ظل الطفل في داخلي يكبر كمشاهد يخزن الصور وفيه بوح غريب لقولها. من ناحية أخرى أعتقد أن إنتاج تخييل روائي عميق وخالد يحتاج إلى وقت طويل لأن هناك فرق بين الرواية والحكاية، كما الفرق بين النحت والتصوير، وبين مشاهدة فيلم وبين أن تكون أحد أبطاله الحقيقيين.
من المؤكد أنك تتكئ على مُنجَز روائي عربي وغربي، فهل لنا أن نعرف من أثّر فيك أكثر؟
قد تكون الإجابة غريبة هنا، فرغم تخصصي في السرد في مرحلة الماجستير، إلا أن قراءتي للرواية كانت محدودة، ولم أقرأ طيلة كتابتي لـ«وارث الشواهد» أية رواية إلا في بضع حالات مرتبطة بتقديم شهادة في ندوات محدودة، أما في الرواية الغربية لم أقرأ أكثر من بضع روايات مترجمة آخرها كان قبل سنوات، في تكوين الصور أعود إلى البراءة وإلى الطفل في داخلي، وعند كتابتها ألجأ إلى العلاقة الرمزية للأشياء. أعتقد أن الصوت الأخرس لإنسانية النظرية هو موجهي.
ما الذي يدفعك إلى الكتابة اليوم؟ ما الذي يحفزك؟
الرهان على الإبداع وعلى فلسطين كأم للحكاية كلها، وخوف ورعب من قصص الشهداء التي حولت الواقع الفلسطينيّ إلى أسطوري، أعتقد أن فلسطين امتحان العالم والأساطير في كل ما يتعلق بالمجرد الإنساني، لذلك حملت «وارث الشواهد» فكرة الوحي الفلسطينيّ كونه خاتم الديانات على مستوى التخييل، وأنها النبي الأخير وآخر الضحايا وأول الأبطال، الخيبة والأمل، الكتابة هنا صرخة ضد تحويل البطولة والألم إلى “عادي”، الكتابة هي محاكمة لمشروع العالم وللأيدولوجيات الكبرى، إنها صمت الأم في مواجهة الفقدان، رمزية السرير الدافئ للشهيد في مواجهة برودة مراسيم العزاء.
برأيك ما الذي تستطيع أن تقوله الرواية؟ ما حدود الكتابة الروائيّة؟
الرواية هي تحجر التاريخ وأثيرية الشعر، تقول كل شي، مع ذلك أصبحت تعاني من كثرة التناقضات ومن السطوة الإعلامية عليها، ومن التناصات التي حولتها إلى خلطة من القضايا المتقابلة، ومن الحكايات ذات الطابع الإعلامي ومن توارد الأفكار فيما يخص المدينة والجنس مثلاً ، وحتى رواية القمع السياسي. لكن في النهاية الرهان على القارئ وبعض النقد.
كيف تنظر إلى ترابط العلاقة بين الكتابة والفنون الأخرى كالموسيقى والرسم والسينما ..إلخ، وأثر ذلك في تكوينك وكتابتك؟
سؤال جميل جداً، طبعاً جميعها آليات تشكيل رمزي وجماليات بطرق مختلفة، وقد يحدث تناسخ بينها، أعتقد أن السينما كان لها حضور “حلمي” في روايتي، كانت العالم المولد للخيالات، حضور كبير للسينما في «وارث الشواهد»، سينما العاصي في نابلس كمكان توسطي بين الحلم والحقيقة، ومولد للرغبة اللذيذة في اللعب بين الأمكنة والأزمنة. الموسيقى لها حضور رهيب لدي، على مستوى المضمون وعلى مستوى الاحساس كذلك، حدث تناسخ عفوي بيني وبين ايقاع السرد في الرواية، وبين لحن قصيدة قارئة الفنجان، خاصة في صيغة المستقبل التي كتبت بها «وارث الشواهد» على لسان الوحيد وهو السارد الأكبر في الرواية، لقد كان السرد بصيغة المستقبل رغم أنه يتحدث عن الماضي، لقد سيطر إيقاع اللحن بمأساويته علي، مثل ستعرف، سترجع، ستفتش، وستسأل …إلخ، كانت هذه الصيغة المقترنة باللحن مفجرة لحالة وجدانية عميقة لدي تفجرت بعد أكثر من عشرين عاماً في «وارث الشواهد» وقبلها في «القادم من القيامة».
هل غياب “الالتزام/ المقاومة” من كثير من النصوص الفلسطينيّة الراهنة يعبر عن تغير جمالي في فهم القضيّة، أم أنه تعبير عن بروز الذاتي على حساب الموضوعي الذي طبع نتاج الأدب الفلسطينيّ منذ خمسينيات القرن الماضي حتى العام 1993 تاريخ “اتفاق أوسلو” المشؤوم؟
التصادم هنا حدث بين الحلم وانكساره، لم تغب المقاومة، لكن الذي غاب شرعية العودة، وقضية فلسطين هي العودة أساساً، هذا الغياب في الحلم كسر أداة الحلم ودمر محمولاتها الممكنة في التحرير والعودة. ترافق مع ذلك أدوات التحريض الأيديولوجية التي انهارات كرهانات كبرى، كل ذلك أعاد تعريف الذات بعيداً عن الجمعي وخارج الرهان الأيديولوجي، وأعتقد أن سقوط الرهان الأيديولوجي الكبير هو السبب في وجودية الطرح أكثر من ارتباك الثورة وتراجعها. خاصة أن الأيديولوجيات الكبرى التي أسست للثقافة الفلسطينيّة كانت طوباوية في جلها. أوسلو محطة الصدمة التي كشفت عن تعطل الممكن في مواجهة الواقع، لذلك كان الأدب تعبيراً ذاتياً دون حبكة جمعية قادتها الذات في مرحلة الرهانات الكبرى سابقاً.
ماذا يقدم النَّقد الأكاديمي، للكاتب؟ وبالتالي كيف تعامل النَّقد معك وإلى أي مدى نجح بالدخول إلى كتاباتك وقدمها للقارئ؟
النقد الأكاديمي يشبه العلاقة بين المبدع والطبيعة والمجتمع، تهب هذه المتغيرات نفسها للجميع، لكن تلقي المبدع لها يكون ضمن حساسية خاصة مصبوغة جمالياً، النقد يشبه العلاقة نفسها، لكن مع النصوص، فنصوص النظرية النقدية موجودة، لكن تفاعل النقاد معها يختلف كل ناقد حسب حساسيته، هناك نقاد يضيفون للنظرية ويساهمون بتثويرها، وهناك نقاد لا فرق بين نقدهم وبين أي نقد انطباعي، أي أنهم يمرون على النصوص النقدية بحياد. ودون تثوير، أحترم كل ما كتب عني.
هل يمكننا القول، إن الرواية الفلسطينيّة الحديثة عرفت نهضة قوية في السنوات الأخيرة، وكيف تنظر إليها ضمن مشهد الرواية العربيّة؟
نعم ، بشكل عام هناك جيل يشتغل على أدواته ووصل بمستواه الفني إلى درجة مهمة. في فلسفة السرد وصياغة الحبكة وفي التخييل بشكل عام.
أترى أنّ الجيل الأدبيّ الجديد في فلسطين يؤسّس لنمط جديدة في الكتابة الإبداعيّة؟
أعتقد أن الأسئلة الوجودية تحضر بشكل أقوى بعد تراجع التناص مع الرهانات الأيديولوجية الكبرى، التي ربما ساهمت بصياغة الخطاب الأدبيّ الفلسطينيّ عبر مراحل الثورة.
ما هي توصياتك لجيل الروائيّين الجدد في هذا الإطار؟
أوصيهم وأوصي نفسي لأني أعتقد أني واحد منهم، بالتروي في عملية الكتابة والرهان على التجربة أكثر من التحصيل.
للكتابة طقسها الخاص، وهو يختلف من كاتب لآخر؛ فما طقوسك؟
أكتب في الليل فقط، ولا طقوس أخرى مثيرة غير التحضير النفسي بالتأمل والموسيقى.
يُشار أن الكاتب وليد الشرفا من مواليد عام 1973 في مدينة نابلس بفلسطين المحتلة. حاصل على الماجستير في أطروحته حول (بواكير السردية العربيّة عام 2000)، وحاصل على الدكتوراه عن الأطروحة حول (الخطاب عند إدوارد سعيد). وتتركز اهتماماته حول السرد وثقافة الصورة والاستشراق. وهو أستاذ الإعلام والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت منذ العام 2006. أصدر نصه الروائيّ الأول بعنوان «محكمة الشعب» في المرحلة الثانوية عام 1991. في العام 2013 أصدر روايته الثانية «القادم من القيامة». وبعد أربع سنوات أصدر روايته الثالثة «وارث الشواهد» التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر 2018. كما صدر له دراسة بعنوان: «الجزيرة والإخوان: من سلطة الخطاب إلى خطاب السلطة»، (دراسات- إعلام)، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت 2013. ودراسة ثانية بعنوان: «إدوارد سعيد ونقد تناسخ الاستشراق، (دراسات- فكر)، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر»، بيروت، 2016.