أتاحت حملة “أنا أيضاً” الفرصة لكل النساء كي يخبرننا عن حالات التحرش التي تعرضن لها. وقد انتهت الحملة إلى نتيجتين مختلفتين؛ واحدة متوقعة وطبيعية، والأخرى غريبة ومربكة.
النتيجة الأولى، الطبيعية، هي أن كل النساء، بلا استثناء، قد تعرضن لتحرش في حياتهن. هذا الأمر متوقع، لكل من له عينان وعقل يتابع بهم أحوال النساء في العالم العربي. النتيجة الثانية، الغريبة، والمتناقضة من حيث المظهر مع النتيجة الأولى، هي أنه لا يوجد متحرشون في العالم العربي: فقد انقسم الرجال بين ساخرين من الحملة، ومؤيدين لها، ومشككين بها: ولكننا لم نسمع أي متحرش يدلي بدلوه في عشرات آلاف القصص التي رويت. اقتصرت الحملة على المتحرّش بهن، ولم نسمع اعترافات المتحرّشين.
هكذا إذن ترتسم الصورة الكاريكاتيرية التالية: كل النساء تعرّضن للتحرش، ولكن لم يتحرش الرجال يوماً بامرأة. بالطبع، لم تنجح الحملة في إزالة التناقض الظاهري بين هاتين النتيجتين، التناقض الذي سيزول عندما سيتكلم الرجال عن التحرش الذي يقومون به، وهو أمر لا يبدو أنه سيحدث قريباً. ستساعدنا اعترافات المتحرشين على فهم التحرش بشكل أعمق، وعلى الدخول إلى عوالمه وسحره وعنفه ومرحه. وللكلام عن التحرش، كلمت صديقاً قديماً، متحرشاً شهيراً أيام الشباب، يعيش اليوم لاجئاً في إحدى بلدان الغرب، وسنسميه “بلبل”، كي لا نفضحه.
كان بلبل يمارس، بشكل رئيسي، التحرش اللفظي، أي ما يطلق عليه السوريون تحبباً “التلطيش”، والمصاروة “المعاكسة”، في محاولة للتخفيف من وقع كلمة تحرش، وفي إشارة إلى قبول الرجال والمجتمع بالتحرش اللفظي، بل ورعايته مجتمعياً ورسمياً. ابتدأ الكلام مع بلبل من هذه النقطة.
أليس “التلطيش” و”المعاكسة” تحرشاً؟
قال بلبل إنه لم يكن، أيام الشباب، يرى فيهما تحرشاً، بل تسلية وتمضية وقت، وربما وسيلة لاصطياد بعض الفتيات. لم أقتنع. ملاحقة الفتيات لمسافات طويلة، مردداً كليشهات مملة وتافهة، هو التعريف الكامل الأصيل للتحرش. “ربما”، قال بلبل، “ولكن تذكر أنني، وإن كنت متخصصاً في التلطيش، بل ومتفرغاً له تقريباً، فلم أكن الوحيد المتفرّد الاستثنائي: كلنا، يا أبو العيد، كنا متحرشين.”
”كلنا؟“، سألت مستنكراً، ” كيف كلنا يا فهيم زمانك؟“
“آه، كلنا: الجميع كان يلطّش. الجميع يعني الجميع.” أصرّ بلبل.
قلت له: “أنت تبالغ الآن، كبعض النسويات كارهات الرجال. لا يجوز التعميم.”
قال: “بلا فزلكة لك ابني، شو ما كنت عايش معنا؟ ألا تذكر أن أهلنا كانوا يعرفون بأننا نقف ساعات أمام مدارس البنات، أن أساتذتنا كانوا يعرفون ذلك، أن عائلات البنات كانت تعرف ذلك، والشرطة تعرف ذلك؟ بل حتى المخابرات، التي كانت تأتي بين حين وآخر، لتطمئن على استتباب الأمن.“
“آه، ولكن لا يعني هذا أننا كلنا متحرشون.“
صمت بلبل.
“أعتقد أن ما أريد قوله هو أنه لا يجوز أن تلوم مراهقين على ما يبدو مقبولاً اجتماعياً. ليس المراهق مسؤولاً عن أفعاله حين تكون مدرجة في خانة المقبول والمحبب والعادي.“
أقول لبلبل، “كأنك تبرر للمتحرشين أفعالهم بلوم المجتمع؟ في النهاية، البعض يتحرش، والبعض لا يتحرش.“
“لا يا أخي، لا أبرر لأحد. المتحرش كائن همجي لم يحظ بتربية كافية؛ والذي لا يتحرش بني آدم محترم. لا أريد أن أبرر، ولكن كمتحرش سابق تائب، أريد أن أؤكد على قبول المجتمع للتحرش.“
“أعتقد أنك تبالغ في القبول الاجتماعي للتحرش يا بلبل”. أقول، متردداً.
“له يا مثقف! طيب، ألم تكن تتابع التلفاز؟ التلفاز يا رجل كان يرى في التحرش قضية مسلية مضحكة عادية. ألا تذكر اللوحة الشهيرة لنسرين طافش في «بقعة ضوء»، عندما يتحرش بها الرجال في كل مكان، ونضحك نحن المشاهدين مستمتعين بالمشهد؟ وفي النهاية، تندم الجميلة على عدم الزواج من أي فتى من المتحرشين بها، لتصبح عانساً!
وماذا عن سعيد صالح في «مدرسة المشاغبين»، وجملته الوضيعة، “تمد أيدك هنا تلاقي المقرر جالك على طول”، في إشارة إلى سهولة الحصول على نساء لبنانيات مقارنة بالمصريات، عن طريق التحرش والملاحقة والمعاكسة! بل إن معظم مشاهد «مدرسة المشاغبين» تقوم على فكرة تحرش طلاب بآنستهم الجميلة!
وماذا عن مشهد «أنواع المعاكسات» للمثل أحمد أمين في برنامجه الكوميدي «البلاتوه»؟ المفترض أن نضحك على أنواع المعاكسات، كأنها ظاهرة طبيعية!
شو كمان؟ أغاني أيمن رضا في مسلسل «أبو جانتي» كلها فيها تحرش مباشر، والله!
كل المعاكسة والتلطيش، إذن، أمور مسلية، ومضحكة، وعادية، وطبيعية. لا تلمني أنا وحدي على محبتي القديمة للتحرش. منظومة كاملة، بما فيها من مثقفين ونسويات ونسويين ورقابة حكومية ومنتجين ومتفرجين ومتفرجات، تضحك وتتسلى وتقبل بالتلطيش.”
أفكر وحدي، فيما بلبل يسرد حلقات من التطبيع الثقافي الشعبي مع التحرش، بما هو أعمق، بتراث طويل عريض، من كل المذاهب والأديان، يحط من قدر المرأة. بل إن أجمل شعراء تراثنا وأكثرهم ثورية ورقة وشفقة على كل الكائنات، أبا العلاء المعري، فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة، على ما تقول الكليشيه السخيفة الفارغة، يحتقر المرأة علناً ويشهّر بها:
فإن خالفتني وأضعت نُصحي فأنت، وإن رُزقت حِجىً، بليد
ألا إن النساء حبال غيٍّ بهنّ يُضَيَّعُ الشرف التليدُ
أضاف بلبل، في معرض دفاعه عن نفسه، إن التحرش مرتبط بسياسات حكومية، وبتموضعات طائفية وإثنية ومناطقية، مرسومة بدقة.
“كيف، يا بلبل؟ ومن أين أتيت بلفظ تموضعات هذا؟“
قال بلبل، “معليش، بدي أحكي مثل المثقفين أخي. ما حدا أحسن من حدا. تذكر أننا كنا لا نجرؤ على التواجد أمام مدارس المسيحيين، أو المدارس الخاصة التي يرتادها أبناء الأغنياء. كنا نعرف أن المخابرات ستلعن أجداد أجدادنا إن تحرشنا بهؤلاء؛ في حين أن التحرش ببنات المدارس الحكومية، ضمن الحدود اللفظية، كان مسموحاً وضمن النطاق المقبول.
تذكر، أيضاً، أن التحرش يجب أن يبقى محلياً: صحيح أن التلطيش عابر للإثنيات والطبقات والطوائف والمناطق، ولكنه، في نفس الوقت محلي جداً ومحصور بالقبيلة: أعني أنك تستطيع أن تلطش على السريع امرأة من غير جماعتك، ولكن لا يجوز أن تلاحقها وتلتصق بها وتبعث لها الرسائل، كما تفعل مع نساء قبيلتك: قد يثير هذا حفيظة قبيلتها (يستخدم بلبل قبيلة للدلالة على جماعة مترابطة عضوياً بشكل عام، وليس بالضرورة مرتبطة بالدم، كالمسيحيين والدروز والحوارنة والأغنياء والفلسطينيين والشركس وغيرهم: كلهم قبائل في عرفه). لذا، التحرش الذي يتجاوز “دخيل القمر الخجلان” و”يقبرني الكحلي يقبرني” والمعاكسات البسيطة هذه، يجب أن يبقى محصورا في القبيلة، بمفهومها العام: يتحرش الأكراد بالكرديات، والعلويون بالعلويات، والفلسطينيون بالفلسطينيات، والدروز بالدرزيات، والحوارنة بالحورانيات، والفقراء بالفقيرات، والأغنياء بالغنيات، والمثقفون بالمثقفات، والعلمانيون بالسافرات، والمتدينون بالمحجبات: ولكن هناك مساحة متداخلة في الحالتين الأخيرتين: يحتقر بعض المتدينين السنة السافرات، ويرون فيهن فلتانات بلا أدب، سواء كن سنة أو من الأقليات؛ بالمقابل، يحتقر بعض العلمانيين، من السنة والأقليات، المنقبات، ويقولون عنهن، في المجالس الخاصة، “أكياس زبالة”. بالطبع، لا أحد يحب أن يتكلم عن هذه الأمور في العلن، لذا، بما أنك تنوي نشر هذا الحديث، فلننتقل إلى النقطة التالية“.
أوافق سريعاً، خوفاً من بلبلة لا قبل لي بها عند نشر الاعترافات.
يعتذر بلبل لاضطراره الرد على مكالمة هاتفية هامة.
أفكر، منتظراً المتحرش التائب، في دعاة ما بعد الحداثة والنسبوية، الذين يقولون إن كل القيم والمذاهب والأفكار متساوية، فالعلم مساو للسحر، والرقى والطلاسم لها نفس قيمة وفعالية الوصفات الطبية، والتنوير كالظلام في القيمة الأخلاقية، والرجعية شقيقة التقدم لا يتفاضلان في شيء، دون أن يتنبّهوا إلى النتيجة المنطقية المترتبة على هذا الكلام الفارغ: مجتمعات المشرق يجب أن تبقى فيها المرأة أقل من الرجل. يؤمن البعض من نقاد التنوير في الغرب حرفياً بهذه الموضة الخطرة، والمقلّدون هنا لا يفكرون على الإطلاق بنتائج ما يدعون إليه.
نفضت من رأسي الفلسفة ومشاكلها المملة لفرط وضوحها وسهولتها، وعدت إلى بلبل وواقع التحرش اليومي.
النقطة التالية كانت توكيداً ملموساً على ما قاله. ذكّرني بلبل بحادثة تحرش شهيرة، تحولت إلى معركة بين قبائل طائفية، عندما تحرش صديق لنا بفتاة في مساء غائم بارد، اكتشفنا أنها ابنة ضابط علوي، على مرأى من أخيها. هجم الأخ، ومعه بعض العساكر، على الفتى، ومسحوا به الأرض؛ قبل أن ينتفض أصدقاء الفتى وعائلته، ليردوا الهجوم بأعنف منه: انتهى الأمر بعدة جرحى في المشافي، وبانتشار مكثف للشرطة العسكرية والمخابرات.
“والفتاة، يا بلبل؟“ قلت، وقلبي يخفق حزناً.
“لم يتحرش بها أحد بعد هذا اليوم. ولكنني عرفت من أختي ما حصل لها في المدرسة: قاطعتها الفتيات السنّة لفترة طويلة، وضربها أبوها، الذي شك بها، وعزا إليها الإغواء الذي تسبب بالمعركة، وبتلطيخ سمعته.
بالمناسبة، تزوجت سنياً، مخالفة رغبة أبيها. آه والله. ولكنهما انفصلا. كان الزوج يخونها كثيراً. بعد الطلاق، عادت إلى بيتها؛ وضربها أبوها، مرة أخرى.“
تابع بعد صمت قصير: “مصيرها مشترك مع بقية النساء. كلهن مسؤولات عن التحرش، في أعراف المجتمع. للتحرش، يا أخي المتفلسف، قوانين سرية غير مكتوبة، ولكنها معروفة جلية: المرأة تملك خياراً وحيداً في مواجهة المتحرّش: أن تلعب دور الميتة، الميتة تماماً :أي تصرف آخر سيشجع المتحرش: لو كلمته غاضبة، فهذا يعني أنها تلعب دور المرأة المدللة الصعبة، ولكنها تريد المتحرش من قلب قلبها؛ إن أبطأت السير، فهذه إشارة له كي يتكلم معها؛ إن أسرعت، هذه أيضاً إشارة، كي يلحق بها؛ لو وقفت، فهذه إشارة شديدة الوضوح إلى تأثرها بكلماته الجامحة اللطيفة؛ لو ركبت الباص أو الميكرو، فهذه دعوة كي يركب معها؛ لو ركبت التاكسي، فهذه إشارة كي يتبعها إلى منطقة نائية؛ لو، بالصدفة البحتة، وقعت عينها على عينه، هذا تصريح بالحب المهووس الشهواني؛ أسوأ ما قد يحصل، بالطبع، هو أن تبتسم لما قاله المتحرش: هذه، بلا شك، نهاية حياتها الطبيعية ودخولها في معمعة التحرش الدائم: ألا تحب النساء، كل النساء، الرجل الذي يضحكهن؟
الحل الوحيد، هو التجاهل الكامل، الموزون، العميق: أن تكون ميتة تماماً.
هذه هي قواعد التحرش.
أكثر من ذلك، إن لم يصل التحرش إلى العنف الجسدي، واقتصر على التحرش اللفظي، والمتابعة، والمراقبة، والمطاردة، فلا يحق لها أن تخبر عائلتها. أولاً، هناك عشرات المتحرشين، ولا يجوز أن تورط عائلتها في مشاكل دائمة. يعني العائلة متعبة ومنهكة، ولا ينقصهم هز بدن. ثانياً، في كثير من الحالات، سيطلب منها أخوها أو أبوها أن تغير ملبسها، أو طريقة مشيها، وأن تتخلى عن المشاوير غير الضرورية، كدورات اللغة او الرقص أو رؤية الأصدقاء أو الكوافير أو عيادة المرضى أو زيارات صلة الرحم. إلخ. العالم كله شرير، والأهل يريدون حمايتها من سفه المجتمع. لذا، تختار الفتاة، في النهاية، أن تعالج التحرش وحدها، طالما لم يكن عنيفاً جسدياً، بتجاهله، ولعب دور الميتة.“
أمامي على الطاولة، جرائد بالدانماركية فيها نقاش متجدد عن رغبة اليمين في حظر النقاب.
أبعدت الجرائد بقرف، وعدت إلى بلبل.
“المشكلة يا بلبل هي في عدم ردنا على كل هذا العنف.“
“أية ردود يا أخي؟ لا ردود ناجعة عندما لا يفعل من يفترض أنهم ضد التحرش شيئاً لمواجهته!“
لم أفهم، وشعرت بلهجة اتهامية في كلامه.
“ماذا تقصد؟“
قال: “متى قاطعتم يا «جماعة نحن متحررون ونحارب التحرش» متحرشاً؟ أعني رجلاً مثقفاً له مقام وقيمة في مجتمعكم، ولكنه يتحرش، لفظياً، بل وحتى جسدياً، بالنساء؟ متى قاطعتم شخصاً يضرب امرأته؟ متى اعترضتم على من يزوّج ابنته من شخص لا تحبه؟ متى احتججتم على صديق أو قريب يصرف أمواله على صاحبته فيما زوجته وأولاده يعانون الفقر، وعلى عينك يا تاجر؟“
“وما صلة كل هذا بالتحرش؟ ألا تشعر بأنك تخلط الأمور؟“ قلت، شاعراً بضيق يزداد بالتدريج.
أجاب المتحرش السابق: “التحرش ليس فعلاً منفصلاً عن المجتمع وقيمه، بل هو نتيجة طبيعية لكل هذا القهر اليومي، الذي نتجاهله جميعاً، طالما نستطيع دفن أنفسنا في الرمال كي لا نرى قبحه.“
“ولكنك تتكلم عن موضوع كبير، أكبر من التحرش“.
“لا لا، دعني أشرح قليلاً.“
يدخن وأسمع صوت شهيق مدمن على النيكوتين، يعقبه صوت واثق هادئ.
“طيب، دعني أعبر عن نفسي بطريقة مختلفة: ليس المقصود أن كل الرجال يمارسون التحرش، أو أن كل رجل متحرش حتى يثبت العكس: لا، هذه صيغة خاطئة استخدمتها أعلاه. الصيغة الصحيحة هي التالية: كل الرجال مشاركون في جو التحرش العام، منخرطون فيه، راضون عنه، ساكتون عما يرونه وما لا يرونه، كشياطين الإنس التي تعيش بيننا، ومعنا، وفينا“.
صمتُّ متفكراً، وأنا أقلّب كتاباً عن البوذية، يُذكر فيه أن بوذا تردد كثيراً قبل السماح بترسيم راهبات في دينه الجديد. قلت أخيراً، متوتراً حائراً:
“هل تعرف صعوبة ما تطالب به يا بلبل؟ لو فعلتُ ما تطلبه، لخسرتُ الكثير. لا أريد أن أحاكم الناس على الطالعة والنازلة. الحياة صعبة بما يكفي يا بلبل. أنا عاطل عن العمل في بلد أجنبي لا أعرف لغته. لا تطالبني بأن أحاكم الناس أخلاقياً على كل ما يقومون به. ليس باستطاعتي ذلك.“
سمعت تنفسه الثقيل، وصوت القداحة يشعل سيجارة جديدة؛ وأنا أعرف بلبل: لم يعجبه ردي.
“أنا لا أطالبك بشيء، ولكنني أريد فقط ألا تذكرني بالماضي، المراهقة والمدرسة الثانوية وسنين الجامعة، لتسألني عن التحرش بطريقة اتهامية، كأنك وصحبك أبرياء أنقياء من كل العلل.“
بلبل، الفتى الوسيم الذكي، اعتُقل مرتين، بسبب التحرش. في المرة الأولى قدمت به عائلة صبية بلاغاً، لأنه لاحقها حتى باب البيت. في الثانية، عقب معركة مع عم صبية في الشارع. كان يتحرش بها، فرآه العم: تعاركا، وجرح بلبل الرجل، ليكتشف لاحقاً أنه أخ دبلوماسي عربي.
ضربت الشرطة بلبل ضرباً مبرحاً، ثم نقلوه إلى فرع مخابرات، حيث لعنوا أخته وأخت عائلته وعائلة كل من يقرب له، قبل أن يقرر الدبلوماسي التنازل عن حقه، ويصر على إطلاق سراح بلبل من الحبس، والاعتذار له عما نزل به، بعد أن رآه غارقاً في دمائه.
عدنا إلى حملة “أنا أيضاً“.
قال بلبل إنه تأثر بها: بعض نساء عائلته حكين قصصاً مريعة، أخته الصغرى وبنت عمه وبنت خالته، وزوجته. أخبرني بأكثر من قصة روتها زوجته، له، هو المتحرش السابق. ودّعني حزيناً، طالباً مني أن أتأكد من إخفاء هويته في النص المنشور هذا.
بعض قصص زوجة بلبل مريعة، وبعض المتحرشين أقارب وأصدقاء موثوقون.
لا أذكر زوجته جيداً: تزوجا بعد سفري. يحزنني هذا الأمر كثيراً: أعني ألا أعرف الكثير عن حياة صديقي بلبل.
لا بأس، هكذا هي حياة المنافي. أذكر أنها كانت فتاة لطيفة جداً، وساذجة قليلاً، ومحافظة إلى حد ما: أعني محافظة بالمقارنة مع عائلتي اليسارية، ومنفتحة مقارنة مع عائلته المتدينة.
لا أعرف ما رأيها بصيت زوجها كمتحرش سابق. أجزم بأنها سمعت شيئاً عن ذلك، وتجاهلته، كما يفعل الجميع: تخبيص شباب، سيزول مع الزواج؛ وهو ما حصل، في حالة بلبل، على عكس ما نتوقع.
***
هذا ما فعلته الحملة إذن: حولت المعرفة الكامنة بحجم التحرش إلى معرفة في الهواء الطلق وإلى موضوع مفتوح للمناقشة من كافة الطبقات والأعمار والأديان والمناطق والإثنيات. وهذا إنجاز كبير. إلا ان ما لم تقله الحملة، هو الجانب المسكوت عنه في حياة المرأة، أي ما حققه التحرّش اليومي الكبير. والجواب، الذي نعرفه جميعاً، هو أن المرأة محكومة بالخوف من التحرش. في الأماكن العامة عليها الالتزام بالتعاليم المقدسة الآتية:
لا تقهقه ولا تضحك ولا تبتسم؛ لا تركض، ولا تمشي بسرعة، ولا تتجول ببطء دون هدف؛ لا تشرب القهوة مع سيجارة؛ لا تدخن الأرجيلة؛ لا تبكي أو يملأ الدمع مآقيها فجأة؛ لا تقبّل أحداً في الشارع بعفوية؛ لا ترقص بمرح؛ لا تقفز لفرح؛ لا تأكل بسرعة وشراهة؛ لا تصرخ بغضب؛ لا تصلح مكياجها؛ لا تجلس على حافة الشارع لتتأمل حياتها، أو حياتنا، أو الفراغ الكبير الذي لا يعوّضه شيء في وجودنا المؤقت على هذا الكوكب الصغير الآخذ في الغليان.
هذه هي نتيجة التحرش اليومي الكبير: نساء محكومات بخوف دائم من متحرشين محتملين قابعين في كل زاوية وزنقة ونفَس.
باختصار: وأد البالغات، إن استخدمنا مصطلحات الجاهلية والإسلام.
هل من ثورة روحية جديدة، لتحررنا من جاهليتنا هذه؟