ماذا تعني ثورة المرأة ،Siri ؟ مفاهيم متشابكة في عصر السايبر
المحور الأول يبحث في تمثيلات المرأة / التحرير في الفضاء السايبري اليوم، وما تبدو عليه النتائج في محرك البحث غوغل، عند البحث عن كلمات مثل “المرأة” و “الثورة” وغيرها، حيث أن خوارزميات عملية البحث تظهر نتائج مختلفة وغير متسقة بصورة تاريخية معينة عن ذات الموضوع، فتارة تظهر المرأة كأيقونة تاريخية للثورة، وتارة تُظهر النتائج صورة عن صفات المرأة من برج الثور، نظراً لاختلاط الأمر على الخوارزميات من حيث تهجئة حروف ثورة و ثور.، وتارة تظهر منتجات للبيع تحوي رموز ثورية، وتارة فيلماً أو أغنية كليشيهية حول الثورة والمرأة. هذا التجاور، بين صور من هذا التنوع، وإن كان غير مقصود، ومن إنتاج “الآلة” أو “الخوارزميات” فإنه يكشف الكثير عن ما تعنيه المرأة وثورتها بالنسبة لغوغل، والمعلومات التي يفصح عنها بالإضافة إلى أساليب تسويق وجمع المعلومات الاستهلاكية. في هذا العمل تم طباعة كل نتيجة بحث من الإنترنت مباشرة كـ screenshot وترتيب هذه النتائج وراء بعضها كطرق حفظ الملفات الحكومية، مما أعطى العمل بعداً ساخراً آخر. العمل يبدو مقارباً في طريقته إلى الـ internet art لكنه لم يستخدم الانترنت كوسط، بل كمصدر للعمل. بالنظر إلى هذه النتائج التي ظهرت على غوغل كموزاييك بجانب بعضها، نرى أن غوغل يهتم بثورة المرأة، لا بالجانب التاريخي وحسب ولكن أيضاً وبشكل أكبر بالجانب التسليعي بل التسويقي لهذا المفهوم، فالأفكار في عصر ما بعد الحداثة ومع ظهور الإنترنت أصبحت مجرد ملكية، أو سلعة، فلم يعد “حلم” مارتن لوثر كنغ سوى جملة مطبوعة على ظهر دفتر يباع بعدة سنتات، أو صورة شخصية على موقع فيسبوك، وكما هي الحال مع التي-شيرت الثوري الشهير لصورة غيفارا، نرى أن الثورة أصبحت تأتي “بمقاس واحد” للجميع. المرعب على الإنترنت ليس فقط عملية تسليع وتنميط وإفراغ كل فكرة من معناها، بل أيضاً سهولة “خطف” الثورات/الاحتجاجات على هذا الفضاء من قبل الظالم والمعتدي، للحيلولة دون التضامن مع الضحية، كما حدث في وسمي (هاشتاغ) Black_lives_matter و Me_too. هذا العمل يوضح معاني مختلفة للثورة في فضاءات مختلفة معيشة اليوم، فكلمة ثورة على الإنترنت تحتمل عدة معاني قد لا تتوافق مع معناها في فضاءات أخرى.
هل تستطيع المرأة أن تتكلم؟
في المحور الثاني من المعرض، نجد مقطعي فيديو من فيلم «هنا وهناك» للمخرج الفرنسي جان-لوك غودارد. الفيلم الوثائقي والذي تم إنتاجه في فترة السبعينات، يحاول توثيق الثورة الفلسطينية عن طريق الفيديو الوثائقي التجريبي، تظهر بالفيلم عائلة فرنسية في غرفة الجلوس تتابع ما يحدث عن كثب على شاشة التلفزيون. على الشاشة، نرى مشاهد من الثورة الفلسطينية، ومقاطع يظهر فيها فدائيون فلسطينيون في تلك الفترة.
في المقطع الأول – المقطعان تم اقتصاصهما من الفيلم الوثائقي- نرى امرأة فلسطينية تقوم بتكرار جمل من وراء شخص ما لا نراه، وتبدو في بداية المقطع متحمسة لما تقوم بتكراره من جمل ثورية خطابية، ومن ثم يبدو عليها التململ لاحقاً وتغير ملامح الوجه المشرقة، هذا التغيير يشار إليه عن طريق تعليقات صوتية من ضمن بنية الفيلم “التوثيقي”. في المقطع الثاني تظهر امرأة تدلي برأيها (رأي مكتوب مسبقاً لتقوله) حول الثورة، ومن ضمن حديثها تقول بأنها حبلى بطفل، وأنها لن تبخل به على الوطن.
يحاول المقطع إظهار فكرة التوظيف الأبوي للمرأة كأداة للضغط وكسب تعاطف “العالم” وتوظيفها في الثورة إعلاميا (صورة 1)، ويشير المعرض إلى أن هذه الطريقة قد تنبهت لها المنظمة واستخدمتها في مراحل متأخرة من الثورة. فما المخفي في صورة هذه المرأة؟ وما الذي تم إقصاؤه؟ في صورة هذه الإنسانة، صوتها هو المخفي. فغودارد بخطابه يؤكد أن هذه المرأة تحت ضغط أبوي أو مجتمعي لتقول ما تقول، مقصياً إمكانية أن تكون هذه المرأة اختارت أن تعبر عن صوتها بهذه الطريقة، من منطلق كونها إنساناً فلسطينياً، لا امرأة مهمشة تعاني في “الصراع” ربما ليست هذه الطريقة الأفضل، لكن ما زال هناك إمكانية لأن تكوّن طريقتها، كأي إنسان ثائر ويسعى لتحرير موطنه، سعرها بسعر وجميع ثوار في أية جبهة تحرير وطني، أما الشخص الذي يملي عليها ما تقول وراء الكاميرا، هي أو غيرها، ولو كانت رجلاً، فإنه يلغي حرية اختيارها وفكرها، ويملي أفكاره بطريقة أبوية بحتة، مستغلاً كونها امرأة وستدرّ تعاطفاً عالميا أكبر نحو القضية، مقصياً أيضاً قدرتها على النضال بطريقتها، كإنسان، بدون أن تستغل بأي طريقة، إن كلاهما ألغيا الاحتمالات والخيارات التي كان من الممكن أن تتمتع بها هذه المرأة. تتنازع صورة هذه المرأة في هذه الصورة بالذات هاتان القوتان، المتناقضتان، الصارختان، فيخفت صوتها هي فلا نسمعها، ولا نسمع ما أرادت حقاً أن تقوله.
من يدري ما كنا سنسمع لو أعطيت هذه المرأة الفرصة لتعبر عن مكنوناتها بصدق و تلقائية؟ في هذا الموضوع، يمكننا التطرق لدراسة قامت بها لينا ميعاري، بخصوص الأسيرات الفلسطينيات وأساليب التحقيق معهن، فتارة يأخذ التحقيق أسلوب إقناع الأسيرة أنه تم تضليلها والتغرير بها من قبل آخرين وجعلها تشك بنفسها وقدرتها على التحليل المنطقي أو عن طريق إقناعها أن عدوها الأول هو الأبوية الفلسطينية، هناك في مجتمعها، وهذا ما يجب أن يقف عنده سقف طموحاتها “النسوية الثورية”، نرى هناك خطاباً كولونيالياً أبيض يدعي أن هدفه الاستعماري هو إنقاذ المرأة من وحشية مجتمعها، وتحريرها منه، وكأن تحرير المرأة سيكون عن طريق من يكبلها هي ومجتمعها، هذا الخطاب يأتي مطابقاً لخطاب فرنسا حول النساء الجزائريات، وأمريكا حول الأفغانيات. إكمالاً لهذه الفكرة، حول تنازع وتوتر المرأة وسط هذه القوى مرة بصفتها الأضعف بجميع هايراركيات علاقات القوى، لا بد لنا أن نعرج على نظريات غياتري سبيفاك، ونظرياتها حول التابع. تحاجج سبيفاك وتناقض النظرية الفرنسية، French theory والتي كان من أشهر روادها ديلوز. تقول سبيفاك، أن التابع (subaltern) غير قادر على التكلم. وأن المثقف، حتى وان كان في بلد تحت الكولونيالية يستطيع “التكلم” كونه أصلاً في موضع سلطة. وأن أي تضامن أو تحليل يلقي فيه المثقفون بأنواعهم -المحليين وغير المحليين- حول التابع، وهو تضامن فارغ من المضمون، وتحليل منقوص، لأن ما يتنازع هذا التابع من علاقات القوى، هو من التشابك بمكان، أن لا يستطيع المثقف البعيد أن يحلله بدقه ويفهمه بعمق، فما وراء القوى الكولونيالية يتنازع التابع قوى مجتمعية، ودينية ونوعية، وقوى فرعية، ليس فقط قوة وحيدة بين السلطة والهامش، بل تدرجات لا نهائية لعلاقات القوى. ما تحاول سبيفاك قوله، وخصوصاً في موضوع المرأة الهندية، وتحليل هذه الذات، هو أن لا نقوم بالحكم عليها، ولا الدفاع عنها، أو الحديث عنها، بل الحديث معها، حرفياً، لنعطها صوتاً، فأين هذا العمل من ذلك؟
ثورة المرأة، النيوليبرالية، ومشروع الدولة
في المحور الرابع نرى مقاطع فيديو، تظهر لقاءات مع نساء فلسطينيات معاصرات يعملن في الشرطة الفلسطينية. إن هذا المحور بالذات مهم على عدة أصعدة، فهو يوضح الانتقال الذي مرت فيه القضية الفلسطينية والمشروع التحرري، منذ بداية النضال، إلى الآن، مرحلة المأسسة والتقنين والتوجيه. ويبدو الفرق واضحاً جداً، على صعيد اللغة البصرية في المظهر، فبسهولة يمكننا ملاحظة ذاتية واستقلالية وتلقائية مظهر المرأة في فترة الثورة، وتصلبها في عصر اليونيفورم، وأجهزة بصمة الدوام. إكمالاً لفكرة استيعاب المرأة في مشروع الدولة، في المحور الثالث، نرى محاولة معاصرة لإعادة إنتاج صور قام بإنتاجها عدة مصورين أوروبيين اختاروا في أواخر الستينات والسبعينات توثيق الثورة الفلسطينية، وتصوير الفدائيات المحاربات جنباً إلى جنب مع الفدائيين، وألهمت هذه الحركة الثورية الأحرار في كل مكان، من اليابان إلى نيكاراغوا، بنسائها ورجالها، فأتت هذه المحاولة المعاصرة، بعدسة سامي شناعة، كجواب على سؤال ماذا يعني تاريخ الثورة اليوم؟ وأين موقع الثورة اليوم؟ وأين تم استيعاب هذا الزخم من التاريخ الثوري؟ في إحدى الصور الملتقطة، تبدو الإجابة واضحة، في خلفية الصورة. تم استيعاب ثورة المرأة/المرأة والثورة بأجهزة الدولة الشرطية، بالشركات والمشاريع الاستثمارية،/ بالبنوك، بالقروض، وتم إعادة تعريف تحرير المرأة وثورتها بما يخدم الأجندة النيوليبرالية والسياسية بالمنطقة، فمساواة المرأة وثورتها تعني أن تكون ناجحة اقتصادياً، أن تكون امرأة أعمال، أن تدخل البرلمان مثلها مثل الرجل، أن يكون هناك كوتا نسائية ومساواة وحصة للمرأة، أن يكون لها الحق (كما الرجل)، ولكن بماذا؟ بأن تعمل.. أي: أن تخدم وتُستعبد في شركات هذا الوحش وأن تعتصر عصراً في سبيل إطعام آلة المال الكبرى، إن خداع المرأة بهذه الطريقة ما هو إلا تشويه لمفهوم المساواة والتحرر، فكما أنه ليس هناك استهلاك أخلاقي تحت الرأسمالية، فأنه ليس هناك مساواة تحت نظام ظالم أساساً. كل هذه الأسئلة التي يطرحانها هذان المحوران، هي شرعية ومنطقية وربما آن الأوان لنجيب عنها، في ظل ما نعاصره، إلى أين نتجه الآن؟ وهل كان سيتغير مصيرنا الحالي فيما لو سمح للمرأة بالماضي بأن تتكلم؟ هل يمكن إعادة تعريف التاريخ الثوري بشكل معاصر، لا يخسرنا ثوريته؟ وكيف؟
أخيراً..
إذا نظرنا بصورة وزاوية أوسع، فيما يخص موضوع ثورة المرأة بالتحديد، فإن ما مرت به من وصفها بالأيقونة هو لعمل ووصف ذكوري أكثر من أي عمل آخر، ما زلنا بوصفها بالأيقونة، ننظر لها كأنها كائن آخر، يحتاج التصفيق على كل عمل طبيعي وبشري يقوم به الرجل/الإنسان، لم يحز كل الرجال على وصف أيقونات بالنضال، لكن المرأة حازت على هذا الشرف التعميمي، حتى لو كنا نجهل اسمها، ما زالت تكنى بالأيقونة!
ما يجب أن يحارَب هو تلك الدهشة والتصنيف للعمل النسوي، والأدب النسوي والفن النسوي.. الخ. متى ما اختفت هذه الدهشة برأيي سنحرز تقدماً هائلاً. نعم، إن ثنائية أيقنة المرأة/امتهانها، لا تضيف سوى مزيداً من الصعوبات على مسيرة “المرأة” كإنسان. بالتأكيد عندما نتحدث عن ثورة المرأة، فإنها لم تكن ولو لمرة واحدة ثائرة ضد سلطة واحدة، فهي عندما تثور على سلطة ما، تثور على باقي السلطات بالنتيجة، لأن كل ما يقيدها من سلطات هي مترابطة وشائكة، وبالتأكيد إن هناك من يستحقن لقب أيقونة بجدارة، لكن لما قدمنه وليس لكونهن إناث فقط. لذلك الحديث عن “ثورة المرأة” والمرأة هو عمل شائك دوماً عندما يكون في دائرة البحث، كهذا البحث ككل، وهذا ما يعطي الشرعية لاقتراح سبيفاك بالحديث معها عن ثورتها لا عنها، المرأة لا تحتاج تأليهاً ولا تحقيراً، بل أنسنة، دون إضفاء أي هالة أو تمييز.
ما يجب هدمه أساساً، هو هذا التصنيف، وهذه التحديقة، تحديقة الرجل والمرأة أيضاً على المرأة (gaze)، بحيث نحدث تغييراً من أعلى، متزامناً مع ملاحقة الظلم الذي يحيق بالمرأة وغيرها من شتى قوى الظلم، إن كانت استعمارية، أو مجتمعية، أو اقتصادية، وفي شتى المجالات، في النضال، في الأدب، في الفن كتغيير من القاعدة، بالإضافة لذلك، علينا محاربة عملية فصل الهويات الناتجة في عصر ما بعد الحداثة، فالإنسان هو تقاطع هويات مختلفة جندرية وطبقية ومجتمعية وعرقية، والتركيز على هوية واحدة فقط كأساس للانتماء، يجعلها عرضة للاستغلال والخطف من جهات متعددة.
أما فيما يخص الثورة الفلسطينية، وما آلت اليه من مشروع لدولة، فأن المعرض يطرح الكثير من الأسئلة، تستوجب منا إعادة التفكير بالنيوليبرالية كنظام اقتصادي متبع في مشروع الدولة المنتظر، بل إعادة التفكير بمشروع الدولة أيضاً في ظل التغيرات الحاصلة. إن كانت الكولونيالية، والتي تعمل الآن كمشروع اقتصادي نيوليبرالي هي من دعمت القوى الاجتماعية الهادفة لوضع المرأة والرجل أيضاً في قالب معين يخدم سياساتها، فأن بيدنا تحطيم أربعتهم.