مخيم اليرموك يتعرض للتدمير الشامل بعد أن تعرّض لتدمير كبير خلال سنوات الحصار. لماذا هذه الوحشية؟ لماذا يجب أن يتدمر؟ بغض النظر عن المبرّر الشكلي المطروح، هنا ما هو أبعد من ذلك. فقد كان المخيم الفلسطيني متهم بـ “إثارة الشغب” والفوضى واستخدام السلاح منذ بدء الثورة السورية، حيث حمّلت بثينة شعبان مخيم درعا مسؤولية أحداث درعا، التي كانت تعبّر عن بدء توسّع الثورة. ومن ثم حمّلت فلسطينيي الرمل الجنوبي مسؤولية تظاهرات اللاذقية. ولهذا تعرضت المخيمات إلى القصف الممنهج والتدمير والتشريد منذ اليوم الأول للثورة السورية. من مخيم درعا والرمل الجنوبي إلى مخيم حمص وحندرات في حلب، وحتى مخيم خان الشيح ومخيم اليرموك.
كان لافتاً زج الفلسطينيين في الصراع منذ البدء، رغم أن الشباب الفلسطيني لم يكن خارج الثورة، فهو سوري كما هو فلسطيني. لكن رغم ذلك، أن يُتهم بأنه يقوم بالتخريب والقتل، فهذا أمر يوضّح أن هناك إستراتيجية محدّدة كان النظام يطبقها على مجمل المخيمات، حتى تلك التي لم تشهد وجود “مسلحين” مثل مخيم خان الشيح. وأصلاً حينما اتهم مخيم درعا، أو الرمل الجنوبي، لم تكن الثورة السورية أصلاً دخلت مرحلة التسلح. هذا ما أوضحه بشار الأسد بعد عام وأشهر من بدء الثورة حينما قال بوضوح شديد أنه في الستة أشهر الأولى لم يكن هناك سلاح ولا مسلحين. هذا يعني أنه كان لدى النظام تصوّر يخص المخيمات منذ البدء يتعلق بوجودها، وكان الإتهام هو المبرر لقصفها وتدميرها.
مخيم اليرموك كان في عين الهدف، حيث عمل أزلام النظام على إدخال السلاح إليه قبل بدء التسلح، وكان ذلك يستثير الشباب في المخيم، هؤلاء الذين كانوا مصممين على أن يبقى المخيم بدون سلاح، وأن يظلّ حاضة كل المهجرين من محيطة، الذين أجبرهم القصف الوحشي للنظام على ترك بيوتهم. وعملوا على ضبط المجموعات المسلحة التي ظهرت في الحجر الأسود وأحياء أخرى محيطة في المخيم، لكي لا تقتحم المخيم وتبقيه كحاضنة لأهاليهم. لكن فجأة دخلت مجموعات مسلحة من هذه المناطق قيل بأن هناك فلسطينيين شاركوا فيها، ومن الحجر الأسود خصوصاً. وهناك مَنْ برّر ذلك بوجود “حقد طبقي” نتيجة الفقر الشديد الذي كان يعيشه سكان الحجر الأسود، لكن تبيّن أن النظام لم يكن بعيداً عن ذلك، وظهر أن هناك بعض المجموعات التي كانت من تأسيس أجهزة الأمن (ومن قبل واحدة منها استشهد رفيقنا أنس عمارة). بالتالي كان همّ النظام إدخال السلاح إلى المخيم، ومن ثم حصاره. وشهدت هذه المرحلة تهجير معظم سكانه من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، بعد حصار صعب وقصف مريع، وقتل بلا سبب.
وبخصوص الهدف من ذلك، نلمس بأن القصف والقتل والتدمير هنا كان تحت حجة وجود مسلحين، لكن مخيم خان الشيح لم يدخله مسلحون، ولقد فرض سكانه ذلك، لكنه قُصِف، وحوصر، وتعرّض لغارات كبيرة، ليس من طائرات النظام فقط بل كذلك من الطائرات الروسية، وكان القصد تهجير سكانه، الذين خرج منهم الكثير.
بعد إدخال المخيم في خضمّ الصراع العسكري، سيطرت مجموعات فلسطينية عليه، خصوصاً بعد أن مالت حركة حماس نحو “الثورة” نتيجة انخراطها في مسار جماعة الإخوان المسلمين، وتحالفها مع قطر. لهذا، ولتصفيتها، جرى إدخال جبهة النصرة التي تشكلت من أفراد من محيط المخيم، ومن آخرين أتوا من الخارج بمساعدة النظام ودول إقليمية (السعودية وتركيا والأردن). وكان واضحاً أن النظام هو الذي يقوم بهذه “اللعبة” التي نجحت في كسر أكناف بيت المقدس والسيطرة على جزء كبير من المخيم. ومن ثم أصبح المخيم يُقصف تحت حجة وجود إرهابيين. لقد أدى القصف، ومن ثم دخول جبهة النصرة والسلطة التي فرضتها، والحصار المريع الذي تعرّض له المخيم إلى أن يبقى فيه حوالي 18 ألف لاجئ، في وضع سيء للغاية، ومع قصف بين وقت وآخر. لم يكتفِ النظام بذلك، فقد كانت “المفاجأة” في دخول تنظيم داعش إلى المخيم قدوماً من الحجر الأسود، رغم أن المخيم في وضع حصار شامل، وكذلك الحجر الأسود يخضع لحصار شامل، حيث تبيّن أن النظام هو الذي سهّل انتقال داعش من الحجز الأسود إلى المخيم، وأن جبهة النصرة هي التي أدخلتها. وبات كل منهما يسيطر على جزء بعد طرد أكناف بيت المقدس.
الآن يُقصف المخيم بحجة وجود “الإرهابيين”، ويلحق به رهط من الممانعين الفلسطينيين الذين يتلذذون بتدمير المخيم، الذي كان قد لفظهم منذ زمن طويل. وبالتالي وصلنا إلى لحظة إنهاء المخيم تماماً، طبعاً تحت حجة طرد داعش والنصرة، هاتين المجموعتين التي أصبحت باصات النظام هي وسيلة نقلهما من منطقة إلى أخرى، في عملية تدمير مستمرة. فقد عقد النظام اتفاقاً مع كل منهما لنقله، داعش إلى الرقة والنصرة إلى إدلب، ثم توقفت عملية النقل، ربما ظهر أن دورهما لم يكتمل في المخيم. وبعد تدمير الغوطة الشرقية انتقل كل من النظام وروسيا إلى جنوب دمشق، ومنها المخيم، حيث جرى عقد اتفاق لنقل النصرة إلى إدلب وداعش إلى البادية السورية. بعد الاتفاق بدأ التدمير المنهجي لما تبقى من المخيم. هذا ما فعلته أميركا في الرقة، حيث بعد أن أخرجت داعش قامت بعملية تدمير منهجية للمدينة. ليظهر أن الهدف هو ليس قتل عناصر داعش والنصرة بل تدمير المخيم. فهؤلاء حجة ليس أكثر، وهم ينقلون إلى كل المناطق التي يراد تدميرها، ومن ثم يجري نقلهم إلى مناطق أخرى ما دام هناك منطقة لم تتدمر.
لا شك في أن التدمير الممنهج هو سياسة اتبعها النظام منذ زمن طويل، وتهدف إلى تدمير بيئة الثورة، وتهجير الشعب الذي ثار ضده. وهناك مناطق، خصوصاً في دمشق ومحيطها جرى تدميرها نتيجة مصالح بعض مافيات النظام التي تريد “إعمارها” لمشاريع “تجارية” بعد أن باتت أسعار الأرض فيها مرتفعة جداً. لكن للمخيم ميزة تدمير أخرى، إضافة إلى السببين سابقي الذكر. لهذا أشرت إلى التحريض على المخيمات منذ بدء الثورة في درعا، والتركيز على الدور التخريبي الذي يقوم به الفلسطينيون. وأقصد هنا أن النظام يساير السياسة العامة التي قررتها الدولة الصهيونية وفرضت أميركا تنفيذها، وظهرت واضحة بعد أن طرد عملاء إيران في العراق فلسطينيي العراق، حيث أبقاهم النظام في منطقة التنف الصحرواية سنوات دون أن يسمح لهم بدخول سورية، رغم ادعائة دعم القضية الفلسطينية. وكذلك ما فعله في لبنان قديماً بدعم تدمير مخيم تل الزعتر والضبية على يد عصابات حزب الكتائب. ثم تشكيل “فتح الإسلام” ودعم تدمير مخيم نهر البارد، ودعم حركة أمل وهي تدمر مخيمي صبرا وشاتيلا، وغيرها. ومن الواضح أنه يكمل الآن هذه السياسة التي تقوم على تهجير اللاجئين الفلسطينيين من محيط فلسطين إلى أقاصي الأرض، من أجل إنهاء “مشكلة اللاجئين”، في سياق سياسة صهيونية تهدف إلى تكريس السيطرة على كل فلسطين.
إذن، النظام يدمّر، والممانعون الفلسطينيون يصفقون، وبعض منهم يشارك في تدمير المخيم، وجزء من الفلسطينيين لا زال يطبّل للنظام السوري. ليظهر أن أولوية بعض الفلسطينيين هي الدفاع عن النظام السوري تحت وهم محاربة الإمبريالية والممانعة والخوف من تنظيمات مجرمة كان النظام هو أول من أسهم في صنعها حين أطلق سراح قادة وكادرات كانوا في سجونه، وأمدهم بالسلاح، وبجلب الدعم الخارجي (السعودي أولاً). لهذا لا يرفض هؤلاء ما يقوم به من تدمير ممنهج، وقتل منتظم، وتصفية لمخيمات سورية، بل أنهم يوافقون عليه، وهم كرمى لعيون الممانعة وقائد الممانعة يوافقون على تدمير كل فلسطين. مخجل أمر هؤلاء، الذين يغضون النظر عن كل ما فعله النظام ضد الشعب السورية، وحتى ضد اللاجئين الفلسطينيين. فهم ربما بلا وعي يشاركون في تصفية القضية الفلسطينية، القضية التي يدعون أنها قضيتهم، وأنهم يدعمون النظام السوري لأنه يدافع عنها. رغم أن كل ما قام به يكرّس الدولة الصهيونية، بعد أن دمّر سورية وجيشها، وتواطأ في تدمير المخيمات مكملاً ما بدأه في لبنان.