بعض الروايات تعيش معك بعض شخصياتها لفترة وقد تظل تتذكرها لطرافتها وربما تعود إليها ثانية وثالثة. بالتأكيد قد يكون هناك عامل ذاتي يسهم في هذا. ومن هذه الشخصيات شخصية المواطن النابلسي في رواية جمال أبو غيدا «خابية الحنين»، 2016.
الرواية هي الأولى لصاحبها وقد عُرف مترجماً فنقل إلى العربية عن الانجليزية كتابات عن فلسطين في القرن التاسع عشر.
تأتي رواية «خابية الحنين» على فترتين زمنيتين عاشهما الأردن وهما الحرب بين الجيش الأردني وحركة المقاومة الفلسطينية في العام 1970 ومظاهرات الطلبة في جامعة اليرموك في نهاية ثمانينات القرن العشرين، ويلجأ الكاتب إلى بناء زمني يقوم على المراوحة والاسترجاع؛ المراوحة بين الزمنين 1970 و1986 والاسترجاع المتمثل في الكتابة عن ماضي الشخصيات، وهكذا يتسع المكان فلا يعود يقتصر على عمان وإربد وجامعة اليرموك. يتسع المكان ليشمل يافا وحيفا والقدس ونابلس، فعمّان مدينة حديثة النشأة وهي منذ النكبة الفلسطينية في العام 1948 غدت مدينة أردنية فلسطينية من حيث تكونها السكاني.
وهكذا فإن الرواية التي تجري أحداثها في الأردن تغدو من حيث الموضوع رواية فلسطينية أيضاً، وكم يصعب وضع حدود بين الأدبين الفلسطيني والأردني، بل الفلسطيني والعربي.
تحضر الشخصية النابلسية في رواية «خابية الحنين» كما لم تحضر في روايات أخرى. هل أجازف وأقول كما لم تحضر في روايات سحر خليفة التي تعد أهم من كتب عن نابلس.
وحتى لا أتجنى على روايات سحر أقول إن قسماً منها تغلغل إلى حياة النابلسيين وكتب عنها بتفاصيل لافتة. هنا أشير إلى «الصبار» و«عباد الشمس» ولا أنسى «باب الساحة».
طبعا هناك كتابات أخرى غير روائية أتى أصحابها فيها على حياة أهل نابلس وعاداتهم وتقاليدهم ومنها ما كتبه مالك فايز المصري «نابلسيات».
في أثناء قراءة «خابية الحنين» والشخصية النابلسية فيها يتذكر المرء ما كتبته فدوى طوقان في الجزء الأول من سيرتها «رحلة جبلية.. رحلة صعبة»، 1985.
أتت فدوى على أهل نابلس وعلاقتها بهم وأبدت رأيها في النابلسيين ورأت أن أهم ما يتصفون به هو السخرية والتهكم .إنهم سليطو اللسان بخاصة حين يرون شخصاً يدّعي، فالويل لمن يحاول ذلك. ولقد أدركت فدوى هذا ولذلك آثرت العزلة والانسحاب.
يتذكر المرء ما كتبته فدوى وهو يقرأ رواية جمال أبو غيدا، فما كتبته هي عن أهل نابلس يجسده الروائي في شخصية عز الدين الشيخ مسعد (أبو العز) المولود في يافا قبل العام 1948 والمتربي في بيت أخواله في نابلس والمقيم لاحقاً في عمان، وإذا كان المثل الشعبي صحيحاً، ”ثلثا الولد لخاله“، فإن عز الدين نابلسي بامتياز وهو ما هو عليه في الرواية.
أشير ابتداء إلى أن «خابية الحنين» تحفل بتعدد لساني لافت، كما تحفل بشخصيات روائية تعكس المجتمع الأردني بما صار عليه إلى حد كبير في الفترة التي تجري فيها الأحداث الروائية، ففيها الأردني المدني والبدوي وفيها النابلسي والمقدسي، وفيها شخصيات تنتمي إلى شرائح اجتماعية متنوعة؛ فقيرة وغنية، عاملة وبرجوازية، نسوية وذكورية، يمينية ويسارية و..و..
ولا شك أن تمثل التعدد اللساني يبدو صعباً، وأعتقد أن الكاتب حقق في هذا الجانب نجاحاً لافتاً منح روايته قدراً كبيراً من الصدق الفني.
ولكن النجاح الذي حققه في تمثل الواقع والتعدد اللساني غدا إلى حد ما أيضاً عبئاً على قسم كبير من القراء، وربما يغدو هذا العبء أكبر على القراء العرب البعيدين عن المجتمعين الأردني والفلسطيني. وتذكّر الرواية برواية الطيب صالح «بندر شاه: ضو البيت» من حيث هدفها مراعاة الصدق الفني وإنطاق الشخصية في الرواية بما تنطق به في الواقع.
وأعود إلى الشخصية النابلسية في الرواية. ثمة تمثل كبير جداً في أثناء رسم هذه الشخصية ليس لغة وحسب، وإنما في تمثلها روحاً أيضاً. النابلسي في الرواية هو النابلسي الذي كتبت عنه فدوى؛ سلاطة اللسان والسخرية والتهكم أيضاً.
إن ”أبو العز“ بروليتاري رث ولا عجب أن تتكرر مفردات هذه الطبقة على لسانه “تعاريص الغني وموت الفقير” والمدني المتكبر على الريفي “الفلاح تبع كنافة قبل الظهر“ و”ولك مسعود، هيه يا مسعود، جيب لنا كاستين شاي أكرك عجم، والله لو لحقك خالي أبو الحكم كان ما عتقك يا عرض..”.
إنه غالباً ما يبدأ كلامه بالهمز واللمز، تلميحاً وتصريحاً “أولاد عمنا اللي بياكلوا الكنافة البايتة تبعة قبل الظهر“ أو “صاحبنا اللي بالي بالك فيه لف أوقية الكنافة بنص رغيف كماج”. و”بدنا نقلي بيض بضراط” ويا عميل يا داسوس… الخ من مفردات وعبارات خاصة بأهل نابلس يعرفها كل من خالطهم. وأعتقد أن الرواية في هذا تبدو لافتة وتستحق وقفات أخرى أيضاً.
إن ما ورد في العبارات المقتبسة من الرواية شائع عن النابلسيين، وقد ورد في أدبيات كتابهم. تأتي سحر خليفة في رواية «عباد الشمس» على ما يشاع عن عادة اللواط بالغلمان وتورد نكتة طريفة عن هذا. تشير إلى أن أحد المصابين بمرض الغلمان اصطحب غلاما أعرج فلمحه أحد معارفه واستغرب فالغلام أعرج، ويجيب الرجل بعبارة لافتة: “هو أني ماخده على السبق”.
طبعاً علينا ألا ننسى بعض قصائد إبراهيم طوقان المتداولة غير المنشورة وما كان إبراهيم عليه من شرب الخمر. إن شخصية ”أبو العز“ تدمن أيضاً على هذا مثل أخواله.
وعموماً يمكن القول إن الشخصية النابلسية في الرواية خارجة من رحم المجتمع النابلسي في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، وربما لم يبق منها في الواقع إلا ما يتندر به عليها، فنابلس الآن مختلفة عما كانت عليه، ولكن ما يجب ألا يغيب عن ذهننا هو أن الشخصية النابلسية في الرواية تنتمي إلى تلك الحقبة.