يندرج فيلم “الرحلة” للمخرج العراقي محمد الدرّاجي، ضمن سلسلة لم تتضح معالمُ بداياتها في السينما العراقية بعد زوال نظام حزب البعث الذي حكم البلاد بالحديد والنّار لعقود. ولا يُجحفُ المتابعُ إذا رأى، على ذلك، أنّ محمد الدرّاجي (٣٩ سنة) واحد من أبرز أسماء هذه المرحلة في السينما العراقية التي ترِدُ إلى شاشات السينما.
فالشاب الذي سبق وأخرجَ كلاً من: “أحلام” و”ابن بابل” و”بين ذراعي أمي” و”تحت رمال بابل”، لا يتوانى في أفلامه، والتي تبدو من خلال عناوينها حتى؛ مهجوسةً ببلاد الرّافدين وما آل إليهِ الحال فيها، عن الاشتباك مع مشكلات الإنسان العراقي، ما بعد الديكتاتور والاحتلال.
قصّة الفيلم تدور حول فتاةٍ عراقيةٍ اسمُها سارة (زهراء غندور) تصلُ إلى محطّة القطارات في بغداد ملفوفةً بحزامٍ ناسف، تنوي تفجيرَ نفسها هناك. تزامنًا مع وصولِ وفدٍ ديبلوماسيّ يضمّ السّفيرين الأمريكي والفرنسي على متن القطار القادم من البصرة، وقد تأخرَ وصوله. أحداث الفيلم بالكامل، تدورُ في هذه الآونة، في محطة القطارات، حيثُ المكانُ المُختارُ بعناية من قبل المخرج، أعطى للفيلم صورةً جميلةً بين السكك والقطارات القديمة المخلّعة، والمخازن والأرصفة، في دهاليز منحتنا جرعةً بصرية بديعة طوال دقائق الشريط السينمائي.
لكنّ مصادفاتٍ قدَريّة، تحولُ دونَ وقوع الكارثة، فقد تكفّلَ شابٌ لعوبٌ يُدعى “سلام” (لعبَ دورهُ أمير جبارة) يعيشُ على خداع المسافرين في المحطة ببيع أطرافٍ صناعية، ويقتاتُ من الفُتات الذي “ينصبُ” لأجله على الناس، تكفّل بإيقاف الكارثة.
وعلى الرغمِ من أنهُ متحرّش أيضًا! بيدَ أنّ هذه المثلبة الاجتماعية، والجرم القانونيّ، أي التحرّش، ستساهمُ هذه المرّة بالحؤول دون كارثة إنسانية يذهبُ ضحيّتها عشرات الأبرياء. إذ يتحرّشُ سلام بسارة، فتهددهُ بحزامها النّاسف، وتسوقُهُ سوقًا، بعد أن كُلّفت عبر هاتفٍ متكررٍ مجهولِ المصدر ويعطي دائمًا التعليمات، بألا يفلت من يديها لأنّ بإمكانه إفشاء سرّها وإفشال العملية، فيُصبح شريكها في بطولة الفيلم. وهنا تحدثُ الانعطافةُ الدرامية، حيث تُلقي سيدة هاربة من رجال الجيش الأمريكي المتواجدين بكثرة في المحطة، بحقيبةٍ في يد سلام، وتحاول الفرار من الجنود، لنكتشفَ أنّ في الحقيبة طفل. تحاولُ سارة إجبار سلام على تركه، لكنّهُ يرفض تركه بشكل قاطع. انعطافة إنسانية، في مشاعرِ الانتحارية التي كانت قبل قليل تنوي قتل العشرات، ساهمَت بتعزيزها الحوارات التي دارت بين الرهينة وخاطفها، سلام وسارة (كانت مباشرةً في مرّاتٍ، ومتكلّفةً أحيانًا في أخرى) عن جدوى ما تقومُ به، وكيفَ أنها ستقومُ بجريمةٍ تودي بحياةِ أناسٍ مساكين لا ذنبَ لهم في كلّ ما يدور في رأسِها. وبالتأكيد، فإنّ نهايةَ القصّة بأن تعدِلَ سارة عن رأيِها، وتقرر ألّا تقوم بالعملية، لم يكن مفاجئًا للمشاهد، ذلك أنّ السياق قدّمَ توطئةً كافية، للوصول إلى تلك الخلاصة.
مشاهد الفيلم مشغولة بحُب كبيرٍ للسينما، للصورة السينمائية، ومشغوفةً بالمُهمَلِ والمَتروك، والهامشيّ. حاولَ الدرّاجي أن يُقدّمَ نماذجَ مختلفة للشخصية العراقيّة بعد مرورِ خمسة عشر عاماً على نهاية نظام الطاغية، فاختارَ كهلًا مكلومًا، رجلًا يتزيّن بثيابٍ عسكرية بالية ويرطن بخطاباتٍ جوفاء أكل عليها الزمن وشرب، وأطفالًا مشرّدينَ وفتاة مضطربةً وموسيقيًا حالمًا مع فرقتِهِ، سرق السّجنُ من حياتِهِ ٢٢عامًا فخرجَ مُستمرِئًا مظلوميّتهُ المُحقّة. ثمّة شخصيّات ذات ظروفٍ غير طبيعية، كأنما أريد منها أن تعكس ظروفًا غير طبيعيّة يمرّ بها العراق والإنسان العراقيّ أولًا، منذ زوال صدّام حسين من حاضر الناس المُستمرّ، أي منذُ فجر أول أيام عيد الأضحى، في الثلاثين من كانون الأول/ديسمبر عام ٢٠٠٦. وهو التاريخ الذي اختار المخرجُ أن يبدأ فيلمه منه. لحظة وفاة الديكتاتور.
وإذا كان السيناريو والحوار يُعدّ من النقاط الأضعف في الشريط، فإنّ من الواجب القول إنّ المخرج استطاع التلاعب بمشاعر المشاهدين من خلال صورةٍ سينمائية جميلة، عكست امتلاكه لعين نظيفةٍ ونباهةٍ عالية، وامتلاكهُ، بالتوازي، الدقّة في اختيار فريق عمل الفيلم، إذ تبدو الاحترافية العالية في حركة الكاميرا، والانتقال بين الظلّ والنور، والتي يقفُ خلفها مدير التصوير دريد منجم. كما ساهمَت الموسيقى التصويرية (مايك كورتزر وفابيان كورتزر) بإعطاء المشاهد ما كان يلزمها من مؤثراتٍ تتناسب مع الحركة الدرامية للفيلم. وتجدرُ الإشارةُ إلى فريق عمل المونتاج (باسكال شافانس، هيرفي دي لويس والدراجي نفسه) والإشادة بما خرج عليه الشريط السينمائي من تشكيل للمشاهد، وازى في جماليته التشكيل البصري المتقن للعمل.
تصويرُ الفيلم جرى في العام ٢٠١٦ في بغداد، بعد مرور ثلاثة عشر عامًا على الاحتلال، تغيّرت أشياء كثيرة منذ ذلك الوقت. ولكنّ معاناة الناس في صراعهم المرير مع الحياة لم تتغير، ازداد اليأس، ازدادَ المُضطربون، ازدادَ الرّاديكاليّون، تعاظمت المأساة، وصارَ الدّمُ ثقيلًا جدًا على كواهل العراقيين. كلّ هذه المفردات تجعلُ فيلم الرّحلة ينقسمُ إلى نداء استغاثة أطلقهُ المُخرج لإنقاذ ما تبقى من شخصية الإنسان العراقي من ناحية، ويُمثّلُ رؤية جيل ما بعد الحرب إزاء الحياة من ناحية ثانية، حيث رغم كلّ تلك المآسي، أصرّ الدرّاجي على صناعة السينما، كأنهُ إصرار على متابعة الصراع نفسه، بمفردات جماليّة هذه المرّة. ليكرّس الشابُ الثلاثيني اسمهُ بين أسماء منتظرة، تؤسسُ لرؤى فنيّة جديدة في عراق ما بعد الاحتلال. وفي ذلك بارقة أملٍ يجبُ العملُ بجد كيلا تنطفئ!