عشاء في بوردو

Bordeaux

أسماء الغول

كاتبة من فلسطين

اقترب من رصيف المحطة، بعد أن حجز تذكرته إلى مدينته، وبالتأكيد بضعف سعرها لأنها آنية. أخذ يراقب القطار الذي يقترب أكثر، جلس على حافة الرصيف يريح ساقيه، الريح تبعث بشعره مع اقتراب القطار.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
خمس ممثلات إيطاليات أيقونيّات (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

29/01/2019

تصوير: اسماء الغول

أسماء الغول

كاتبة من فلسطين

أسماء الغول

كاتبة وصحافية من مخيم رفح جنوب قطاع غزة، ومقيمة حاليا بفرنسا.

تجادل مع رجل الأمن عند محطة القطارات، هو يعرف أن ترك حقيبته في وسط المحطة ممنوع، وكان عليه أن يدعها في طابور حجز التذاكر ليرتاح قليلا في كرسي غير بعيد، وفي الوقت نفسه تبقى الحقيبة في محله، لكن رجل الأمن أعاد عليه ذات اللازمة الأمنية، اضطر للعودة إلى الطابور الذي يتقدم ببطء شديد، المشكلة أن ساقيه تؤلمانه بعد أن لعب كرة قدم الأربعاء الماضي، كعضو في فريق جمعية عون اللاجئين التي يعمل بها كمساعد اجتماعي، ضد فريق من شباب اللاجئين الذين قدموا إلى فرنسا خلال العامين الماضين.

اليوم سيتوجه إلى مدينة بوردو ليقابل الطبيبة الفرنسية التي تواعد معها في محادثة عبر ماسنجر الفيسبوك، (كثيرا ما تخدعهم صوري على صفحتي في الفيسبوك، مع شعري الأشعث، ولوني الشرق أوسطي)، لكن في الحقيقة هما تقابلا في أحد المؤتمرات بمدينة مرسيليا من قبل، فهي تعرف ماذا ينتظرها.

بدوره لم يكن جمالها فقط ما جذبه بل أعجب بطرحها حول العلاج النفسي الذي يجب أن يقدم إلى الفارين من الحروب عبر مزيد من دمجهم في الحياة الخارجية الجديدة، ووضعهم كمتطوعين في المؤسسات والأندية، ووقف وصفات الأدوية، أو عزلهم في القرى والمنازل البعيدة عن المدن.

في المقابل لا يتذكر أنه تحدث كثيراً في المؤتمر بما يثير إعجابها، فهو يعمل مع اللاجئين لكنه يتجنب الحديث عنهم علناً فهذا يجعله يشعر بالنفاق لأنه كان أحدهم من فترة ليست ببعيدة، وقد عانى ما يكفي في بداية عمله كي يفصل بين ما مر به وبين تجارب اللاجئين الذين يساعدهم، إلا أنها في كل الأحوال حتى مع مشاركته الباهتة في المؤتمر، لمعت عيناها حين تقدم ليتعرف إليها.

تبادلا حسابات الفيسبوك، وهو يعرف أنه لا توجد فرنسية أعجب بها وأعجبت به مكثت معه أكثر من شهرين، يهربن منه حرفيا.. لا أحد يتحمل طباعه، ليس كرجل، فهو نبيل ولطيف، يدللهن، يطبخ لهن، يكون المسيطر في السرير، فلا يدعها تبذل كل المجهود كما لو أنها مع أوروبي يؤمن بالمساواة حتى في اللهاث، بل لا يتحملن طباعه كرجل عربي؛ تعليقاته على ثيابهن، رغبته أن تعد له الفطور، وكأن الفطور يجب أن تعده النساء فقط، فهو يعد الغداء والعشاء بمحبة ودون تذمر، لكن الفطور هو اختبار الأنوثة لديه، والمرأة التي لا تعد الفطور لا تصلح أن تكون شريكة.

ربما لهذا السبب بقي دون زوجة، واكتفى بروتين عمله كمساعد اجتماعي في جمعية تهتم باللاجئين على الرغم أن تخصصه الجامعي كان في المجال النفسي، وساعده على مرور الوقت بعض المغامرات العاطفية هنا وهناك، وقد كان محظوظا هذا الأسبوع أن إجازته ستمتد إلى الثلاثاء القادم.

(أخيرا راحة، ليس علي أن أخفف عن تلك اللاجئة التي جاءت هاربة من الحرب، وتشعر بالرعب مع أي صوت عالي كالرعد أو خبطة الباب، أو أن أقدم مزيداً من رسائل احتجاج لذلك اللاجئ السلفي وأسرته التي تنتظر الرد منذ ثلاثة أعوام لكن يبدو أن لحيته تقف حائلاً بينه وبين موافقة فرنسا على لجوئه، كان حلمي أن أعمل مع اللاجئين والآن لا يبدو سوى كابوس مستمر).

لم يلحق بقطاره المفترض، الطابور وكأنه استمر سنيناً، وخطأه منذ البداية أنه لم يشترِ التذكرة عبر الإنترنت، كما أن جدله مع الشرطي جعل انتظاره مضاعفاً، هو لا يستطيع أن يغلق فمه، فدراسته لعلم النفس لم تفلح في أن تجعل طباعه أكثر هدوئاً، بل على الدوام بدا تخصصه مزحة كبيرة وسط أفراد عائلته المجانين.

(جميع أمراضي النفسية مثل ارتيابي وتسلطي، ورثتها عن عائلتي، فعلم الوراثة النفسية أثبت أن حالات نفسيّة كإدمان الكحول، وانفصام الشخصيّة، واضطراب ثنائيّ القطب، لها علاقة بالجينات المتوارثة، تماما كالإصابة بالسرطان أو الباركنسون، بل أشد خطراً لأن معظم الاضطرابات النفسية قابلة للتوارث بدرجة أعلى بكثير من تلك الأمراض).

يجلس في المحطة، مبعداً تفكيره عن عائلته وتاريخها المرضي، ينتظر الرحلة القادمة في المنطقة الدافئة، فدرجة الحرارة اليوم شديدة الانخفاض، وبوردو ستكون أكثر برودة من مدينته، فجأة قلبه انقبض حين تذكر محطة بوردو والساعة الكبيرة داخلها، الساعات الكبيرة تزيد شعوره بكونه مؤقت في المدن وغريب عنها.

اتصل على صديقته جوان ليخبرها بالتغيرات:

– “ألو جوان”

– “نعم.. بعد ساعتين سأنتظرك في المحطة”

– “لا يا عزيزتي، لن أصل اليوم مساءً، غدا في الصباح، لم ألحق بالقطار، إنه خطأي”

– “اوه لكني حضرت لك العشاء..”

– “لا بأس سنأكله غدا”.

بقيت الأفكار وأشباح موطنه تراوح عقله، فالسفر دائماً ما يستدعيها، فضل لو يعود إلى منزله غير البعيد عن المحطة لكن..، (في حال ذهبت للمنزل، سأرتمي على السرير وأنام ويضيع موعد الرحلة ولن أسافر)

..أخيراً موعد الرحلة الثانية، ركب القطار باحثاً عن رقم كرسيه، بالتأكيد ليس هذا، فهذه الدرجة الأولى، المعاطف والحقائب هنا تبدو شديدة الفخامة، عجل من مشيته بين العربات، ووجد الرقم مرة أخرى ولكن في الدرجة العادية، المليئة بالجميلات وأيضاً المعاطف الأنيقة لكن غير المبالغ بفخامتها، تبدو كمعطفه وشاله، سرعان ما التفتت نحوه  العيون، فطوله وملامحه تجعله يبدو وكأنه قادم من فيلم أسباني لبيدرو المودوبار

(بالطبع أوقن نهاية هذا الاندهاش والإعجاب، بمجرد أن يعرفوا أن هذه العيون السوداء والبشرة السمراء والشعر الأشعث ليس أسبانيا بل عربيا تُزاح عني الوجوه).

وجد كرسيه، جلست قبالته فتاة جميلة بالعشرينات من عمرها، وبجانبها صديقها، يحاول ألا يتواصل بحواسه معهما، على الرغم من أنه لا يبعد عنهما سوى سينتمترات قليلة، لكنها العادة الأوروبية في التجاهل، وإنكار التواصل الإنساني في الأماكن العامة، وكأن الجميع “ريبوتات” مبرمجة، وهذا ما يجعله يفتقد بلاده، وحميمية أهلها، لكنه أيضا لا يريد أن يكذب على نفسه، فتلك الحميمية خانقة، وتطفل لا يطاق، وجزء من أسباب هروبه.

(بعد أن انتهيت من دراستي الجامعية، بدأت كل الحارة تسألني عن الزواج ومتى سأتزوج، شعرت أن شيخ الجامع سينادي بالميكرفون فاروق ليش ما تزوجت؟، ففي بلدي من يتجاوز الثلاثين دون زواج، يعني أنه فاسد ويقضي رغباته بطرق ممنوعة).

هذا الاغتراب المفجع سواء كنتَ بين الفرنسيين أو بين أهل بلدك، ليس له حل سوى أن تدفن يومياتك بين العمل والنساء. غرق بالنوم حتى وصل إلى بوردو في الصباح.. وجدها تنتظره بالمحطة، أنفها أحمر من البرد، وتحمل في يدها ضمة من الورود، لم تتغير كثيراً عن المؤتمر الذي قابلها فيه قبل ستة شهور.

دخلا سيارتها، ووصلا منزلها الذي يبدو صغيرا وأنيقا؛ “صوفا” بيضاء كبيرة في الوسط وتلفاز ضخم، وطاولة سفرة من الخشب الغامق في زاوية الصالة، ومكتبة بها بعض الألعاب الذهنية، وصور عائلتها، كانت قد حضرت له الإفطار الفرنسي المعتاد غير المالح، وهذا لا يعني أنها نجحت في اختبار الأنوثة؛ فأول يوم لا يحتسب.

أخبرته أنها دعت بعض الأصدقاء للعشاء مساء اليوم، ثم حثته على دخول الغرفة الوحيدة كي يرتدي ملابس أكثر راحة، فارتدى بنطالاً رياضياً، وبلوزة دافئة بعد حمام ساخن، (ربما علي أن أغازلها، لكن الوقت مبكر وسيكون ذلك غير مهذب مني).

تناول معها “الكرواسون بالأماند” أي بزبدة اللوز، وبعض القهوة، وبدآ يتحدثان قليلا. قالت له:

– “لدينا في المصحة شاب سوري، يبدو أنه على وشك فقدان عقله، ولكنه يتمسك بآخر ما تبقى منه، ولا يتحسن، كل ما يتحدث به عن المعتقل، لقد قضى هناك أربعة أعوام بعد الثورة، يبدو الوضع جنونيا، التعذيب هناك لا يطاق”.

– “نعم سمعت عن حالات كثيرة مشابهة في فرنسا، يمتد علاجها على فترات طويلة، فهم يعانون صدمة المعتقل وما عانوه من تعذيب، ثم صدمة الغربة وترك البلاد”.

– “بالتأكيد مرت عليك حالات كثيرة، فأنت فلسطيني، والاحتلال أشد وطأة من سوريا في التعذيب وطرقه، خاصة النفسية منها”.

– “من قال لك هذا الكلام… إسرائيل في تداعيات المعتقل ليست شيئا أمام الأسد، لا أدافع عنها ولكن هذه الحقيقة، نسبة المرضي النفسيين الذين يخرجون من المعتقلات الإسرائيلية أقل بكثير من الذين يخرجون من المعتقلات السورية”.

– “لا يوجد أحد بوحشية إسرائيل في العالم، يبدو أنك لا تعرف عدوك، كما أنك يجب أن تدعم نتيجة كهذه بإحصائيات وأرقام.. فعل لديك دراسة موثقة؟”.

شعر فاروق بالامتعاض، لماذا لا تقع عواطفه سوى مع اليساريات اللاتي يعتقدن أنهن فلسطينيات أكثر منه، هذه مشكلته الكبيرة، (ربما يجب أن نقضي هذه الإجازة في ممارسة الجنس، أفضل من تبادل الآراء السياسية، سأحرص على ذلك).

خرجا يتنزهان في بوردو، ومشيا بجانب نهر “الجارون”، شعر بالانتعاش، رغم أنه لا تربطه تلك العلاقة القوية بالمدن.

شربا القهوة ورجعا البيت، وتناولا على الغداء طعام العشاء الذي أعدته بالأمس، وهو مكرونة فيتوتشيني الإيطالية، وكانت لذيذة، أخذا يغسلان الصحون، بدت جميلة وشعرها الأشقر يمتد على ظهرها، احتضنها من الخلف، شعر بخجلها وترددها، وأنها تريد قول شيء ما، لم يعطها فرصة، لفها ناحيته وقبلها، بعد أن رفعها قليلاً عن الأرض، ثم دخل بها إلى غرفتها.

…استيقظا بعد إغفاءة قصيرة، لكنه يشعر أنه لا يزال يسمع صراخها يضج في أنحاء الغرفة، نظر إليها فوجدها مبتسمة، قبّلها (أحيانا أشعر أن هذا ما تريده النساء أن يكنّ مرغوبات، ويشعرهن الشريك أنه بدأ حياته الجنسية عند هذا اللقاء وانتهى عنده، ولن يستطيع أن يكون مع أخرى غيرها، وهذا حقيقي إلى حد ما، ولكنه اكتفاء لا يستمر كثيراً عند الرجل، فيمضى مع أخريات، لكن تبقى المرأة ثابتة عند تلك اللحظة).

حضّرا معاً العشاء، أعد لها الحمص والفلافل الذي يتقن طريقة إعداده جيداً، وهي حضرت المكرونة بالباذنجان والصلصة، (أصحابها من النباتيين وهي كذلك، وأنا أعتبر اللحم في الطعام احتفالا يستحق السعادة).

– “فاروق عزيزي، هناك فلسطيني قادم مع ماتياس زميلي الفرنسي الذي حدثتك عنه، قلت لا بأس سيكون عشاء فرنسياً- فلسطينياً”.

– “…..”

وصل أصدقاؤها الأربعة؛ ماتياس وصديقه الفلسطيني، وفرنسيتان، سرعان ما بدأ النقاش حول المظاهرات الاحتجاجية الأخيرة في فرنسا، لكن لم يتوقف أحد عن الأكل وسط عادات المائدة الفرنسية التي تبدأ بمشروب قد يكون النبيذ أو الشمبانيا ترافقه مقبلات، وهنا الحمص والفلافل، بعدها الجلوس إلى طاولة السفرة لتناول الطبق الرئيسي مكرونة بالخضار، ثم الجبنة الفرنسية بأنواع مختلفة وبعدها طبق الحلو، (لا أدري كيف ينتقدون عادات العرب في الأكل، وهم يقدمون الجبنة كتحلية بعد الطبق الرئيسي، ثم تلحقها التحلية الحقيقية).

الجميع يناقش باللغة الفرنسية، يبدو صديقهم الفلسطيني متحفظاً قليلاً رغم أن فرنسيته ممتازة (أفضل من فرنسيتي التي أجدتها ليس في العام الأول أو الثاني بل بدأت تعلمها في الثالث بعد أن استسلمت من احتمالية أن أجد بلداً آخر للعيش غير فرنسا، بلد يشبه حارتنا، يسلم الناس على بعضهم في الحافلات والشارع، يتشاجرون، يتبادلون حواسهم، وحين لم أجد، قررت تعلم الفرنسية، وأتقنتها في عام واحد…)

سأله الضيف الفلسطيني:

_ “من أي مدينة أنت في فلسطين؟”.

بدأ فاروق يحدثه عن مدينته، والرجل يستمع إليه دون أن تبدو على ملامحه أية انفعالات، ثم صمت قليلاً، وقال ” مش انت ابن العميل سالم؟.. بشبه عليك من أول السهرة”. سأله باللغة العربية، ما جعل كل الغرفة تنتبه.

علقت قطعة جبنة زرقاء في حلق فاروق.. (لاحقيني على فرنسا يا عرصات،، القذر، يبدو عارفني من الأول، وبنتظر فرصة ليهجم، مش حسمح له يخوفني).

رد عيه فاروق بذات اللكنة الفلسطينية “أبوي مش عميل، أبوي انظلم”.

– ” اه كلهم بقولوا هيك”

هنا بدأت الدماء تصعد إلى رأس فاروق، وشعر أن وجهه يحمر، تدخلت جوان تسأل بالفرنسية “ماذا هناك؟”، وببساطة وثقة بائعي الوطنية في بلده الذين هرب منهم، أجابها الضيف الفلسطيني:

– “والد فاروق عميل معروف بالحارة، وقتله الملثمون بعد الانتفاضة الأولى بسنوات قليلة”.

تبدو الحيرة على جوان ثم سألت: “ماذا تقصد بعميل؟”

– ” يعني أبوه متعاون مع جيش الاحتلال الإسرائيلي”

الكل نظر إلى فاروق الذي كان يحدق في الطاولة، ولا يبدو منه سوى كومة الشعر الأشعث فوق رأسه وعظام وجنتيه اللتين برزتا من شدة الغضب، بقي الصمت يحلق بالغرفة قبل أن يرد فاروق” لذلك نترك بلادنا التي نحب، لأن مثل صديقكم فيها، مقتنع أنه يعرف والدي أكثر مني لمجرد أن أبوه لم يتهم بالعمالة، وكأن الخيانة تورث، أو الوطنية كذلك، نبعد آلاف الأميال والأيام عن مكان ووقت تلك الحادثة، ويلاحقني بها كأنها ذنب عابر للقارات يجب أن أحمله على عنقي”.

ابتسم الفلسطيني ابتسامة ماكرة، وهو يسكب لنفسه وللآنسات من زجاجة النبيذ الأحمر، وكأنه يسخر مسبقا من كل ما سيقوله فاروق.

تابع فاروق وبعض السيطرة عادت إليه:

– ” والدي يا سادة كان يعمل بواب مدرسة وكالة لغوث وتشغيل اللاجئين في الانتفاضة الأولى، حين قتلته مجموعة من الشباب، بحجة أنه يتعاون مع الاحتلال وينقل أخبار المناضلين، ووالدي كل ما كان يفعله أنه يسهر في غرفته الصغيرة الملحقة بالمدرسة في الليل لحمايتها، وأحيانا يمر عليه الجنود، ويسألوه أسئلة فلا يرد عليهم، لكن هناك من أعمى نور الوطنية الباهر عينيه، فلم يعد يرى سوى نفسه وأقرانه من يستحقون الوطن والثقة، كبرنا أنا وإخوتي في الذل والسمعة السيئة بسبب أشخاص مثل صديقكم هذا، أشخاص يعتقدون أنهم يعرفون كثيرا”.

(ولا اعتذار يعيد إليك كرامتك، حتى لو كان جرافيتي على جدران الحارة؛ نعتذر عن قتل سالم أبو فاروق، فقد تبين أنه ليس جاسوساً، الفضيحة في مدينتنا تصاحبك طوال العمر.. إن الرصاصات التي قتلت والدي، قتلتنا جميعا قبله).

كان يضغط كفيه بشدة تحت الطاولة، فلا يريد أن يهتز بعد أن ألقى الضيف حجرا على عش دبابير ذاكرته وقلبه، ثم تابع بلكنته الفلسطينية:

_” يا أخ.. صحيح لم أعرف اسمك..”

_”محمود”

_”آه يا محمود، لا يوجد من قال لك إننا أيضا عائلة فاسدة، عاهرة، كبرنا في الحضيض ومن دون أخلاق…”.

أراد أن يسأله كيف تعرف إليه وإلى ماضيه، ولماذا الآن وفي هذا المكان؟ ولكنه لم يرد أن يجعل فضوله وسؤاله يبدو وكأنه تسجيل انتصار له.

بدأ وجه محمود يحتقن، وبدا مهزوزاً لأول مرة منذ السهرة، كأن هناك ما مر في ذهنه عكر ثقته بنفسه، وقف قائلاً:

_ “أعتذر للجميع.. يبدو أنني أثقلت بالشراب، يجب أن أغادر، أرجوك يا ماتياس تستطيع أن تتابع السهرة”.

شعر فاروق بقليل من الانتصار الباهت، الانتصار المصحوب بغصة بعيدة، أخذته إلى تلك الأيام التي ارتدت فيها والدته النقاب، وغطت وجهها كي لا يراها أحد ويناديها بزوجة سالم العميل، بعد أن كان الجميع يحسدهم لأن والده يعمل موظفاً في الوكالة ويقبض راتبه بالدولار.

كان مفترضاً أن تعيش العائلة في حضيض المجتمع، وتدفع إلى الأبد ضريبة كون رب الأسرة عميل مع الاحتلال الإسرائيلي، فلا أحد يسمح بأن تتوظف لديه في حال والدك كان جاسوساً، ولو حصل ستأخذ أقل الأجور، كما تتحول النظرة لأخواتك البنات إلى الرخص، وإذا تقدم شاب لخطبة واحدة منهن فإما أن تكون عائلته ذات فضيحة، وغالباً عمالة أيضاً أو هناك عيب في العريس، ولا زيارات في الأعياد، بعد أن كان البيت ممتلئ بهم حين كان والده حياً، فيتذكر كيف كان يتنقل بينهم بصواني الشاي والقهوة والكعك، فخورا بوالده قبل أن يتحطم كل ذلك، ويصبح ضحية للضرب كل يوم في طريق المدرسة إلى أن أنقذته والدته وأنقذت شقيقاته، وغادروا المدينة إلى أخرى بعيدة وعاشوا كغرباء، مرعوبين بأن يعرف أحد قصتهم.

  _”فاروق.. فاروق”

تنادي جوان عليه.. قاطعة ذكرياته.. ينظر إليها لتضيف:

   _”الماضي هو الماضي، أنت لا تتحمل وزر والدك، ويبدو أن صديقنا الفلسطيني لم يتعلم شيئا من حياته في أوروبا”.

(خرة عليك وعلى أوروبا، أبويا مش عميل يا بنت الكلب.. جاية تشفقي علي انت وأصحابك اليساريين، يا أفشل من حكم العالم، ما أنت كمان بتحسبي حالك الله بطريقتك). هذا ما أراد أن يقوله لها، لكنه تحكم بأعصابه كما وعد نفسه.

وقال لها: “أنت لا تفهمين.. لا أحد منكم يفعل”

دخل الغرفة جمع بعض أغراضه في الحقيبة الصغيرة وارتدى المعطف وغادر، وجوان تقف مندهشة وسط أصدقائها الذين ينظرون إليه باستجداء كي يبقى، وكأنهم يريدون القول له “عميل لإسرائيل، ليس شيء بذلك السوء”..

غادر إلى محطة القطارات مشياً، يلفح الهواء البارد وجهه المحترق، فكر أن يحدث والدته، يرن على هاتفها مباشرة، وليس عبر “الواتس أب”، يشعر أنه أكثر جدية إذا كلمها من هاتفه، فهو يريد أن يعتذر لها عن كل شيء خاصة أنه تركها وسافر، (لكن الخط الفرنسي الفاتورة لا يسمح بإجراء مكالمات دولية)، ثم سرعان ما استبعد الفكرة، فلا يحب أن يبالغ بالدراما، كما أنه في كل الأحوال لن يطمئن عليها، لأنه لا يعرف مقدار ما تكذب عليه كي تطمئنه، وهكذا كانت تفعل طوال سنين صنعت فيها الفلافل في الليل، لتبيعه في النهار حتى خرجوا من الحارة الظالم أهلها، فلم يقعوا في الانحراف ومزيداً من النبذ.

اقترب من رصيف المحطة، بعد أن حجز تذكرته إلى مدينته، وبالتأكيد بضعف سعرها لأنها آنية. أخذ يراقب القطار الذي يقترب أكثر، جلس على حافة الرصيف يريح ساقيه، الريح تبعث بشعره مع اقتراب القطار.

يتخيل مرضى الفصام الذين يعانون من هلوسات ويأخذون أدوية قوية، شعر أرواحهم تتلبسه في هذه اللحظة، دقيقة واحدة استغرقته كي يتقمصهم، ويلقي نفسه على القضبان، هي لحظة الصمت وموت الوعي، ولا شي بعدها، فحين يقدم أحدهم على الانتحار يكون ما يراه أمامه مكانا جميلا يخطو إليه، فيلقي بنفسه من النافذة، أو يتخيل هذه المساحة بين القطار القادم والقضبان، ما هي إلا حديقة جميلة يريد أن يتمدد على أرضها.. أو كرسي جميل أمامه بيانو يتقن العزف عليه..

هي لحظة واحدة ثم لا شي.. كي يتمتع بظلال أشجار الحديقة…

شده أحدهم من معطفه من الخلف قائلا ”  Attention monsieur “

  – لا تقلق أنا حذر، ارتاح فقط عقب مباراة كرة قدم قاسية!.

الكاتب: أسماء الغول

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع