“البوكر”… أو الساعة الرملية والمكوك

من دورة عام ٢٠١٧

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

أليس غريباً، أن يغيب المصريون عن حصد الجائزة، لمدة 11 سنة؟ يعني هل عقمت مصر عن إنجاب روائي يكتب نصاً يعجب السادة المحكمين فيظفر بالجائزة؟ يعني فعلاً هل يرى القائمون على البوكر أن "عزازيل" يوسف زيدان هي آخر عمل مصري استحق التتويج؟

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

17/05/2019

تصوير: اسماء الغول

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

أحمد مجدي همام

لم تكن أولى المهازل، التسريبة البريئة التي نفثها الصحافي اللبناني عبده وازن، معلناً قبل الجميع، فوز الروائية اللبنانية هدى بركات بجائزة البوكر، بعد أن استدعت لجنة التحكيم “بريد الليل” من خارج الروايات المتنافسة، وتوّجتها بالجائزة الأكثر شهرة وجدلاً..

فالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) خاضت عبر اثنتي عشرة محطة في مطبات أكبر من مجرد تسريبة، استقالات مثلاً (رياض الريس، وشيرين أبو النجا)، أو شبهات وتربيطات كالصفقة التي فضحتها “الغاوون” البيروتية، أو حتى شبهات فنية، ويكفي أن نذكر أن عالم اقتصاد شارك ضمن لجان التحكيم، وأن “الفيل الأزرق” لأحمد مراد وصلت للقائمة القصيرة، وهذا الأداء المديوكري مرده إلى مستوى لجان التحكيم المتعاقبة معرفياً وثقافياً ومدى اطلاعهم على الفن الروائي وتذوقهم له وتمكنهم منه، هذا بخلاف أن عبده وازن نفسه كان نجماً لواحدة من دورات البوكر، إذ بادر مرة بسلخ الجائزة، فبادروا هم بإشراكه ضمن لجان التحكيم.

في إحدى الدورات، وقبل إعلان القائمة الطويلة بأسبوع، اتصلت بأحد الكتّاب المصريين وهنّأته بوصول روايته إلى قوائم البوكر. كيف عرفت؟ اسأل القائمين على الجائزة! فقد سرّب أحدهم القائمة إلى روائي صديق، وكان هذا الصديق سعيداً بحضور روايته ضمن القائمة الطويلة ولم يتمالك نفسه فأسرّ لبعض أصدقائه الذين أسرّوا لبعض أصدقائهم ودارت القائمة حتى وصلتني.

الشخص المسئول عن التسريب خدم ويخدم في إدارة الجائزة منذ عشر سنوات تقريباً!!

فلوبير هو بابا

إلا أن أخطر ما تقوم به البوكر، هو ما أشار له الروائي المصري حمدي أبو جُليّل، في منشور على موقع التواصل الاجتماعي فايس بوك، عقب تتويج رواية “موت صغير” للسعودي محمد حسن علوان بالجائزة:

رواية “موت صغير” الفائزة بجائزة بوكر العربية للسعودي محمد حسن علوان، رواية سلفية وهابية تتمسح بأساطير الصوفية، وبغض النظر عن الخطأ التاريخي البشع الذي لا أدري كيف مر على لجنة التحكيم وفيها الروائية المصرية المتميزة سحر الموجي وهو يخلط بين الظاهر بيبرس مؤسس دولة المماليك والسلطان بيبرس الانكشاري وبينهما قرابة المائة سنة”.

وأظن أن أبا جليّل قصد بالوهابية، الردة الفنية، أو الجمود الفني، الثبات المذهبي الكلاسيكي، وهو نقيض الفن، نقيض جوهر الفن، ونقيض جوهر الرواية بالتحديد التي قال عنها الروسي ميخائيل باختين: “الجنس الأدبي الوحيد الذي يرفض الاكتمال”، وهي كذلك بالفعل، أو هي كذلك في أحد أوجهها على الأقل، وهو الوجه المهمَل، الوجه الذي لا تعيره البوكر اهتماماً، وهي في ذلك على النقيض من جوائز أخرى، مثل ساويرس المصرية، والتي يناهز عمرها عمر البوكر تقريباً، إلا أنها تولي اهتماماً كبيراً للتجريب والمقاربات الفنية القائمة على خلخلة الثابت، لا يتجلى ذلك في التوجه الفني المتطور الذي تتبناه الجائزة، بل ينعكس أيضاً في تخصيص فرع كامل للأدباء دون الأربعين، شطحات الفنان الشاب.

وهي أيضاً في ذلك على العكس من جائزة “الملتقى” للقصة القصيرة الممنوحة من الجامعة الأمريكية في الكويت، وهي جائزة تولي التجريب عناية كبيرة.

قرأت روايات عبارة عن قصاصات ووثائق، أو محاضرة، أو محضر شرطة، أو حتى روشتة طبيب. قرأت روايات تنسلخ من الواقع وتلجأ للفانتازيا والدستوبيا والميتاليتراتورا والكوميكس أو الرواية المصوّرة، قرأت روايات البيكارسكو ومدرسة “التروّي” وجيل البِيت، قرأنا الروايات الأوربية التي تعلي من شأن الرافد المعرفي على حساب الدراما و”الحدوتة” الباهتين، وقرأنا روايات تكسر خط الزمن وتعكسه وتتحكم في إيقاعه بتقنيات حداثية مبهرة… رأيت في الرواية تجارب لا حصر لها، بينما تصر البوكر، منذ مراحلها المبكرة، أن تختار بعناية كل ما هو كلاسيكي، كلاسيكي جيد أو كلاسيكي محدود أو كلاسيكي لا يستحق النشر. لا تحاول أن تغامر، لا تخلخل ثوابتنا، فلوبير هو بابا وبدونه أنت لقيط… لا تفتح عيون الأولاد على شططك وشطحاتك، بالكاد أقنعناهم أن الرواية هي مكان لبث شكاوى الأقليات والمطلقات، وأن الرواية إذا لم تعالج هماً مجتمعياً فهي حرام وملهاة ومضيعة للوقت، وإذا فكرنا أن نجدد سنختار رواية صوفية. أي والله هكذا يسمّونها… رواية صوفية.

كتب الناقد يسري عبد الله في مقال له بصحيفة “الأهرام” المصرية بعنوان “ماذا يتبقى من البوكر”: “..تتمترس حول مفاهيم كلاسيكية تتصل بفن الرواية وآفاق التلقي لها، حتى رأيْنا في أعوام سابقة روايات تتسم بالخفة تغزو قوائمها الطويلة والقصيرة (…) أما التحول الأخطر فيتمثل فيما يمكن تسميته تنميط الذائقة لمصلحة كتابة كلاسيكية ومستقرة، بينما قطعت الرواية أشواطاً هائلة في مسار تحولاتها الفنية اللانهائية في العشرين عاماً الأخيرة (…) الأهم حقاً ضرورة وعي الجائزة ذاتها برهانها على التجديد، والمغامرة الجمالية، والابتعاد عن النمطي والسائد والمألوف، حيث تصبح الرواية عنواناً على الجمال المبتكر، ويصبح نقدها علامة على النزاهة والمعرفة الناضجة بالعالم والواقع والأشياء.”

وهذا بالضبط ما تعمل البوكر جاهدة على ألا تفعله، وتهرول هرولة في الجهة المخالفة، نحو التراث السردي المستقر، لا نبالغ لو قلنا إنها رواية “محفوظية” تلك التي ترحب بها البوكر، وإن كانت أقل جودة وأخف وأسرع إيقاعاً.. وعبر اثنتي عشرة دورة، ربّت البوكر جيلاً من القراء، الذين باتوا يؤمنون اليوم بأن هذه هي الرواية الحقة وما دون ذلك أباطيل وضلالات وهراءات فنية… عن هذا القارئ  كتب الروائي السوري خليل النعيمي في “القدس العربي” اللندنية في مقال عنونه بـ “جوائز الكتابة العربية الواحدة”: “أدب فُرِّغ من جوهره، بعد أن نزعوا منه «شوكه المحرِّض»، فغدا مسالماً، خالياً من كل ما يمكن أن يزعج الاطمئنان، سهلاً غير ممتع، ولا مبالياً بمصائر التاريخ في هذه الفترة الحاسمة من الوجود العربي. لا موقف نقديّ فيه، ولا تصوّر مخالف للمألوف. لا يضرّ أحداً، ولا يرضي أحداً، أيضاً: كتابة باهتة، بائتة مثل وجبة لم يأكلها الآخرون، بدلاً من أن يكون محرضاً للعقل والعاطفة، باعتبار أن الأدب ضمير الكون. وفي هذه النقطة بالذات تكمن خطورته على القُرّاء، خاصة على أولئك الذين لم تتحَصّن ذائقة القراءة عندهم، بعد. فهُم الفرائس الأكثر عدداً، والأسهل وقوعاً في فخاخ كتب الجوائز، خصوصاً، وقد أُقنِعوا بواسطة الإعلام المزيِّف، بأنْ ليس في الإمكان أبدعَ ممّا كان”.

عفواً سيدي… ما هي جنسيتك؟

ثم تأتي الحسابات غير الفنية، المتمثلة في الجنسية والعمر والجنس، فالمغاربة يشتكون التجاهل، خصوصاً كتّاب الجزائر والمغرب التي حصد روائيوها الجائزة ووصلوا لقوائمها، إلا أن العينة المنتقاة لا تمثل المشهد الروائي في المغرب بشكل حقيقي، والجزائري سمير قسيمي اعتاد على توجيه النقد للجائزة، على الرغم من سابق وصول روايته “يوم رائع للموت” إلى القائمة الطويلة، وهي للعجب، رواية طليعية أفانغاردية محكمة وممتعة، وهي بالمثل من فلتات الجائزة التي سبق لها إحقاقاً للحق أن نوّهت بروايات جيدة وغير تقليدية مثل “رجوع الشيخ” للمصري محمد عبد النبي و “عطارد” للمصري محمد ربيع… ولكن!

أليس غريباً، أن يغيب المصريون عن حصد الجائزة، لمدة 11 سنة؟ يعني هل عقمت مصر عن إنجاب روائي يكتب نصاً يعجب السادة المحكمين فيظفر بالجائزة؟ يعني فعلاً هل يرى القائمون على البوكر أن “عزازيل” يوسف زيدان هي آخر عمل مصري استحق التتويج؟ يعني ألا ترى الجائزة من مصر إلا “الفيل الأزرق”، و”تويا”؟ ألم يقرأ هؤلاء لنائل الطوخي “نساء الكرنتينا” ولعمرو عاشور “رب الحكايات” ولأحمد إبراهيم الشريف “موسم الكبك”؟ لماذا لم يروا هذه الأسماء ولم يلتفتوا لها ولم يستدعِ المحكمون واحداً منها؟ هل لأنهم مصريون؟ أم لأنهم شباب وبلا شهرة أو مناصب؟ هل كتبوا روايات سيئة ولا تستحق التنويه؟

لخّص الناقد المصري يسري عبد الله النوايا المبيّتة تجاه الرواية المصرية، والمساعي الحثيثة العمدية لتغييبها عن المشهد وإقصائها إلى مناطق الظل:

“لكن الأدهى حقاً كان متمثلاً في سيطرة جيتوهات بعينها على مقدرات الجائزة من جهة، ومحاولة تعزيز سطوة مراكز ثقافية على حساب أخرى، من جهة ثانية. وقد عبر عدد من الروائيين المصريين عن دهشتهم من هذا المعنى المهيمن الآن على أجواء البوكر وسياقاتها، وحينما أتأمل تلك التصورات التي طرحها روائيون فاعلون الآن في المشهد السردي المصري والعربي عن إقصاء الإبداع المصري، فإنني أعود بالأمر جميعه إلى القاعدة المركزية الحاكمة لأي جائزة وأعني أن النص الأدبي يجب أن يكون هو السيد والحكم والفيصل. وهذا ما غاب عن البوكر في أحيان كثيرة، وبدت التقسيمات الجغرافية والاعتبارات السياسية مؤثرة في سير الجائزة (..) واليوم يثير روائيون مصريون القضية ذاتها، عن غياب المبدعين المصريين، وفي الحالين، ومثل تصورات عديدة يجب النظر إليها بعمق أشد وموضوعية أكثر دقة، فإننا ونحن نرفض التصورات التراتبية حول أن فضاء جغرافياً بعينه يستأثر بالإنجاز الجمالي والمعرفي في أي سياق إبداعي، ونؤكد أن التلاقح الفكري والانفتاح على هويات محلية متعددة والجدل مع الثقافة الأم علامات في سبيل التعبيد لثقافة عربية حقيقية تعرف التنوع الخلاق، ونحن وإذ نعي ذلك كله فإننا في سياق رصدنا وتحليلنا المستمر لتحولات الرواية العربية فإن الرواية المصرية تحيا بالفعل لحظتها الإبداعية الخاصة، من حيث تنوع صيغ السرد وأساليبه وتيماته وجدله مع الواقع، اتصالاً وانفصالاً، لكن يبدو أن ثمة فوبيا مجانية لدى بعض المثقفين من الروح المصرية في الكتابة، ومحاولة إزاحة المركز المصري فى إنتاج المعرفة لصالح مراكز بديلة، ومحاولة خندقة الثقافة الوطنية بحيويتها المتجددة، إبداعاً وفكراً، تلك الحيوية التي أعاينها كل صباح عبر عشرات النصوص التي تكتب وتطبع وتنشر يوميا.”

بوضوح، خانت الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) كل اشتراطات الجوائز الجادة الحقيقية الفنية، ففرضت حكّاماً كثر يمكن التشكيك في مدى لياقتهم لتولي مسألة التحكيم روائياً، فمرة شاعر ومرة صحافي ومرة اقتصادي وكل مرة مستشرق لزوم الوجاهة والعنطزة الثقافية، مستشرق يمكن التشكيك بسهولة في مدى اطلاعه على أحدث وآخر ما أنتجته الرواية العربية، في الشقوق والخنادق والجحور، ويمكن التشكيك بسهولة في استيعابه لحوار بدارجة عربية. وخانت الفن لما اختارت أن تقنعنا بأن الأوتوموبيل موديل 1935 هو أكثر وسائل المواصلات تطوراً ونحن في عصر مركبات الطاقة المتجددة والسيارات الطائرة والسيارات البرمائية بل والمكوكات الأكثر تطوراً، والتي -أرجّح- لا تستطيع البوكر ولجانها قيادتها أو حتى التفريق بينها وبين الساعة الرملية.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع