“مساء الخير يا دار.”
يُمكنُ لقارئ رواية «قصر المطر» للروائي السوري ممدوح عزّام، والتي أنهى كتابتها صيف ١٩٩٣ كما ذيّل صفحتها الأخيرة، إذا أراد أن يتوقّف ويتأمّل، أن يجد مفاصل أكثر أهمية، من ذلك المفصل الذي قاد أبناء محمد الفضل، للعودة إلى الديار التي هُجّروا منها عنوةً، وبفعلِ فرطِ القوّة لدى كنج الحمدان، الزعيم الجديد لقريتهم، المنارة، وآخر ورثة المشيخة الحمدانية في حينها.
كان قد مضى على هجرتهم القسرية قرابةَ السنتين. وسواء كان آل الفضل قد سكنوا بعد المنارة في جادة الشانزيليزيه الباريسية، أو في أي مكانٍ آخر، فإنّ ذلك لن يغير شيئًا في حقيقة أنهم مُبعدون عن بيوتِهم عنوةً، وأن غيابهم طال لسنتين، تكفيان حتمًا لأن يتوقّف أحفاد قاسم الفضل عند دار جدّهم ووالدهم، التي بنوها حجرًا حجرًا، ونحتوا صخرَها بسواعدهم المفتولة، وليتخيّل الرّاوي، أنهم ولا بدّ صرخوا، وبصوتٍ جماعي كما لو في صلاة، حين التقوا مخازنَ ذكرياتهم تلك: مساء الخير يا دار…
لم يكُن أحدٌ يتخيّلُ آنذاك، لا في مطالع القرن العشرين، حيثُ أصل حكاية قصر المطر، ولا في نهاياته، حيث كُتبت هذه الحكاية، أنّ تلك الجملة البسيطة، الهشّة والبليغة، ستكونُ صوتًا لمئات الآلاف، الذين سيودّون لاحقاً لو يقولوا لبيوتهم فقط: مساء الخير يا دار…
ولذا فقد كانت همسة الأسى تلك، بكلّ ما تحمله من شعورٍ بالخسران، مفتاحًا مناسبًا بالنسبة لي للكتابة عن الرواية.
على أنّ «قصر المطر» (أطلس للنشر، ط٣، ٢٠١٢) لم تكن روايةَ المُهجّرينَ فحسب، فقد كانوا جزءًا من تكوينها فقط. إذ لو قرأنا بتمعّنٍ لوجدنا حضورًا بهيًا باذخًا لكلّ الكائنات والأشياء والأفكار المصطرعة التي تشكّلُ تكوينَ الرواية. ولو كان بإمكانِ الحجارة والصخور، والشجر والماء والنار والنجوم والغيم، بل والحيوانات مثل الذئاب والخيول والكلاب، لو كان بإمكان كلّ هذه الكائنات القراءة، لوجدَتْ شيئًا من سيرتِها، مكتوبًا بنزاهة لافتة خلال هذه الحكاية، التي هي أقرب إلى الملحمة.
لن يدّعي أحدٌ ولا شيءٌ أنّ هذه روايتَهُ لوحده. إنها روايةُ الجميع. ولربّما أرادت الرّواية أن تجعلَ من هذا خلاصة مقولتها في الحياة: لا يُمكنُ الاستئثارُ بأيّ شيء. حتى بالحصّةِ من الحكاية!
بل إنّ كلّ منتصرٍ، سيجدُ أنّ «قصر المطر» جاءت لتحاولَ ردّ شيء من الاعتبار للخاسرين. كلّ الخاسرين. كأنما أرادت أن تُنصفَ من لم تُنصفهم الحياة، ولا سياقُ الحكاية: فَرْحة مثلًا، الفرس التي عرفنا أصلها وفصلها وسيرةَ آلها، قبل أن تجيءَ عدوًا بصاحبِها محمولًا مصابًا إلى الخرائب الحجرية، ثم تسقط ميّتة. ولبقيّة الموتى، والمهزومين!
والرواية بالطبع، تحاولُ ردّ الاعتبار لثنيّة… سيّدة آل الفضل الأسطورية. والتي لم يجد صاحب “أرض الكلام” ما يُمكنُ أن يُكافئها به آخرَ عمرِها، إلّا أن يجمعها أخيرًا بشيء من تلك الرائحة المنصرمة، التي تجعلُ لوجودها، ولانتظارها بين الصخور كلّ تلك السنوات معنىً وقيمة. ثنيّة كانت أعظم الخاسرين، وتستحقّ أن تكافأ بمثل هذا اللقاء، وإن تأخّرَ لزمانٍ آخر.
وإذا كان صراع الخير والشرّ هو محرّك الأحداث، فإنّ فكرة التقمّص، التي يؤمن بها سكّان رواية «قصر المطر»، استُثمِرت بذكاء بالغٍ في فتح بابٍ لمحاكمة الماضي، لا لتذكّره فحسب. فحسّان، الشاب الذي “أيقظته الطلقات” تذكّر أنّهُ كان في زمانٍ آخر، كامل ابن محمد الفضل، أكبر إخوته، وصاحب الصراع المرير مع آل الحمدان وقلعة تسلّطهم المعادية.
وكان حسّان خلال كلّ مراحل تذكّره، يحاولُ التفكّرَ في سلوكه وسلوك من عرفهم في حياته السابقة تلك، حياة كامل الفضل. ويحاولُ أن يجد إجاباتٍ على أسئلة سحيقةٍ، لم يكن يسألها لنفسه قبلًا، وصارت تشكّلُ عبئاً على حياته الجديدة، مخلفةً شعورًا مؤلمًا بالندم.
لكنّ الزمنَ الفاصلَ ما بين الأحداث وتذكّرِها، لا يكتفي بتعزيز مشاعر الندم على “ما كان يُمكنُ أن يكونَ ولم يكُن”. بل إنّهُ بالتوازي، يُعيدُ الاعتبارَ لمنظومةٍ قيميّةٍ سادت مجتمع السويداء وريفها في ذلك الزمن، تذكّرها حسّان وسط ازدحام الأحداث والأصوات التي غزت رأسه. منظومة قيميّة صارت لاحقًا وبشكلٍ منهجيّ، وعلى مدار عقود محلّ تشويش وتشويهٍ وشكّ.
ولربما كان من بين أشدّ ما يلفتُ النظر في عمق الرواية هو ذلك الالتصاق والتلاحم بين المجتمع الزراعيّ وفكرة الحريّة، فثنيّة الفضل، مثلًا، كانت تقودُ إخوتَها الرجال، في مجتمع جاءت فرنسا لتحرره من “التخلف والهمجية”، من دون بذل أدنى مجهود في قراءة ما توصلت إليه الحركة النسوية في العالم.
وحاكمُ السويداء، كاربييه، أرادَ إغلاق جميع المضافات، لأنها أوكار أذىً وضغينة حسب زعمه. بل وأمر باعتقال كل ضيوف المدينة، وإجبارهم على المبيت في الفندق الذي بناه. وما كانت تلك المضافات سوى أوكار تمرّدٍ على المُحتلّ، ومأوىً لكلّ محتاج. ولم تشِ الرواية بأنّ أحداً في ذلك الوقت كان يتهكّمُ على ما يدورُ في تلك المجالس بحجّة أنها “سوالف مضافات” كما هو الحال بعد ذلك بعقود، سوى الجنرال الفرنسيّ الأبيض اللامع كاربييه!
ومن نافل القول، إنّ أوروبا ما زالت حتى اللحظة، تُحبّذُ النظرة ذاتها تجاهنا، ماضيًا وحاضرًا. وما تعبيرُ الاندماجِ الذي سادَ بعد قرنٍ من زمن الرواية سوى دلالة على ذلك العلوّ الذي تفضّلُ القارّة العجوز أن تخاطب عبره سكان القارات الأخرى، والتعاليم التي تعتقدُ بانفرادِ امتلاكِها، ووجوبِ نقلها لتلك الكائنات الدقيقة التي تسيرُ على الأرض في ذلك العالم الشاحبِ الذي تراهُ صغيرًا من عليائها. مهما حاولت ادّعاء المساواة، والتحليق على ارتفاعاتٍ منخفضة.
إنها ارتفاعات على أي حال!
هذا التعالي على “الفلاحين”، الذين هم أبطال رواية «قصر المطر»، لا يقتصر على أيّ محتلّ يجيءُ بتعاليم “أمه” إلينا لينقذنا مما نحن فيه من جهل، بل إن الأخير يحتاجُ دائمًا للمساعد المحليّ، ولا بدّ أن يجد شرائح واسعة تعينُهُ في التشويه المُتعمّد والتهميش والعزل الكلّيين، مما يُسهّلُ إفراغَ المجتمع الزراعيّ وتقاليده من المحتوى القِيَميّ الراسخ والمتوارث. ولسوفَ يسهلُ على المُحتلّ إذّاكَ، أن يجدَ “كنجًا” ما تلتقي رغبتُهُ في السلطة، مع القوّة التي تحصّنهُ بها العمالة، فيصير بسطُ النّفوذِ تحصيل حاصل. حتى لو لم يكُن ذلك الكنج، هو كنج الحمدان.
يبقى أن اللمعة الأذكى، في فكرة التقمّصِ، هي تمامًا تلك التي تحملُ إمكانيّة الالتقاء بالماضي، لا لتذكّره مجدداً، إنما لعدالة أن يكون للخاسرين فرصة تجريب شعور الانتصار. ذلك هو المبررُ الوحيد، ربما، الذي يجعلُ حسّان يكتفي بتذكير كنج الحمدان بنفسه بعد عشرين عامًا، في عليائه المعادية، وسط رجاله وخوليّه وعسسه، ويكتفي بالشدّ على يديه عند مصافحته.
كأنما أرادَ أن يضفي على حياة عدوّهُ القديم هالة شبحية تحملُ لهُ الموت في كلّ لحظة، ولا تقتله. وإلّا فما الحكمةُ في حرمانِ شخصٍ من الثأرِ لكرامته؟! ما الحِكمةُ في أن يظلّ الخاسرُ خاسرًا في كلّ جيل؟!
ما فعلَهُ حسّان يكادُ يكون خلاصة حكمة إنسان السويداء في البقاء، خلاصة تجربته وتاريخه: الانتصار الوحيد على الشرّ، يكمُنُ في منح الزمن تلك الإمكانية على المجيء بخيرٍ يضمنُ استمرارية المعركة الأزلية، ويبقيها غير محسومةٍ ومنتهية. كما ويجعلُ الاعترافَ بلا نهائيّة الشرّ أمرًا لا مناص منه أيضًا. وقد لخّصها حسّان بتركِهِ غريمه وقاتله حيًا، ويحسّ بالموتِ في كلّ لحظة، مثلما لخّصها أهلُ الجبل في مثلهم الشعبيّ حين قالوا: بيّنْ حقّكْ وفوته!