أكثر سؤال يتردد في رأسي بعد مرور حوالي أسبوعين على انكشاف حادثة قتل الفتاة إسراء غريب، كيف صدفت أن جميع الناس الذين مرت عليهم إسراء خلال كل مراحل مأساتها سواء من الناس العاديين أو الأقارب أو من تواصلوا معها مباشرة كالطواقم الطبية أو بشكل غير مباشر كالمراجعين العاديين والمقيمين في المستشفى والجيران… كيف لم يقم أي شخص منهم بالتدخل ولو بالسؤال عما يحدث؟
هذا السؤال الذي كان كفيلاً بإنقاذها! سؤال الضمير والمسؤولية الاجتماعية، العادي والطبيعي، سؤال الإنسانية والدين والأخلاق، الذي يحتم علينا أن نقول للمتألم ماذا بك؟ أن نسأله: هل أستطيع مساعدتك؟ كأي مارٍ عابر غريب يملك ضميراً ما، أين ضمير العامة من قصة إسراء غريب؟ نعم هناك ضمير استيقظ على وسائل التواصل الاجتماعي؟ ولكنه جاء بعد تفاصيل جريمة اهتز لها العالم.
بيد أنني أتحدث هنا عن الضمير الجمعي المباشر الذي أحاط بإسراء وقتها… أين كان؟ ما الذي وضعه في إجازة؟ وكيف اتفق الجميع على الصمت؟ والآن يتسابقون لتبرير موقفهم بعدما سُلطت أضواء المحاسبة عليهم!
كيف هُزمت ضمائرنا يا سادة؟ هل هُزمت كما هُزم بطل “عشرة أمتار فقط” في قصة غسان كنفاني، حين اقتنع أنه لن يغير العالم، فترك ذاك الطفل لمصيره! وكأن هزيمة الأخلاق تأتي من هزيمة أكبر منها!
وربما أنا أبالغ، والأمر يتعلق بالنساء فقط، فحين يصل إليهن الحدث، لا يتدخل أحد، بل يصبح شأناً شخصياً، مُلكاً للأبوية، وللعائلة، وكأن هناك زر ما في ضمير الضمير العربي والفلسطيني إذا ما كانت الضحية امرأة يتم تشغليه، فتسكت الغالبية؛ العائلة والشرطة والسلطات.
فجأة يشتغل الورع لديهم، ويؤمنون جميعاً بمن فيهم النساء “أن الحي أبقى من الميت”، لذلك يصبح السكوت هو الموقف الأكثر شرفاً من التدخل والكلام، وفي ذات الوقت ينقذون رجلاً ما، فلا يريد أحد أن يقف بجانب هذه المخطئة والمذنبة، فالنساء مُتهمات إلى أن يثبت العكس.
ولو نظرنا إلى مكونات الشارع الفلسطيني، وهنا أنا أوحده في جميع المناطق بتعمد، سنجد أن رؤيته للمرأة تتعلق بشكل أساسي بالخطاب الديني الذي يتفوه به رجل عادي له وظيفة الخطيب أو رجل الدين، وننسى أن هذا الرجل يحمل كثيراً من التكوين الثقافي الذكوري للمجتمع، وأن هذا المنبر يجعل لكلامه سحر الصواب والقِوامة على الناس، ونادراً ما يفكر أحد من الرعية أو المتلقيين أن هذا الشيخ يبتعد في خطابه عن جوهر الدين، وسماحته، ووصاياه على النساء، وكثير من أمور الفقه المتعلقة بقذف المحصنات، وشروط حكم الزنا، وحادثة الإفك، حتى إن هذا الخطيب يخالف أبسط القواعد التي تتلمذ عليها كقاعدة “الحاكمية لله”، فكل ما يقوله يختلط بثقافته، وليس من النص الإلهي.
أذكر جيدا كيف كبرت وسط خطباء مساجد وأشرطة دينية كلها تفترض الفتنة والإغواء عند النساء، واتهامهن بأنهن رأس الفتنة، والرجل هو من يردها دائماً إلى الصواب والطريق القويم، لكن لا يقع الذنب وحده على الخطاب الديني، بل أيضا لا يجب أن ننسى ما فعلته السينما والأفلام المصرية الكلاسيكية ودراما التلفزيون بالمجتمعات العربية وحتى يومنا هذا، فكم مشهد مر عليك طوال حياتك عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، رأيت فيه الرجل يضرب المرأة المخطئة الـ”كف” على وجهها كي تصحو من جرمها؟ ويبقى هو الشريف الرجل الصاحي والواعي، العقلاني.
كل هذا حصل يا سادة حين قلنا تلك الكذبة الكبيرة قبل مئات السنين، وأخذناها كمسلمات وصدقناها “المرأة عاطفية بالفطرة” وبذلك من الطبيعي أن نوقظها من عاطفتها بـ”كف” هنا أو هناك، وقد نقتلها لأننا أيضاً نفترض أنها عاطفية بالفطرة، ونحبها لأنها عاطفية بالفطرة، ونشفق عليها لأنها عاطفية بالفطرة، وبذلك تصبح هذه الكذبة مبرراً للحياة والموت معاً.
لا أحتاج كامرأة أي مبرر مسبق لتحبني أو تكرهني، لتعذرني أو تعاقبني بأضعاف الرجل. خذني بعقلي فقط، وقص مني شوائب كل ما اكتسبته من المجتمع؛ الدموع، الضعف، الخوف، السمعة، العار، الجسد، العيب.
إنها سنوات من هذه الثقافة اللوامة على جنس الإناث، تركت لدينا سلبية مطلقة في التعامل مع الجرائم والعنف ضد النساء، فحتى إذا ما سمعنا جاراً يضرب زوجته أو ابنته، لا نتدخل، كأن النساء عار مسبق ممنوع أن نحكي فيه، والرجل يقوم بغسله، وغالباً ما نسمع كلمة “أكيد عاملة عملة”، “خليه بيأدبها”.
وليس هذا فقط بل حتى في موتها تبقى مظلومة، فلو انتحرت الفتاة، لا أحد يفكر بمَ فعلوه لها، بل كل التفكير ينحصر في “أكيد بدها تغطي على عملتها”، دون أن يكون عندنا أي معلومة أو مبرر، بل نفترض أن كل ما هو أنثوي حتى لو صراخ استغاثة ضرباً من الفجور، “أبصر إيش مسوية؟”.
لماذا لا يخطر على بالنا قليل من هذا الظن في اللاوعي أو الوعي حين يُضرب رجل أو نسمع صراخه، نهب جميعاُ لنعرف ماذا يحدث وغالبا نغيثه، وكأننا إذا قمنا بإغاثة امرأة سنجدها في ورطة وسنتورط معها، فنرفع أيدينا “ملناش دخل يا عمي”!
لقد كبرت وأنا أسمع حكايات فتيات انتحرن أو قُتلن، وكان دائماً هناك شيء غامض حولهن، بل تُسرد قصصهن بصوت منخفض، وغالباً ما تكون التفاصيل ناقصة، أوقن أن أغلبنا عرف حكايات مشابهة في طفولته أو مراهقته، كما أعرف أن هناك طيفاً واحداً على الأقل من ذكرى هؤلاء الفتيات أو النسوة يزوره حتى اليوم، وربما يأتي الوقت المناسب لتحرير هذه الأرواح المجروحة، وأعتقد أن اليوم هو وقتي أنا:
نجلاء
سمعت عنها أول مرة من صديقة وأنا في مرحلة الثانوية في رفح، كان العام 1997 أو 1998 قالت لي أن شقيق نجلاء، وهو شيخ، خنقها وهي نائمة، غدر بها، حتى لم يترك لها الفرصة كي تعرف أنه سيتم قتلها، وذنبها أنها كانت تذهب إلى غزة، وتعمل هناك سكرتيرة في شركة تجارية، وأحياناً تتأخر. كان مجرد ذكر مدينة غزة وقتها يشبه التهمة، هذا الشيخ كان يعمل في البناء، وقد رشى الشرطة وقتها بحوالي ثلاثة عشر متراً من البلاط وخرج من السجن.
حنان
كنت أجلس تحت الأشجار في ربيع عام 2004، مع صديقتي في منطقة ريفية جميلة تابعة لخان يونس، وكنت سعيدة، وحاملاً بابني الأول الذي تحرك أول مرة لحظتها، وفزعت اعتقدت أن ثمرة ما سقطت على بطني، وضحكنا، لكن الضحكات لم تستمر طويلاً، فلم تطل سعادتي حين أشارت صديقتي إلى شجرة زيتون هناك، حيث استيقظوا ذات صباح ليجدوا جسد حنان معلقاً على الشجرة، بعد أن شنقت نفسها، هكذا على الأقل أخبر أهلها الجيران البسطاء حولهم، وحين سألت صديقتي عن السبب ردت “حبت واحد”، بقى طيف حنان حولي في الأرض الكبيرة بين أشجار التين والنخيل، مكسوراً حزيناً يلومنا على الصمت.
أحلام
في عام 2008 أو 2007 ، قتلت الفتاة أحلام ولم تكن بلغت السبعة عشر عاماً، سمعت عن الحادثة، فبحثت عن المنزل الذي كان في حي النصر بغزة، لم أعرّف نفسي كصحافية، قابلت والدها، والذي كان قد خرج من السجن بعد حوالي ثلاثة شهور فقط، قال لي إن ابنته كانت تنام في أماكن مجهولة ولا ترجع إلى المنزل، فأخذها بسيارته وفتح لها الأغنية التي تحب، واشترى لها “ساندويش شاورما”، ثم ابتعد بها في منطقة خالية، وأخرج السكين وحين هم بقتلها قالت له “ليش بدك تقتلني يابا؟”، وقتلها بالفعل. كل هذا الحديث سمعته بلسانه وكان يبدو فخوراً بجلسته، لكن بعينين ذليلتين. بعدها ذهبت إلى دائرة نسائية في واحدة من المؤسسات حيث كانت أحلام تذهب وتشتكي، فعرفت أن والدها كان يتحرش بها، إلا أن الجميع صمت من قبل ومن بعد الجريمة، ويهمسون بالحكاية همساً حتى أنا أفعل ذلك، فلم أكتب اسمها كاملاً يوماً.
إيمان
فتاة كانت انتهت حديثاً من الثانوية العامة، أعتقد أن الحدث في 2010 إذا لم تخني الذاكرة، في أحد أحياء مدينة غزة، كنت أعرفها، وقفت أكثر من مرة معها في وجه قسوة وشك والدها، بقينا نتحدث أحياناً بالهاتف أنا وإياها، تشتكي لي حيناً، تضحك أحياناً، تسألني عن الحياة، كانت شديدة الجمال، فقرر والدها أن يُزوجها بدل أن تتعلم في الجامعة، وهي التي كانت متحمسة لمرحلة جديدة في حياتها. فجأة في يوم برمضان كنت وصلت إلى منزل أهلي من العمل وهممت أن أضع حقيبتي حين سمعت همساً في المنزل بأن إيمان توفيت، ركضت فوراً إلى الشارع، خالٍ تماماً… بقيت أمشي وأمشي وأمشي، وصلت البيت، رأيت العزاء، اثنان يمسكان والدها من كل جانب… كان يبكي، لم يستطع الوقوف… صرخت به “أنت السبب” أخذ يبكي ويبكي… كان يعرف أنه السبب. كانت إيمان تناولت السم وماتت، أمسكوني هم أيضاً وسحبوني إلى داخل البيت، أحاطت بي النساء اللواتي يمسكن صورتها، وكأن الفخر بالجمال يكون بعد ذبوله، أقسمن لي أن أحداً لم يمسها، بل قتلت نفسها، وأنها فقط كانت تريد أن تثير خوف عائلتها، خرجت إلى الشارع من جديد وأنا أشعر بذنب عظيم لم يغادرني حتى اليوم، كان يجب أن أقابلها أكثر وأتحدث معها أكثر.
إسراء مرة أخرى…
كنت أفكر أن أضع إحصائيات في هذا المقال، أو أكتب عن الحقوق، أو عن الحريات، أو أسرد تفاصيل حكاية إسراء، إلا أنني أعرف أن هذا كله قِيل وكُتب سابقاً، ولم أفكر سوى أن بأحرر هؤلاء الفتيات من داخلي علّ روحي وأرواحهن تحط في سلام، كما ستحط روح إٍسراء إذا قامت النيابة العامة والطب الشرعي التابعين للسلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله بقول الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة.
وربما يبدأ السعي نحو الحقيقة إذا تمت الإجابة عن التالي: من أذى إسراء في غرفتها الصغيرة قبل نوبات الخوف التي أصابتها؟ وماذا اكتشفت الشرطة عن تورط ضباط فيها ساهموا بالتعتيم على العائلة؟ والأهم كيف تم قتل إسراء؟ ولماذا هناك حرب في داخل أروقة الأجهزة الأمنية بالضفة بين فريق يريد أن يؤكد رواية العائلة أنها ماتت بجلطة أو سكتة قلبية بحجة خوفه على الرأي العام من الصدمة وكأن الرأي العام طفل رضيع يريدون حمايته؟ وفريق آخر يريد قول كل الحقيقة ويصدم الجميع، وربما هذا ما نحتاجه جميعاً، الصدمة كي نتعلم أن نسأل فتاة أو امرأة في وضع غريب أو تحت العنف “هل تحتاجين للمساعدة؟”.