تسالي الكتب، الهامبرغر والبورنو
لماذا نفضّل شراء الكتب وتكديسها فوق رفوف الكتب في المنزل، على ارتياد المكتبات العامّة، ونصرّ على شراء المزيد من الكتب من المعارض ومحال بيع الكتب القديمة والجديدة بينما على رفوف المكتبة ما زال عدد لا بأس به من الكتب لم يتحرك سنتيمتراً واحداً عنها ولم تلمسه يد بشر؟
ما هو مصير الكُتب التي اقتنيناها بعد أن انتهينا من قراءتها؟ تلقى على مقعد عابر؟ تهدى إلى صديق؟ تُعاد قراءتها، أم تُركن على الرّف مرة أخرى لتصير جزءًا من ذاكرة جميلة سكَن إيقاعها؟ “أنتيكا” جميلة ملقاة فوق قطعة أثاث جميلة. ساكن فوق ساكن ومنسيّ فوق منسيّ ومهملٌ فوق مهمل وميّت فوق ميّت، بعيدًا ومنكَرًا ومغتربًا عن صاحبه، في رُكن جامد نمرّ عنه يوميًا ونشعر بنشوة عارمة ونحن نتأمله ونتأمّل سطوة الماديّ الجميل، الرفوف التي نتملّكها كتملّك جسد أنثويّ/ذكريّ أخّاذ.
لا ينحرف عالم الكتب والمكتبات والحميميّ داخل المنزل عن فضاء الاستهلاك وحركته التي لا تتوقّف، فكلّ حركة في هذا الرّكن تنضح بالتمثيل الماديّ الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بصورة “القارئ المثقّف الفوقيّ والمسترخي”. الكتبُ مطوّقة في قالب يبدو رومانسيًا يوتوبيًا يرمز إلى الحضاريّ والتكنولوجيّ، تتمدّد بالطول وبالعرض، متراصّة متكاتفة مثل أجساد ميّتة مدربة على الموت، داخل خزانة أو على رفوف من خشب أو معدن منقوشة ومصممة على الطراز الحداثيّ. لقد صار حال المواطنين في القرية الثقافيّة اليوم كحال المواطنين الذي يقطنون امبراطوريات “ماك بيرغر” و”كنتاكي” و”مكدونالدز” وفروع “بيتزا هت” من نيويورك إلى مكّة المكرمة. فالإنعاظ البصريّ جراء الافتتان بالجمال الكيتشيّ، يجعل من هذه الشبكات تقوم بتحسين مظهرها وديكوراتها ووصفاتها للمستهلك على الدوام، ليطلب المزيد، لتصير وجباتها جزءًا من طقوس يوميّة يمارسها أفرادٌ فقدوا القدرة على الإنتاج وعلى الاكتفاء وسقطوا بعشوائيّة مدروسة في فخاخ الكامل والجميل ولعبة التّسلية التجاريّة حيث القليل لا يكفي، وحيث الوقوع في عالم المشتريات الخلاب والشغف بالماركات يعادل في وزنه اليوميّ النّومَ والاستحمامَ ومشاهدة أفلام البورنو وارتياد المواخير، كلّها تُحدثُ إحساسًا بالراحة والطمأنينة، وإنعاظًا بأشكال عدّة.
عُنف الوفرة وتكريس الكيتش
لقد تغيّر مفهوم الكتاب والمكتبة ومحال بيع الكتب ورفوف الكتب في البيت، عمومًا، ونظم ارتيادها بتبدّل العصر واكتساح النظام الرأسمالي والعولميّ ما بعد الحداثيّ الذي ركّز على هالة التكنولوجيّ أكثر من هالة الفنيّ والمضمونيّ وانتصر فيها لهالة المظهر وساوى بين الفراغ الفميّ والفراغ التفكيري وسهولة ملئهما عبر توفير المنتج بأفضل حلّة. فالرأسماليّة تقدّم جنّة من الشهوات ومخيالاً مثاليًا لصورة الإنسان الحداثيّ، تعمل على استثارة الشهوات البشريّة أو صناعة الشّهوة/الشّبق/المتعة: شبكة “مكدونالدز” اللماعة، سيارات “الجيب” المصنّعة على أحدث الطرازات أيضًا لمّاعة، المدارس لمّاعة، المجمعات لمّاعة، النساء لمّاعات كلّ شيء حيثما ولّيت وجهك يلمع، و الكتب اليوم، في عصر تصنيع الكتاب، لمّاعة وأنيقة وتستثير شهوة العين وفق معايير ودوائر الإنتاج والتوزيع والاستهلاك الجماهيريّ.
عالم المكتبة المنزلية هو عالم منتج ثقافيّ يشارك فيه لاعبون وفاعلون ووكلاء ويعيدون تعريفه وشكل النظرة إليه على الدوام، لتصبح جزءًا من عالَم استهلاكيّ يكرّس اليومي الكيتش ويكدس الصناعة الفنيّة الموجّهة للحشود والتي تتيح وصول الجميع إلى ذات المنتج بعيدا عن قيمته أو جوهره الثقافيّ. المكتبة المنزليّة، بصفتها مكانًا استهلاكيًا يكرّس قيمة الفائدة الاستعماليّة، بجمالها وعمقها وزاويتها الحميمة وثراء ما فيها، هي احتفاء بالتكنولوجي المفعم بالأمل والتفاؤل، والترفيه، الذي يجعل الفرد ينسى همومه ومآزقه بالهرب إلى زاوية تبدو دافئة وجميلة ووادعة، ملقاة في ركن تنتظر تسخينها كوجبة سريعة. بالتالي فإنّها تقدّم خدمة رأسماليّة كبيرة بتحفيز المتخيّل حول الثقافيّ الجميل وكيف يجب أن يبدو. إنها المعرفة المسكينة التي تنتظر طالبها ولا يأتي حقًا، لأنه يترفّه بظلالها وينعم بنعيم شكلها ويهاب خطرها لأنه يهاب أفكارها التي تهدّد بالمقاومة والتغيير، لمواطن مسكين منهَك يرعبه التغيير. التصميمات الفنيّة بشكله البسيط أو العالي أو المكتظّ أو الفارغ، كلّها صارت مصطلحات تدخل في إطار التصميم الفنيّ الجميل الهابط الباعث على الراحة وعلى “التفاؤل المفرط فيه”، على حدّ تعبير والتر بنيامين، ذلك الذي يمكنه أن يكون في متناول يد الجميع والمشروط بالمادّة.
لقد حوّلت العولمة الكتاب في قيمته إلى غرض يوازي/يساوي شراء البيرغر. على غرار الأخير، عليه أن يكون جميلاً، مؤنقًا، مهندسًا، مغريًا يثير شهوة العين. تم تجسيد الأدب ماديًا، فالكتاب الذي لا تضرب جذوره في العين لا يبيع، وما يبيع يحتاج إلى اللعب في ذهنيّة المواطن، تفعيل ميكانيزمات الدّفع بالكتب إلى حقائب المستهلكين بأكياس جذابة وأغلفة جذّابة وورق جذاب وأسعار جذابة وتخفيضات جذابة تفتح الشهيّة رغم الامتلاء، تماماً مثل الدّفع بالبيرغر إلى أفواه المواطنين، وتماماً مثل الدّفع بأصباغ الشعر وأنواع الشامبو، وطلاء الأظافر، وماركات السيارات والملابس الراقية إلى عالَم المواطن المبهور بالامتلاك والاستهلاك في حالَتي النقصان والامتلاء. تدخل هذه الحالة ضمن تسكين الثوري، وتسكين النقديّ، وتسخير الجماهير، بما فيها المثّقف، لخدمة الرأسماليّ والعولميّ. هي اشتغالٌ على فكرة الكمال كظاهرة جماعيّة، الكمال المتجسّد في إنتاج الشيء ومراكمته، في جمال المنظر، في مثاليّة العالَم الفرديّ، في عودة البحث عن إرم ذات العماد في شكلها الهابط -المصنّع- التكنولوجيّ. هي الجنّة الصغيرة التي يبحث عنها الجميع: الحلم المثاليّ الذي لا يشوبه نقص. من هنا، تُسحَب الكتب “الوحشيّة” (التي قد تشكّل مضامينها خطرًا على ثبات القواعد الاجتماعيّة، وثورة في وجه الثابت) إلى الرفوف القادمة من عالم “الوحشيّ والتوحش”، ليمرّا عبر التصنيع والتسليع، ويخرجا إلينا بهويّات جديدة: مقموعة، منفردة، منفية، مركونة، حبيسة، مروّضة، محكومة بمؤبّد داخل الجنة المستعادة.
لقد صار العالمُ أشدّ قساوة من ذي قبل. كلّما أوغل في الرّقة وفي رفاهيّة الصّورة وفي وفرة البضائع، صارَ أكثر عنفا تواطئًا علينا. ونحن شركاء في التواطؤ معه على أنفسنا. فنحن نعيش الوفرة، رغم الشح، والرفاه، رغم المعاناة، والمرح، رغم الحزن، والأريحيّة، رغم العذاب الذي يطال العالَم، والتفاؤل الميكروكوسمي رغم سوء العالَم. إننا نتكوّر عميقًا داخل أنفسنا مثل الحلزونات، نتكوّر لنشعر بالأمان، لنقاوم الوحشة بالوهم، بالكذب، بالزيف، بالفنّ الهابط، بالقيمة المنخفضة. لنقاوم الكتب وخطورة مادّتها بجمال الرفوف، بتعنيفها وقمعها وحصرها في زنازين من خشب. إننا نتفادى الاضطراب والخوف والإحساس بالخطر وندافع عن أنفسنا من الانقراض والانحلال والتهديد، بأكثر الأدوات عولمةً وعنفًا.
إنّها عمليّة انتهاك الكتاب بصفته جسدًا عذريًا طاهرًا، لا يعتمد على شيء سوى اللصوصيّة. لقد سرق الإنسان العصريّ عذريّة الكتاب، وفحولته في نفس الآن. فلَم تعد مكتبة الكاتب ومكتبة المثقّف ومكتبة الجامعيّ ومكتبة المواطن متوسّط الذكاء موضعًا جوهريًا يثبت فوقيّة هذه الطبقة، بقدر ما صارَت عناوين الكتب، وشكل الأغلفة، ونسبتها لدور النّشر وطريقة تصفيفها على الرفوف، وشكل الرفوف ونوعها هي الجوهر.
الجميل، الوحش، الحبيس
صارَ لزاما أن يكون كلّ شيء جميلاً في عصر العولمة، وجزء من صناعة الاستهلاك وحال الكتب والثقافة ليس بعيدًا عن عالم رأس المال وزحام الاستهلاك. هو أيضًا يحتاج لأن يدخل السباق والمنافسة ليظلّ على قيد الحياة وإلاّ تجيّف وأكلته الصراصير والبراغيث وألقيَ به في المخازن ليأخذ هويّة المحترق في ثلاجة الموتى الأبديّة.
لهذا تبدو المكتبة المنزليّة بالأرفف المزخرفة التي تُثبّت على حيطان بيضاء ومساحات خالية، مصنوعة من خشب الزان والصنوبر والماهوجني واللماع والمدهون والمقوّى والمقوّس والمربع والمستطيل والملوّن.. تمثيل لفراغ يبحث عن مَلاء، والطفوح بالسلعة أيًا كانت، حيث يمكنك أن تستبدل رصف الكتب برصف قناني “الكوكا كولا” وعلب القهوة والحلوى والمؤن الغذائيّة، أو بالدّمى والحلى، أو بالتماثيل والهدايا التذكاريّة، ويبقى الرفّ جميلاً ومرتباً ومزخرفاً. هذا هو منطق طمأنينة إحساس الفرد بالأشياء، بترويض اللامروّض، الغابيّ الذي صار جميلاً يقبض على المعرفيّ “الحرّ”. إنه الرّف القادم في مادّته الخام الأولى، من عالم الشجر والغاب والتوحّش، من طوفان الحريّة إلى طوفان العبوديّة، من ضجيج الفراغ إلى ضجيج الاكتظاظ. لقد أعيدَ إنتاجه من جديد ليواجه هوية جديدة ومصيراً جديدًا، مصير السّجان الذي تتمدد فوقه سجين أمنيّ، فالسجان يمّحي تاريخه الحميميّ أمام السّجين الذي يمّحي تاريخه الإنسانيّ في هذه المواجهة، وعلى الاثنين أن يلعبا اللعبة وفق منطق الهويّات الجديدة، بلا تاريخ حميمٍ وبلا هويّات أصيلة.
في داخل هذه الرفوف المهذّبة والمربعة والمستطيلة والمؤطّرة والملوّنة والمليئة، عالَم من الورق والكلمات أبعد ما يكون عن التهذيب والتشذيب. هو عالَم أشعث، “أفانغارد”، ثوريّ، كلام في الفلسفة والحبّ والسياسة والأيديولوجيا، تقويض للرأسماليّة وعالم الاستهلاك، الكتب في داخل هذه الرفوف حالة من الفوران الفكريّ، تغطّي وتنقض وتهدّ الفكر الإنسانيّ وتعيد إنتاجه من جديد. إنّه عالَم من الامتلاء المؤطّر بفراغ الخشب، عالَم يكشف القبح محشور في صورة جميلة / خادعة للعين قادمة في أصلها من الغابة والتوحّش المكان الذي لا يعرف قوانين ولا يعرف عبوديّة، الفراغ اللامهندس، اللامحسوب، لا حصر لمعانيه، المدجّج بسلاح الحريّة وحيداً طليقاً في صحراء أو أحراش. ها هو مقصقص، ومشذّب ومؤطّر ومطليّ ويمتلك هويّة قسريّة، يُمحى تاريخه الغاليّ وتوحّشه وكثافته ومداه الواسع في صيغته البدئيّة، يُشطَبُ الفراغ الذي يسمه ويُختزلُ في شكلٍ جميلٍ ورخيص، رخيص فقد جوهره، تمّ تعديله وراثيًا ومعماريًا، وفق مقاييس الاستهلاك الاحترافيّ الذي يدسّ أنفه في فراغ الجيب ليحقّق المتعة والنشوة للفرد، الإحساس بالبهجة من إشباع الحواس بالمزيد من البريق.
الكتب تهدّد الإنسان وسكينته، في داخلها عالمٌ يمور من التمرد والحريّة والانقلابات والتغيير، عالم وحشيّ وقاسٍ يتوعّد وجود الكائنات ويزعزع مكانها الثابت. من هنا، جاءَت الحاجة إلى ترتيبها وتهذيبها وترويضها ومعاقبتها في قالب بصريّ، مصفوفة ومصنّفةً بلا فوضى، في كفاءة عولميّة مثلى، كما “يجب” للحميميّ أن يكون. إنّها المكتبة التي تسرقُ الكتاب، تحتلّه، تستعبده تحت مسمّى الحميميّ.
إرَم: لحظة القراءة
في حوارٍ مع رجل المكتبة ألبرتو مانغويل، الشّاب الذي رافق بورخيس في رحلة القراءة، والذي وقع في حبّ القراءة والمكتبات، يُطرح عليه سؤال حول مكتبة أسرته في طفولته وعن الخصوصية التي منحتها له فيجيب: “عندما عدنا إلى الأرجنتين، كان والدي قد اشترى لنا منزلاً وأقام فيه مكتبة، وهذه المكتبة لم تكن مكتبته “الشخصية” بالمعنى الحرفي، حيث قبل عودتنا كان قد طلب من سكرتيرته شراء كتب لملء رفوف المكتبة بها، وأذكر أن معظم الكتب التي اقتنتها السكرتيرة كان حجمها يفوق المساحة المخصصة لها بين الرفوف، لذلك قامت بقص أطراف الكتب لجعلها تناسب مكانها على الرفوف! وكنت أستخدم تلك المكتبة، وقرأت تلك الكتب التي بُترت أسطرها الأولى، كنت أشعر بالدفء كلما باشرت بالقراءة”.
يصوّر مانغويل عالم المكتبة (المنزليّة هنا على وجه الخصوص) بصفته ينبوعًا للمعرفة والشغف بها، لكنّه يغفل عن، أو ربّما يتغافل، حقيقةً أخرى أشدّ أهميّةً، وهي أنّ المكتبة هنا جاءت عرضًا لجوهر مفهوم “ملء الرفوف”- ملء النّاقص المتخشّب أو نفث الرّوح في الجماد وأنّ ما قامَت به السكرتيرة، بصفتها وسيطًا منحازًا، بقصّ أطراف الكتب لتناسب حجم الرفوف، لم يكن إلاّ نحرًا لخصوصيّة الكتاب، وصفعةً للمعرفة “المبتورة” أمام غول المنتَج الصناعيّ. حركة بتر الورق هذه هي ترجمة لأهميّة البصريّ، وللامبالاة بخطيّة المعرفة وهيكلها الذي يجب أن يبدأ من الصّفر، حيث السطور الأولى تلعب دورًا حاسمًا في معظم الكتب. وهي ترجمة أخرى لجمال أكياس الماك بيرغر، وأكياس الكتب، وحتى أغلفة الكتب، وأشكال متاجر الكتب في المجمعات التجاريّة، التي تأسر العيون وتثير لعاب المستهلكين وتحثّهم على الاقتناء دون مبالاة جوهريّة بأهميّة ما يٌقتنى. المعدة هنا تساوي في قيمتها قيمة المعرفة بصفتها غذاء للدماغ.
تشكّل هذه الحادثة -قصّ المعرفة لتتناسب مع حجم الخشب وسعته- في لا وعي مانغويل الطفّل، نقطة تحوّل مفصليّة في ذاكرته لتصير القراءة آلية دفاع عن الحميميّ، وربّما أكثر من كونها آلية معرفيّة.
كانت مكتبة بورخيس، الذي أسمى الكونَ “مكتبة”، وتخيّل الجنّة على شكل مكتبة، عبارة عن حقيبتين من الكتب في منزله. “خيبة أمل” على حدّ تعبير صاحب “المكتبة في الليل” (الذي رمنَس عالم المكتبات والكتب، وفلسف نهارها وليلها) في كتابه “مع بورخيس”. إذ بالنسبة لمانغويل وزوّار منزل بورخيس توقّعوا “مكانًا مكسوًا بالكُتُب، برفوف تطفح حتّى حافّاتها، وأكوامًا من المطبوعات تسدّ الممرات وتبرز خارج كلّ فجوة، أدغالاً من حبرٍ وورق، لكنّهم كانوا يجدون بدلاً من ذلك شقّة تحتلّ الكتب فيها الزوايا المهملة”.
كانت حقائب بورخيس تضمّ خلاصة قراءاته ابتداءً من الموسوعات والقواميس مرورا بمؤلفات جيمس جويس وستيفنسون وهنري جيمس وانتهاءً بكيبلينغ ومارك توين. بالنسبة له هذه الخلاصة تشكّل سيرته الذاتية وعصارة المتعة، دون أن يكون للشعور بالواجب دورٌ في شأنٍ شخصيّ كشراء الكتب، على حدّ تعبيره. هي الجنة، إرم ذات العماد التي توثّق الحميميّ الخالص بعيدًا عن واجب “صورة الكاتب” في المتخيّل العامّ.
**
نحن في زمن انقراض أو انحسار مفهوم القراءة. وبالتالي انحسار معه مفهوم الكتاب بصفته جوهرًا. فالكتاب لا يعيش عصره الذهبيّ، بقدر ما يعيش غلاف الكتاب ازدهارًا لم يعرف مثله من قبل. في عَصر إرَم الجديد، حال الكتب كحال الوجبات السريعة وسلع الشبكات العالميّة التي تحمّل الأفراد أكياسها الجميلة كما لو كان داخل هذه الأكياس عالم من العجائب والمعجزات. إنها الحاجة الزائفة التي يقدّمها لنا عصر العولمة على أنّها ضرورة. وفي الحقيقة، لا شيء ضروريّ اليوم، فالوَفرة تلغي الخصوصيّة والحميميّ، وتحيّد الحاجة إلى الامتلاك في العصر في العصر التقنيّ وعصر صنعة الثقافة، على حدّ تعبير أدورنو وهوركهايمر. الكتاب موجودٌ في كل مكان، والحميميّ سيتفجّر متى بدأت لحظة القراءة، وسينتهي متى انتهت لحظة القراءة وبدأت لحظة الرصف على الرفوف.