“يقولون في المأثور إنّنا لا نبلغ الكمال طولاً عندما نؤدي عملاً. أنا أقول إنّني قاربت الكمال في ما كتبتُ عن محمود درويش أيقونتنا ودالتُنا ودَليلنا، ولذا أظنني استحققتُ كلّ إحساسٍ بالسعادة والراحة..”. بهذه الكلمات يصف القاص والروائي الفلسطيني زياد عبد الفتاح، كتابه الجديد «صاقلُ الماس» الصادر مؤخراً، عن “مكتبة كل شيء” الحيفاوية في فلسطين المحتلة.
“رمان” تواصلت مع عبد الفتاح الذي يعيش حالياً في غزة، وسألته بداية: لماذا «صاقلُ الماس»، الآن تحديداً (أي بعد نحو عقد على رحيل “لاعب النرد”)؟ فأجابنا: أنا لم أصدق حتى اللحظة اكتمال موته، إذ ما زال يتردد في داخلي ويعيش فينا. كنت أظن أيضاً أنّ حياتنا معاً ملكٌ لنا ولا ينبغي أن نكشف أستاراً وأسراراً تخصّنا وحدنا، إلى أن عاينت هذا الكم من الافتراءات وربما الادّعاءات والأقاويل والتقويلات وحتى الشهادات المضروبة! بعضهم أراد أن يتقرب منه أو يتمسَّح به. هنا تصبح الكتابة عنه واجبة وضرورة. وكنت أمام حرج السؤال الذي قد يثيره البعض حول الكتابة عنه، بل لقد فاجأتني قلّة لا تعلم بالاعتراض على بعض المواقف والأحداث، أثناءها كنت أنشر ما أكتبه تباعاً على صفحتي في الفضاء الأزرق! لقد أفدت من ذلك كثيراً في تدقيق السرد والدفع بشهادتي حتى الشفافية والاكتمال.
يتابع صاحب «قمر على بيروت» قائلاً: لماذا تأخرت كل هذا الوقت؟ لأنّه أخيراً ناداني، حين تأخر الدليل وهاتفي الذي يقودني فلبَّيتُ النداء وها أنا أنجز ما وعدت. لقد حرصت أثناء الكتابة على أن يكون ما أكتبه أقرب إلى الشهادة، وسردٍ مكتملٍ للأحداث والوقائع كما هي وليس كما أراها أو أتخيلها. لقد حاولت ما وسعني النأي بنفسي عن كل استعراض.
الكتابُ الذي بين أيدينا يسبر أغوار رحلة مثقف مناضل سلاحه الكلمة مع شاعر استثنائي، رحلةٌ عاشها زياد عبد الفتاح مع صديق العمر والرِّحلة الفارقة، في محطّات عدّة تتناول حياته من خلال سيرة غير ذاتية واستثنائية كذات درويش العاليّة شعراً وروحاً.
يقول صاحب «وداعاً مريم»: إنّه كان في هذا الكتاب “البطل والشاهد”، مضيفاً: لم أتناول كل ما أعرفه عنه، في سيرة حياتنا المشتركة، إلّا أنّني كتبت المسموح به، ودون أن أغالي في الروايات، وكل ما تناولته حدث وصدر عن الشاعر نفسه، أو ما عايشته أنا معه، فأفردت لمحمود درويش الإنسان والسياسي والشاعر والمناضل الفلسطيني والعروبي، أكثر مما أفردته عن علاقات الآخرين به، لأنّ درويش عاش عمره كلّه ومات ولديه هدف وحيد في هذه الحياة، أن يكون شاعراً على قدر قضية شعبه.
وعن سؤالنا: ما الذي أراد تقديمه للقارئ من خلال الكتابة عن رفيق دربه “سيّد الكلام”؟ أجاب مُحدثنا: أردت فقط أن أوفيه حقه وأن أنقل صورته في سموها وشموخها عبر مواقفه في تعدّد الزوايا واختلاف الجهات. هذا الشاعر العالي بامتياز، المبدع الخلاق، المفكر الفيلسوف، اللامع اللماح، لم نوفه حقه. أنا أفعل ذلك ما استطعت وأرجو ان أكون قد وفِّقت.
أما عن أهم موقف عاشه صاحب «الرتنو» مع صاحب «جدارية»، وترك أثراً كبيراً في ذاكرته؟ يقول عبد الفتاح: كل المواقف التي عاينّاها معاً مهمة بل فارقة لقد عشنا الرحلة كاملة مكتملة قبل بيروت بسنوات عشنا رحلة الدفاع عن الثورة بكافة الأدوات ليس بالشعر والرواية والخطاب السياسي وحده وإنّما بدمنا وصمودنا حتى المخاطرة بأرواحنا. لقد شهدتُ شعراء وكتّاباً بل ومناضلين سقطوا في متاهة الخوف والرعب والضياع إلّا محمود درويش الذي كان يزرع شوارع بيروت أثناء حصارها وقصفها… كان لا بد من فِعلها، لكنني أستطيع أن أحدّد أنّ محمود ذات يوم فادح من أيام القصف والعصف والحصار طلب أن نقوم من فورنا لنطمئن على شعراء وكتّاب ومناضلين بعينهم. كان الموت أقرب من حبل الوريد وكان الرهان على النجاة أمام ذلك الهول من القصف وانهمار القذائف كما المطر لا يكاد يدرَك. عدنا بعد أن أنجزنا المهمّة، قال لي في طريق العودة: “كان لابدَّ من فعلها وقد نجحنا. هل تعلم ما كان يدور في رأسي ونحن نمضي خبباً بالسيارة بين المتاريس والمواقع والحواجز أنّنا لن نعود أحياء..”.
«صاقلُ الماس»، الذي قامَ بتصميم غلافه الفنان التشكيلي باسل المقوسي من غزة، يقع في 304 صفحات من القطع المتوسط، وهو الكتاب السادس عشر لزياد عبد الفتاح، وفيه يتناول فصولاً مجهولة من حياة درويش بنيت على علاقته الشخصية به.
بروح وثابة يقول صاحب «ورق حرير»: لم يحدث من قبل، ولا مرّة واحدة، طوال خمسة عشر كتاباً ورواية ومجموعة قصصية، أن كنت راضياً عمّا فعلت، كما أنا الآن بعد أن انتهيت من هذا الكتاب. وأضاف: لقد أودعته مكنونَ قلبي ودَفقَ روحي ومشاعري، على أنّ الأهم الأهم أنّني لم أفرِّط في أيٍ من تفاصيل هذا العمل. وأيّة حَبكة درامية اقتضَتْها الضرورات الفنية كانت محسوبة بعناية، فلا تُخلُّ بمصداقية ما انطوى عليه العمل من أحداثٍ، كان عليَّ أن أعود إلى أرشيفيّ الخاصّ ومصادري لأنجو بها من عثرات السهو، التي قد تلحق بالذاكرة.
بمرارة يروي لنا عبد الفتاح رحلته الشاقة مع دور النشر حتى يرى جديده النور، فيقول: كِدتُ أخوض تجربة مريرة عندما فكرتُ في نشر كتابيّ «صاقلُ الماس» في دار نشرٍ ذات توزيعٍ عالٍ وانتشار. لم يكن همّي الحصول على المال، فأنا أعرف أنّ الكتاب في هذه الأيام، لا يكاد يغطي نفقات إصداره. كان همّي هو الانتشار سريعاً بسعرٍ يكون في متناول الجميع. فكرت كثيراً وقلتُ في عقل بالي لماذا لا تلجأ لدار نشرٍ لا تتوخى رِبحاً بقدر ما تهتم بخدمة الثقافة وتعميم الوعي والفائدة. فذهبت إلى دار نشر كبرى كنت أزورها لأوّل مرّة. لم يعرفني أحدٌ من أكبر رأسٍ إلى أصغر رأسٍ فيها. قلت: “ليس بالضرورة أن يعرفوني، فالناس مشغولون ولا يكادون يجدون وقتاً يُحصّلون فيه ثقافةً أعلى!”.
يضيف صاحب «ما علينا»: فيما بعد عرفوني واستَقبلوني، وضِعتُ بين دواليبهم، فالرئيس مشغولٌ جداً؟ والمدير مهمومّ بالتخفّف من مسؤولية نشرٍ، ربّما تعرضه للمُساءلة. أحالوني إلى لجنة قراءة استعانت بلجانٍ خارجية، أجرت معي تحقيقات، لم تُفلح في تشكيل رأي أو قناعة! ثلاثة أشهر وأنا ألف وأدور قبل أن أقرِّرَ أن أنجو بجلدي، وانطلق مهرولاً إلى “مكتبة كل شيء” الحيفاوية ألقي بمأزقي عليها.
عبد الفتاح لم يخفِ علينا أنّه خطر له أن يكتب مقدمة لِكتابه الجديد يشرح فيها لماذا يكتب عن درويش بعد أكثر من عشر سنوات على رَحيله؟ غير أنّه تراجع عن ذلك، “تراجعت احتراماً للقارئ، الذي عليه أن يستكشِفَ الباطن، فلا يأخذه الظاهر، فثمّة الباطن وما تحته، أو باطن الباطن والعمق. ثمّ احتراماً للناقد، الذي عليه استخراج الدرِّ من صَدَفاته. وفي الأساس أن يفيق الباحث على دهشته التي تُعيده إلى دَهَشٍ جديد. فليكن النصّ أمامكِ وأمامَك يقدِّم نفسه دون مقدمات..”.
نقّادٌ وكتّاب وشعراء رأوا أنّ عبد الفتاح يضع في «صاقلُ الماس» تجربته مع محمود درويش أمام القراء، وهو ما عايشه في أكثر المراحل الوطنية انفعالاً وأرقاً وأشدها ألماً وأملاً، وهي مرحلة اجتياح بيروت، وهو صديقه منذ زمن، ولكن لتلك المرحلة خصوصيتها لما حملت من فائض مكثف لتاريخ طويل حشرته في ثلاثة أشهر كان أثرها أن ينتج درويش أجمل قصائده السياسية «مديح الظلّ العالي» ورائعته الأدبية «ذاكرة للنسيان» وهي من أجمل ما كُتب في الأدب الفلسطيني…
الشاعر سليم النفار ذكر في مقالة له حول الكتاب، أنّ عبد الفتاح يعرض بلغة شيقة تفاصيل الحياة اليومية، والمواقف الثقافية والسياسية والإنسانية للراحل محمود درويش، «صاقلُ الماس» جزء من سيرة درويش، المرتبطة بالحراك الثقافي والسياسي للشاعر الراحل، والتي لم تكن بعيدة عن مجهر عبد الفتاح، فكيف تكون كذلك، وهو الصديق الصدوق الذي رافقه في كافة المواقف، من بيروت تحت القصف، حيث كان زياد مع محمود ومعين بسيسو وآخرين من الكتّاب الفلسطينيين واللبنانيين، يتدبرون إصدار صحيفة “المعركة”، وفي جحيم الحصار هناك يروي زياد تفاصيل ومواقف من حياته أو حياتهم مع محمود والمواقف المختلفة هناك، في لحظات الموت الذي كان ينشر غلالته على كل البلاد، وليس هذا وحسب فهناك في “البعيد البعيد” في تونس وفي اليمن وفيينا، كان زياد ومحمود رفقة عُمر لا تتوقف عن البحث نحو الأجمل، في إضاءة الأمل على المستوى الوطني، من خلال متابعة شؤونٍ خاصّة باتّحاد الكتّاب ووحدته، وتفاصيل أخرى ذات صلة بصحة محمود وانتكاساتها المريرة، أو بحث الاثنين معاً عن معنى جديد في الحياة.