الظرف الآنيّ استثنائيّ. العالم يتخبّط منذ أشهرٍ، فوباء “كورونا” طاغٍ، وتأثيراته حادّة ومُربِكة، والحلول غير معلومة. تغيير كبير حاصل في شؤون الحياة اليومية. ترتيبات جديدة مفروضة على الناس، في محاولة جماعية/ فردية لاحتواء انتشار الوباء وإنقاذ أرواح منه. العزلة المنزلية (لها تعبير آخر يتداوله كثيرون: الحجر المنزلي) تتطلّب أدوات عيشٍ ومواجهة وصمودٍ. لكلّ فردٍ قدرة على المواجهة والاستمرار، تختلف عن قدرة الآخر. لكلّ فرد وسيلة أو أكثر لتحدّي اللحظة، والعيش معها، ومواجهتها.
السينما شاهدةٌ، بتوثيق لحظة، أو بنقل بوح، أو بقول حالة. “فيلم لاب فلسطين” تقترح مشروعاً بدأ عرضه على موقعها في 28 مايو/ أيار 2020: “أصوات (وصُوَر) من فلسطين”. أفلام قصيرة، يُفترض بمدّة كلّ واحدٍ منها أنْ تكون 5 دقائق (بضع ثوانٍ أكثر أو أقلّ)، تعكس شيئاً من أحوال المخرج، ومحيطه الضيّق، وعالمه المفتوح على أسئلة وانفعالات. لا شيء محدّد. لكلّ مخرج حرية اختيار ما يرغب في سرده، والسرد يكون حكاية أو حالة. المجموعة الأولى (5 أفلام) تشي بعفويةٍ تُتيح للنص البصريّ انفتاحاً على ذاتٍ وتفكير وتأمّل. التكثيف السرديّ أساسيّ، فللصورة أولوية، والكلام يأتي لاحقاً، وأحياناً لا يأتي وهذا أجمل سينمائياً. الموسيقى تقوى أحياناً قليلة، وهذا نافرٌ لأنّها غير متساوية وسردية النصّ البصري ومناخه الدراميّ.
لا ثرثرة، بل اشتغالات تنبثق من شعورٍ يحسّ به السينمائيّ، فيدفعه إلى لملمة أشياء وتفاصيل حوله وفيه. لا بناء درامياً ثابتاً، بل متتاليات تتلاءم مع مزاج السينمائيّ، الذي (المزاج) ينشأ من اللحظة نفسها للتصوير، أو من الحالة التي يُقيم المخرج/ المخرجة فيها منذ وقتٍ، قبل انفلاشه على المساحة الذاتية الخاصّة بالمخرج/ المخرجة.
لمشروع “فيلم لاب فلسطين” شبيهٌ لبناني بعنوان “كاميرا واحدة/ أسبوع واحد/ 5 مخرجين” (إنتاج “درج” وISM)، يُشارك فيه غسان سلهب ومحمود حجيج وزينة صفير وكارول منصور ولميا جريج. التشابه بين المشروعين يتمثّل بمزيجٍ انفعاليّ/ سينمائيّ بين مسألتين: تأثيرات “كورونا” وأحوال البلد. المشروع اللبناني مهمومٌ، بجانبٍ منه، بأزمة عيشٍ سابقة على تفشّي “كورونا”. هناك “انتفاضة 17 أكتوبر” (2019) المندلعة ضد فساد السلطة الحاكمة في الاقتصاد والمال والسياسة. المشروع الفلسطيني (إنتاج “فيلم لاب فلسطين”، تمويل IMS و”دنماركي عربي” مشروع تشاركيّ) يهجس، غالباً، بالذاكرة والتاريخ. “كورونا” يجمع المشروعين، فالوباء دافعٌ إلى تأمّل سينمائيّ غير مُحدّدة قواعده أو حدوده. لكنّ البلد (فلسطين، لبنان)، بمصائبه وانشقاقاته وأزماته، يحضر بشكلٍ أو بآخر. هذا غير منسحبٍ على الأفلام كلّها، فبعض تلك الأفلام منطوٍ على صانعه وهواجسه الخاصّة.
أبرز الأفلام الفلسطينية اثنان: “خطوة إلى الخلف.. خطوتان إلى الأمام” لديمة أبو غوش و”بيني وبينك” لمجدي الغمري. التركيز على داخل المنزل أساسيّ فيهما. الخارج قليل الظهور، وإنْ يظهر فليُكمِّل هواجس الداخل ومناخه وفضاءاته المختلفة. “واحنا بنستناك” لمؤيد عليان يخلط بين داخل وخارج، ويذهب في اتّجاهين تعبيريين يختلف أحدهما عن الآخر كلّياً: فالتعبير البصري عن داخل المنزل لا علاقة له بالتعبير البصري عن خارجه. في الداخل، هناك امرأة حامل (عبير سليمان)، وصمت كبير، وأصوات قليلة (غسالة، مياه، إلخ)، وإيقاع هادئ، ومسار تأمّلي في أشياء بسيطة لكنّها أساسية في يوميات المرأة. في الخارج، شوارع إسرائيلية فارغة، وأخرى فلسطينية مع حواجز للشرطة. لخضر زيدان محلّ صغير لبيع مأكل ومشرب، يروي فيه مصائب الاقتصاد والحياة والقهر. التناقض البصري كبيرٌ بين الداخل والخارج: في الأول، لغة سينمائية ترتكز على صُوَر وصمت. في الثاني، ضجيج يتساكن مع صمتٍ وفراغ ومطر غزير. الروائي يصنع الداخل وعالمه الجميل، رغم قسوة الوحدة والانتظار الذي يبدو لا متناهياً. التوثيق سمة الخارج، بصرياً وكلاماً. التقطيع بين غسل اليدين ولقطات سريعة عن جدار الفصل العنصري وشوارع خالية وفضاء إسرائيلي، محاولة لتبيان تشابهٍ في الخراب بين وباء واحتلال.
هناك أيضاً “أيار” لمها الحاج و”حجرة الصدى” لمحمد حرب: الأول يتجوّل تاريخياً بين “نكبة 48” وويليام شكسبير وراهن “كورونا” في حيفا؛ والثاني غارقٌ في ضجيج موسيقيّ وصوتيّ يجمع ارتباكات وقلاقل وألواناً غامقة.
مع العمري، ينعكس واقعٌ آنيّ يستمدّ حضوره من ماضٍ يعيشه كثيرون في علاقتهم الوثيقة بوسائل التواصل المختلفة (سكايب، واتساب، إلخ). الحجر المنزلي يُعزِّز الحضور القوي للتقنيات الحديثة في يوميات العيش. التفاصيل التي يُظهرها “بيني وبينك” جزءٌ من ذاتِ الشخصية الرئيسية (غير الظاهرة كلّها أمام الكاميرا)، ومن آلية تواصله مع الآخرين. الأصوات منبثقة من أشخاص يظهرون على شاشة الكمبيوتر، ويتحدّثون مع بعضهم البعض قبل أنْ ينسحب كلّ واحد منهم بهدوء. أغنية “شجر البن” لفرقة صابرين (كلمات اللبناني طلال حيدر) تُنهي المشهد بصوت الفنان سعيد مراد، الذي يتّضح أنه هو الشخصية الرئيسية. ديمة أبو غوش تفتح عدسة الكاميرا على منزلٍ ومحيطه الضيّق، بعد لقطات واسعة لجغرافيا فلسطينية قريبة من مكان التصوير. أناس وكلام وزرع وخبريات، وغيرها من أشياء الحياة اليومية، تتحوّل إلى مرويات تعكس دقائقَ عيشٍ في حصار الجدران.
اللقطات التي يستند “بيني وبينك” إليها في التقاط التفاصيل متشابهة ولقطات “خطوة إلى الخلف.. خطوتان إلى الأمام”. الداخل فيهما طاغٍ، مع كلّ ما يملكه الداخل من هوامش تصنع جوهر الحياة راهناً. الجزء الداخلي في “واحنا بنستناك” يندرج في هذا التشابه. فالداخل أساس المشروع، وإنْ بشكلٍ غير مباشر. العزلة المنزلية تفرض أشكالاً كثيرة لعلاقة المرء بمنزله، وهذا يمتدّ إلى علاقته بذاته وأغراضه وفضائه، وبكيانه كلّه. الأفلام الأخرى تضع الداخل في واجهة المشهد، لكنّ التعبير عنه (الداخل) مختلف، إذْ تخفّ جمالياته (التعبير)، ربما لأنّ هناك رغبة في تبسيط كيفية البوح والتعبير.
“أصوات (وصُور) من فلسطين” مستمرّة. في يونيو/ حزيران 2020، تُعرض أفلام جديدة مُنجزة في الإطار العام نفسه. أفلامٌ “تكشف جوانب ورؤى شخصية خارجة من لحظات يمرّ بها كلّ فردٍ في بيته”، وتعكس “عوالم” هؤلاء المخرجين والمخرجات، وتروي “قصصاً ذاتية” لهم ولهنّ، “بما فيها من رتابة يوم الحجر ومتعته، تعقيداته وجمالياته”، كما في بيان رسميّ يُعرِّف بالمشروع.
التجربة مُثيرة للاهتمام والمتابعة. هذا توثيقٌ يستعين بالمتخيّل الواقعي، إنْ يصحّ التعبير، لسرد مرويات عيشٍ في لحظة استثنائية. هذا تمرينٌ على ابتكار شكلٍ ما لحياة مختلفة، عبر كاميرا تتحوّل، مجدّداً، إلى عين وروح وقلب ونظرة.
فيلم سادس لآن ماري جاسر، «حيّ»، والذي كان من المفترض أن يُعرض ضمن المجموعة، مُنع من العرض لأسباب غير واضحة، واستُبدل الفيلم ببيان من المخرجة. يمكن مشاهدة الأفلام… هنا