إلى محمد الشيخ يوسف
لماذا تخذلنا الأماني يا صديقي، لماذا يخذلنا الحب؟ كيف أننا لم نعد نعرف أنفسنا من الوجع؟ كيف أصبحت الهالات السوداء تحت عيوننا واسعة هكذا. متى تمددت؟ في الخذلان الأول أم الحزن الأول أم الغربة الأولى؟
لم أعد أعرف نفسي يا صديقي… لم أعهدها عطوبة هكذا، أو كأننا حين نكبر يصبح الفقد أصعب، ونكتشف ضعفنا وعيوبنا أكثر، كيف لتلك الأماني التي كانت عظيمة في تلك المظاهرة البعيدة أن تصبح قاحلة اليوم كأننا نلملم ما تبقى من أزهار يابسة متفرقة هنا وهناك..
هل هذه هي الحياة؟ هل من المفترض أننا عشنا حياتنا هكذا؟ كنت أعتقد أن هناك بعد الحب حباً، لكن لم أرَه، لم أسمعه. هل رأيته أنت؟ هل لمسته؟
كان خيالاً داخلي… كان وهماً يا صديقي من صنع وحدتي، من صنع ألمي. بل من صنع أملي بالآخرين. إنه صنيعة طيبتي. الحب تاه من الزمن وليس منا. وصلنا حين انتهى عصره، وأصبحنا نصنعه لنحب أنفسنا، وغربتنا وعزلتنا.
لماذا أصبح أن تسمع صوت موسيقى عربية قادمة من بعيد ألم في القلب يجرك إلى أكثر من مجرد نوستالجيا بل تشعر أنك للتو واللحظة تشم رائحة أمك وتسمع دندنات والدك، حتى الريح إذا هزت الشجر في الطبيعة الخضراء أمامك، لن ترى سوى شجرات “الحاكورة” التي كبرت على طِينها قبل أن تسحقها حرب وراء اجتياح، واجتياح وراء حرب.
كيف يمكن لهذا اليوم أن يكون وداعياً أكثر مما هو عليه، إنه 29 شباط، لن يأتي إلا بعد أربعة أعوام، ولكنه كان يوماً وداعياً أكثر مما هو عليه فعلاً. ودعت نفسي المجنونة ووضعتها بين يدي الرحمن كي يرفق بها مما قد تركه البشر، إن عطب الروح لأشد من عطب الجسد، لن يكون هناك دواء ينفع أو صالة جيم تشدها، ودعت عيوب النفس علّ الزمن يكون كفيلاً بشفائها من عبث البشر.
إن أصعب ما قد يقابله الإنسان حين يعاني من هجرة الآخرين أنّ يرى عيوبه فجأة، تقف أمامه كمارد كبير، لقد ضحكوا علينا حين قالوا إن جهاد النفس هو أن تقاوم مغريات الدنيا، إن جهاد النفس لهو أصعب من ذلك فهو أن تقاوم ضعفك ومشاكلك، أن تقاوم الشك والعزلة، ورغبتك في السيطرة على من تبقى من حولك، إنه ليس سيطرة بمقدار ما هو خوف. إني أبرر نفسي من جديد. هي سيطرة اسمها سيطرة، تملك. أؤمن أننا خلقنا طلقاء ولكن حين تأتي كي تطبق إيمانك على من تحب يصبح صعباً بل مستحيلاً فأنت تريد أن تضعهم في قلبك، تخبئهم بين عيونك، تخاف عليهم من كل شي وأي شي، والنتيجة التي كنت تخاف منها في البداية تحدث. يطيرون بعيدا عنك. يهزمونك، بل تهزم نفسك.
هل تتذكر كيف كنت في 29 شباط الماضي أي قبل أربعة أعوام، مثلاً، هل السعادة كانت أكبر؟ بدوت أكثر شباباً؟ أكثر آماناً، تشعر بالاطمئنان؟ هل كنت مطمئن أكثر من هذه اللحظة، هل تعرف من أنت اليوم؟ هل استيقظت من الحلم؟ أقصد من الكابوس بعد… يا ترى كم بشراً آذيت؟ كم بشراً خسرت؟ كيف جرحت الآخرين؟بمقدار ما فعلوا لك؟ أم أقل؟
كيف ليوم في شهر اخترعه البشر، فالتاريخ لا يعني شيئا في الزمن كأن تحاول أن تضع البحر في إطار. كيف ليوم كهذا أنّ يكون حاسماً إلى هذا الحد.
كيف يمكن أن تكرهك إلى هذا الحد، أن لا تعد تحبك؟ نعم أقصد نفسك، حتى لو كان ما ترسب لديك من فعل الآخرين، من خياناتهم المتعددة في الصداقة والعمل والحب. ليس هناك أسهل من أن نخون “العشم”. لا أجد كلمة توازيها حميمية بالفصحى. ملعون “العشم” يا صديقي. كما أنه ملعون هو الانتظار.
انتظار أن تقول لنا الأيام أننا كنا على حق. انتظار “قد يفتقدنا من هجرنا”، كما هو ملعون الأمل، أمل أن نعود إلى لحظة الحب الأولى حين كان كل شيء يبدو متحققاً ومنسجماً.
ليس الطريق إلى البيت أجمل من البيت. بل ما هو أجمل منهما أن تتخيل البيت. إنه الخيال قاتلنا، ذابحنا. خيالنا الطيب المسكين.
ذات مرة سمعت صديقة إيطالية كانت حينها تكبرني بعقد من العمر تقول لحبيبها “لستُ كلبتك”، لم أفهم جيداً، شعرت أنها تبالغ. الآن في عمرها. أشعر بالكلبيّة التي قد يحولك إليها الأمل والعمر والحب، نحن كلاب الأمل والعشم ولو مر علينا عشرات من ذاك اليوم الشباطي الأخير.
لماذا لا تتحقق الأماني يا صديقي؟ لا أجد الإجابة سوى أننا خارج زماننا، وخارج مكاننا وخارج ذواتنا. إلا أننا في الحين ذاته لأول مرة ندركنا جيداً. نعرف من نحن. هذه اللحظة بالغة القسوة إلا أنها بالغة الشفاء.
في صحة “العشم” والحب يا صديقي..