لقراءة المقالة من أولها… هنا
٦- سَيرورة بناء دولة الاضطهاد/القمْع
تطور هذا الواقع والوعي القومي في سياق سيرورة تاريخية بدأت مع الموجات الثلاثة الأولى (وخاصة الثانية والثالثة) من المستوطنين المدفوعين أيديولوجيًا والذين على الرغم من قلة عددهم نسبيًا إلا أنهم أصبحوا قادة فكريين وسياسيين ليشوڤ (الجالية اليهودية في فلسطين قبل قيام الدولة الإسرائيلية عام 1948)، وبعد ذلك لدولة إسرائيل في عملية نموها المتزايد من خلال تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين واللاجئين اليهود. فقط أقلية من المهاجرين يمكن اعتبارهم مستوطنين بالمعنى الصحيح للاستيطان لحظة وصولهم إلى فلسطين، إما من الناحية الإيديولوجية أو الاجتماعية. لكن الغالبية العظمى من هذه الكتلة من المهاجرين واللاجئين اليهود تبنت عاجلًا أو آجلًا الفكر السياسي للمستوطنين واتبعت قيادة المستوطنين المؤسسين.
من المهم إدراك أنه وعلى النقيض من موجات الهجرة الثلاثة الأولى، فقد وصل المهاجرين الجدد إلى فلسطين (لاحقًا إسرائيل) لأنه لم يكن لديهم مكان آخر ليذهبوا إليه وليس بسبب الجذب الأيديولوجي الاستيطاني-الاستعماري والذي ميز الهجرات السابقة. صارت هذه القومية المبنية حديثًا بقمعها المنهجي للعرب الفلسطينيين، أمة اضطهاد وقمع وإلى حد كبير، مُتبعةٍ خُطى الولايات المتحدة في تعاملها مع السكان الأصليين والأفارقة الأميركان في أميركا ومع السكان المكسيكيين بعد عام 1848. الفرق الرئيسي تمثّل في أن الفلسطينيين المُضطهَدِين كانوا قادرين على التشكيك في شرعية الهيمنة الصهيونية أكثر من الأمريكيين الأصليين والعبيد السود وأحفادهم المضطهدين والمكسيكيين المحتلين فيما يتعلق بالسيطرة الأنجلو-ساكسونية البيضاء في القارة الأميركية الشمالية.
كان من بين أهم أسباب هذا الاختلاف مع التجارب الأخرى: وجود الفلسطينيين داخل العالم العربي الواسع (إذ شكّل الأمر مصدر دعم شعبي واسع النطاق للفلسطينيين، بالإضافة إلى خيانة الطبقات الحاكمة العربية وقادة الحكومة) ونجاح القادة الفلسطينيون (نجاح محدود ولكن حقيقي) في استخدام الحرب الباردة لوضع قضيتهم في جدول أعمال العالم، وتأسيس إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة والغرب (وأيضًا الدعم السوفييتي في سنواته القليلة الأولى) في فترة ما بعد الحرب حيث كانت القوى الثورية المعارضة للهيمنة الغربية تتزايد بسرعة ويزيد معها تعاطفها مع القضية الفلسطينية في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا.
أدرك بن غوريون أنه وبحلول مطلع القرن العشرين، كانت أقلية فقط من اليهود في بولندا وأوروبا الشرقية تعتبر نفسها صهيونية. فقط أقلية صغيرة من يهود أوروبا الشرقية شكّلت فيما بعد أكبر عدد من السكان اليهود في العالم، هاجروا إلى فلسطين في أوائل عشرينيات القرن العشرين. يُشير زكاري لوكمان في كتاب «رفاق وأعداء: العمال العرب واليهود في فلسطين 1906-1948»، أنه من حوالي 2.4 مليون يهودي غادروا روسيا القيصرية وأوروبا الشرقية بين عامي 1881 و1914، ذهب 85 بالمائة منهم إلى الولايات المتحدة و 12 بالمائة ذهبوا إلى دول أخرى في نصف الكرة الغربي (معظمهم إلى كندا والأرجنتين) وإلى أوروبا الغربية وجنوب إفريقيا. أقل من 3% منهم توجهوا إلى فلسطين ونسبة كبيرة من هؤلاء كانت فلسطين محطة مؤقتة لهم في طريقهم غربًا.
كانت الحركة الصهيونية حركة اجتماعية وسياسية ذات يمين ويسار ووسط متباين، وعلى الرغم من التوجه السياسي لها وهرميتها من أعلى إلى أسفل للقادة الصهاينة الرئيسيين مثل ثيودور هرتزل وذلك لإشراك القوى الإمبريالية الحاكمة في إبرام الصفقات لتحقيق الأهداف القومية، نظمت الحركة عدة موجات هجرة من اليهود إلى فلسطين تسمى «عليوت» (جمع «علياه» بمعنى «يرتقي» بالعبرية لغويًا، واصطلاحيًا بمعنى «الحج» أو «الهجرة إلى إسرائيل»، وفقًا للتقاليد الدينية اليهودية التي تأمر اليهود بزيارة المعبد في القدس ثلاث مرات في السنة). حصلت العلياه الأولى بين عامي 1881 و1903 وتألفت من حوالي 25,000 إلى 35,000 يهودي من أوروبا الشرقية واليمن.
وكما أشار الباحث غيرشون شافير في كتابه «الأرض والعمل وأصل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني 1882-1914» والباحثان يوآف بيليد وهوريت هيرمان بيليد في كتابهما «تديين المجتمع الإسرائيلي The Religionization of Israeli Society» كان الهدف من العلياه الأولى هو استيطان الأرض من خلال المزارع المملوكة للقطاع الخاص والمكتفية ذاتيا والتي استأجرت عمالًا زراعيين فلسطينيين ذوي خبرة وبرواتب منخفضة. لكن هذا النموذج فشل لأنه في ذلك الوقت لم يكن لدى الحركة الصهيونية الموارد المالية لشراء أراضٍ للمستوطنين الوافدين حديثًا، خاصة مع ارتفاع أسعار الأراضي بسبب الطلب الصهيوني عليها، ولأن الأرض لدى الصهاينة كانت تُباع بيعًا قانونيًا لغير اليهود.
أما العلياه الثانية فقد حصلت بين عاميّ 1904 و1914، إذ نظّم حوالي 35,000 يهودي من أوروبا الشرقية مجموعات كيبوتز وموشاڤ للعمل في الأرض. غادر العديد منهم الأرض لاحقًا وفقا لغيرشون شافير، وبقي حوالي 10,000 فقط من مهاجرين العلياه الثانية كعمال زراعيين. ومع ذلك، تركت هذه العلياه إرثًا تاريخيًا مهمًا من خلال توفير عناصر حل للصعوبات التي واجهت موجة العلياه الأولى والتي قامت على أساس فكرة المستوطنات التعاونية العاملة لحسابها الخاص على أراضٍ لا يمكن التصرف فيها والمملوكة وطنيًا والممولة من الموارد المالية العامة.
أدى هذا النهج الجديد أيضًا إلى «الاستيلاء على الأراضي» من الفلسطينيين واستبعادهم من الأراضي التي يملكها ويسيطر عليها اليهود. كما أرسى الأساس لـ «سيطرة العمالة اليهودية» حيث قُلّلت وخفضت أعداد العمالة الفلسطينية عندما لم يُستطع التخلص منهم تمامًا ومن مشاركتهم الاقتصادية، وهو وضع مشابه لمعاملة الأمريكيين الأصليين في الولايات المتحدة. كانت عمليات «الاستيلاء» مصدرًا للعديد من الاحتكاكات والصراعات والأعمال العدائية التي تلت ذلك مع الفلسطينيين، وهي عملية مُفصّلة بالكامل في العمل السابق الذي استشهدت بهِ لزكاري لوكمان.
حصلت العلياه الثالثة بين عامي 1919 و1923 باستقرار حوالي 40,000 يهودي على الأرض باتباع النهج الجماعي للعلياه الثانية. حدث ذلك في وقت كانت فيه القيادة الصهيونية وبتشجيع من وعد بلفور من المملكة المتحدة عام 1917، أكثر التزامًا بشراء الأراضي والنشاط الاستيطاني في فلسطين، الأمر الذي جعل من الممكن للأغلبية الساحقة من المشاركين في المجموعة الثالثة البقاء في المستعمرات الزراعية وفي فلسطين.
تناسب هذه «العليوت» الثلاثة الأولى النموذج الكلاسيكي للمستعمرات الاستيطانية، مع صعوبات عديدة مستمدة في الغالب من الخلفية الحضرية للمهاجرين ومستوى المعيشة الأعلى الذي عاشوه في بلدانهم الأصلية مقارنة بالسكان الفلسطينيين المحليين في المناطق الريفية السائدة. جاء القادة الرئيسيين ليشوڤ وفيما بعد لدولة إسرائيل من العلياه الثانية والثالثة، مثل بن غوريون (العلياه الثانية) وغولدا مائير (العلياه الثالثة). لقد شكلت العليوت المؤسسات الرئيسية للقومية الناشئة.
كانت «العليوت» الثلاثة الأولى أيديولوجية: نتيجة اختيار واعٍ لـ «حل المشكلة اليهودية» من معاداة السامية في أوروبا من خلال الهجرة والاستيطان في فلسطين، في وقتٍ كانت هناك بدائل أخرى، مثل الهجرة إلى الولايات المتحدة -إذ كان ذلك ممكنًا حتى تشريعات عاميّ 1921 و1924 والتي قيدت الهجرة بشدة من أوروبا الشرقية- أو البقاء ومحاربة معاداة السامية في أوروبا نفسها من خلال الانضمام إلى الأحزاب/المنظمات الاشتراكية مثل حزب البونديين اليهوديّ. تضمن خيار الاستقرار في فلسطين الصهاينة الذين اعتبروا أنفسهم اشتراكيين ولكنهم وعلى النقيض من البونديين، قرروا عدم خوض النضال من أجل مجتمع اشتراكي في أوروبا يمنح اليهود حقوقًا مدنية وسياسية كاملة واستقلال ثقافي وسياسي في سياق طبقة عاملة مُتحررة سواء يهودية أو غير يهودية.
كان وضع ما يسمى بالـ «عليوت» مختلفًا. لسبب واحد؛ معظم تلك الهجرات اللاحقة لم تشمل غالبية من المستوطنين من حَملة الأيديولوجية. بحلول الوقت الذي حدثت فيه العليوت، تقلصت بدائل الهجرة بشكل كبير واختفت في نهاية المطاف، لدرجة نقل عدد كبير جدًا من الناجين اليهود من الحرب العالمية الثانية في أوروبا إلى مخيمات للنازحين بعد عام 1945، إذ لم ترغب أية دولة بالسماح لهم بدخول حدودها.
نُظمت الهجرة إلى الولايات المتحدة من عام 1924 إلى عام 1965 من خلال نظام الحصص والذي حد بشكل كبير من عدد المهاجرين من أوروبا الشرقية. هاجر يهود أوروبا الشرقية إلى العديد من البلدان المختلفة خارج الولايات المتحدة. إذن، فليس من المستغرب أن يهاجر عدد كبير منهم – حوالي 50,000- إلى فلسطين بين عاميّ 1924 و1925، مُشكلين بذلك موجة العلياه الرابعة، وكانوا مجموعة من المهاجرين غير المؤدلجين ولم يكونوا مستوطنين استعماريين صهاينة. أما العُلياه الخامسة بين عامي 1929 و1939 فقد كانت تختلف عن الثلاثة الأولى لأنها حدثت في سياق وصول النازية إلى السلطة والإغلاق المستمر للولايات المتحدة في وجه هجرة يهود أوروبا الشرقية (أو أي عرقية أخرى وقتها).
لقد كانت هجرة اليهود إلى فلسطين في تلك الفترة هربًا إجباريًا ولم تكن خيارًا أيديولوجيًا أو سياسيًا، إذ وصل 35,000 لاجئًا يهوديًا إلى فلسطين عام 1933 (حوالي ثلاثة أضعاف العدد من العام السابق)، ووصل أكثر من 45,000 في عام 1934 وأكثر من 65,000 في عام 1935، وفقًا لسيغف في كتابهِ. تجاوزت أرقام المهاجرين إلى فلسطين خلال تلك السنوات الثلاث فقط الأعداد الكُلية لموجات العليوت الأيديولوجية الثلاثة.
كان بن غوريون براغماتيًا للغاية ووصل إلى درجة الانتهازية في حالة رغبة اليهود الألمان بمغادرة ألمانيا النازية. توصلت قيادة يشوڤ إلى اتفاقية هعڤراه مع الحكومة النازية في أغسطس 1933، حيث سُمح لليهود بالهجرة من ألمانيا إلى فلسطين. أفادت هذه الاتفاقية ألمانيا ماديًا لأنها سهَّلت الاستيلاء على الممتلكات التجارية والسكنية اليهودية تسهيلًا كبيرًا، وهذا على الرغم من السماح للمهاجرين اليهود الألمان بأخذ بعض من ممتلكاتهم معهم. عارض عدد كبير من اليهود هذه الحركة، وكانت معارضتهم مُبررة، بما في ذلك الصهاينة اليمينيين بقيادة زئيف جابوتنسكي، باعتباره انتهاكًا للمقاطعة الدولية لألمانيا. وعلى الرغم من كل الاعتراضات، هاجر حوالي 60,000 يهودي ألماني إلى فلسطين بين عامي 1933 و1939.
كان العامل الأكثر أهمية هو هجرة اللاجئين اليهود الناجين من الهجوم النازي إلى فلسطين، إما من مئات الآلاف من اليهود البولنديين الذين نجوا من المحرقة (معظمهم في الاتحاد السوفييتي والأراضي التي يسيطر عليها السوفييت) أو أولئك الذين وصلوا إلى مخيمات النازحين. لم يكن متخيلًا بالنسبة لهؤلاء الناجين التفكير في العودة إلى بولندا، سيما بسبب موجة معاداة السامية والمذابح التي كانت تحدث هناك، سواء خلال الحرب كما في حالة بلدة يدفابنيه Jedbwane في عام 1941 أو بعد الحرب كما حصل في كراكوڤ في 11 أغسطس 1945، وجيشوف وخاصة كيلسي في عام 1946. لم يكن هناك مكان آخر يريد استقبالهم ، لذا كان خيار الوصول إلى فلسطين (أو إسرائيل بعد عام 1948) قد خفف من مأساتهم.
ولكن القادة الصهاينة كانوا يعرفون حق المعرفة واستنادًا إلى تقارير كانوا قد تلقوها من عملائهم الذين يروجون وينظمون هجرة اللاجئين اليهود إلى إسرائيل في مخيمات النازحين أن الغالبية العظمى من هؤلاء اللاجئين كانوا ليفضلوا الهجرة إلى الدول الرأسمالية المتقدمة وخاصة الولايات المتحدة لو سمحت لهم الحكومة الأميركية والحكومات الغربية بذلك. (حسب سيغيف، منذ صيف عام 1945 وحتى خروج البريطانيين من فلسطين عام 1948، توجّه أكثر من 70,000 من هؤلاء اللاجئين اليهود إلى فلسطين عبر 65 معبرًا، على الرغم من أن عدد الذين وصلوا بالفعل إلى فلسطين غير معروف لأن معظمهم اُعترِضوا وأُرسلوا إلى قبرص، ولكن خلال عام 1948 وصل أكثر من 120,000 مهاجر يهودي إلى فلسطين.
شكلت وجهة نظر بن غوريون السلبية عن هؤلاء المهاجرين واللاجئين الجدد مفارقة كبيرة، لأنه اعتمد عليهم في نجاح مشروعه القومي الصهيوني. بدونهم وبدون المحرقة التي نجوا منها لما كانت دولة إسرائيل لتقوم. بدونهم، كان وعد بلفور البريطاني لعام 1917 والذي وعد بإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي، ليبقى وثيقة غير مجدية صدرت عن قوة عالمية متدهورة بالفعل. كانت بريطانيا العظمى مستعدة جدًا للتراجع عن وعود إعلان بلفور، كما حصل في كتابها الأبيض لعام 1939 والذي حد بشدة من الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
عند الحديث عن الهجرة الجماعية لليهود من الدول العربية مثل المغرب واليمن في الخمسينات، فقد حصل الجزء الأكبر منها بعد قيام دولة إسرائيل وتعزيز وجودها. كان لهذه الهجرة علاقة بقوى وعوامل «الجذب» التي نظمتها الدولة الإسرائيلية أكثر من عوامل «الدفع» في العالم العربي، مثل العداء ضد لليهود والذي أثارته تقريبًا ردود الفعل القومية العربية على النكبة الفلسطينية.
خِتامًا، من المهم ملاحظة أن المكوّن الاستعماري الاستيطاني للقومية الإسرائيلية قد عُزِّز من خلال النوع الجديد من الأيديولوجية والممارسات اليهودية والتي نشأت بعد الانتصار الإسرائيلي في حرب عام 1967 والتوسع الإقليمي اللاحق، خاصة في الضفة الغربية. ولكن القومية الإسرائيلية تبلورت عند نشأتها متتبعة مسارًا لا يختلف كثيرًا عن مسار الولايات المتحدة والتي بدأت بالاستعمار الاستيطاني البيوريتاني ثم تطورت لاحقًا إلى دولة قومية تتبع سياسة عنصرية لطرد الأمريكيين الأصليين.
من الواضح أن التوسع المستمر في الضفة الغربية وتوطيد الحكم الإسرائيلي فيها بوصفها دولة مُضطهِدة جعل «حل الدولتين» حل غير قابل للتطبيق. سيتعين إقامة الدولة الفلسطينية المفترضة على أجزاء صغيرة متقطعة من الضفة الغربية، بصرف النظر عن حقيقة أن هذه «الدولة» الفلسطينية لن يكون مقدّرًا لها أن تكون ذات سيادة فعلية، ولن يكون لديها قوات مسلحة خاصة بها وسوف تكون تحت إشراف إسرائيلي. أخيرًا وليس آخرًا، لن يعترف أي اتفاق مع إسرائيل في الوقت الحاضر لإقامة دولة فلسطينية بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ما هو معروف الآن باسم «إسرائيل» إذا اختاروا ذلك (اللاجئون الفلسطينيون).
لقد زادت السيطرة العسكرية الحالية على الضفة الغربية وقطاع غزة التناقض المُستمر بين الديمقراطية والصهيونية، وهذا بسبب جهود المؤسسة الصهيونية في الحفاظ على التعريف العرقي والديني لإسرائيل وبالتالي الحد من عدد العرب -وهي رغبة صرّح بها جليًا ديڤيد بن غوريون. في ضوء الغياب العملي لحل الدولتين على يد إسرائيل، لا يمكن لدولة الظلم والاضطهاد الصهيونية (بحكم تعريفها) أن تقبل البديل المرغوب الوحيد المتبقي: دولة واحدة علمانية وديموقراطية وثنائية القومية تضم إسرائيل الخط الأخضر والضفة الغربية وغزة مع المساواة الكاملة بين العرب الفلسطينيين واليهود. لا يمكن لدولة مثل دولة إسرائيل أن تكون ديمقراطية ويهودية، خاصة عندما يكون العرب الفلسطينيون أو سيصبحون قريبا الأغلبية داخل تلك الأرض.
سيتوجّب على هذه الدولة ثنائية القومية المساواة بين جميع الثقافات الوطنية الموجودة، وبما أنها ستكون دولة علمانية، فستعترف أيضًا بالمساواة بين جميع الأديان. سيكون للدولة الديمقراطية ثنائية القومية سياسة هجرة غير تمييزية، نأمل أن تُعطى الأفضلية فيها لضحايا الاضطهاد، سواء كانوا عربًا أو يهودًا.
وعلى الرغم من أن مثل هذه الدولة الديمقراطية ثنائية القومية والعلمانية ستشكل تقدمًا كبيرًا ومختلفًا عن الوضع الحالي، إلا أنها ستعاني من مشاكل عَسيرة مثل الاختلافات الرئيسية في التنمية الاقتصادية ومستويات المعيشة بين العرب واليهود إذ ستواجه الكثير من الصعوبات في القضاء عليها حتى مع أكثر برامج التعويض والإصلاحات سخاءً على المدى القصير -على الأقل. بطبيعة الحال، أي تطور اشتراكي في تلك الدولة المتخيلة سيخفف من حدة هذه الصعوبات تخفيفًا كبيرًا.
تثير ترجمة سيغف لديڤيد بن غوريون أفكارًا حاسمة حول مصير الصهيونية. لقد نجحت الحركة التي وعدت بحل «المسألة اليهودية» في خلق أسبرطة حديثة تتزايد فيها حالة اللاديموقراطية وهي في تحالف وثيق مع أعتى قوة إمبريالية. وبعيدًا عن كل شيء، فإننا نشهد نموًا مقلقًا لمعاداة السامية في أوروبا والولايات المتحدة مرة أخرى، ولم تفعل إسرائيل أي شيء لمكافحتهِ بشكل فعال، بل نراها تعزز من معاداة السامية، فهي تعبر وبكل صراحة عن تعاطفها مع فيكتور أوربان، الزعيم المعادي للسامية في حكومة المجر. لا يمكنك بناء نظامٍ ديمقراطي مستنير لكل الناس تحت الحكم الإسرائيلي القائم على أساس قمع القومية فلسطينية التي أُجْبِرَت على دفع ثمن محرقة اليهود. محرقة لا يتحملون فيها أية مسؤولية أو انخراط لا من قريب ولا من بعيد.
هوامش