كتبها هيربرت دينيرت، ونشرت للمرّة الأولى عام ١٩٦٤ في The Germanic Review, May.
لوقت طويل اعتبِرَت حكاية كافاكا “أمام القانون Before The law”، الواقعة في فصل “في الكاثدرائية”، مركزَ رواية كافكا غير المنتهية “المحكمة The Trial”. ويمكن اعتبارها وفق شروطٍ معيّنة مفتاحيةّ لعمل كافكا بكلّيته.
عولِجَتْ القصة من النقّاد بإسهاب، وكانت تفسيرات فيلهلم ايميريش وهاينز بوليتزر، ومؤخراً دراسة إنجبورج هينيل اللامعة والشاملة من بين التفسيرات الأكثر عمقاً. ورغم اختلاف هؤلاء النقّاد في العديد من القضايا، إلّا أنّ آراءهم لا تتعارض كلّياً، ولذلك سيكون من السذاجة القول أنّ الصفحات التالية ستقترحُ شيئاً مختلفاً جداً بحيثُ لا يشتركُ مع أيّ شيءٍ من التفسيرات التي قُدِّمَتْ من قبل. ومع ذلك، أعتقدُ أنّه بالتخلُّص من خطأين ابتلِيَ بهِما النقّاد السابق ذكرهم، يمكن لهذه المقالة الإشارة إلى جوانب إضافيّة ومختلفة. الخطأ الأوّل، أشعُرُ أنّه افتراضُ الذّنب لدى كـ K، والذي لا أستطيعُ رؤيته. أمّا الآخر، فهو الأخذُ، جزئياً، بأقوال الكاهن بوصفِها قراءات صحيحة للحكاية، في حين أنّ الكاهن يُصرُّ على أنّه يُعدِّدُ آراء مختلفة لا أكثر (p. 200).
للوهلة الأولى، القصّة تبدو بسيطة وغامضة في الآن ذاته. والحبكة تبدو شارحة لنفسها بحيثُ تمتنع على أيّة تفسيرات أخرى. رجلٌ يحاولُ بلا فائدة التمكّن من الدّخول، ويقضي بقيّة حياته منتظراً تصريح الدّخول الذي لا يحصل عليه أبداً. ورغم منطقيّة الفعل، فلا يبدُو، في إطاره، مُطابقاً لواقعنا على الإطلاق. وكذلك لا نستطيع التعرُّف على الشخصيّات؛ فالرجل الريفيّ حُدِّدَ ليكون تجسيداً لرغبة حثيثة، واقتصر الحارسُ وظيفياً على كونه عائقاً، بينما بقيت هويّة القانون مخفيّة. ومع ذلك، بمجرّد قبولنا بنوع الواقع المُعرَّف بهذه التحديدات، لا يبدو أنّ الحكاية تطرحُ أيّ مشكلة رغم وضوح قصديّتها في أن تكون حكايّة وعظية. وذلك يبدُو جليّاً من موقعها نفسه في سياق “المحاكمة”. ومن السّهل التعرّف على بعض التقنيّات التي تُشخِّصُ الموعظة ( مثلاً، غياب أسماء مناسبة، التركيز على الحبكة، وطبيعة النهاية). ورغم أنّ تفاصيل الحبكة شارحة لنفسها فمؤكّد أن القصّة ككلّ تتطلّبُ تأويلاً. إن كانت “حكاية” فلا بدّ أنها تعني شيئاً، إذن، ما الذي تعنيه؟
الشّائعُ في دراسة كافكا هو النّظر إلى أعماله بوصفها استعارة رمزية، ومن ثم البحث عن معنى ثانٍ متزامنٍ تحت سطحِ القصّة الظاهرة. معنى ضيّق النطاق، قابل للتطبيق على مشكلة واحدة، طبقة واحدة، لحظة تاريخيّة، وهكذا.
في محاولة الكشف عن هويّة الحارس، الرجل الريفيّ والقانون، يمكنُنا البحث عن شيءٍ يلائم نمط الحبكة؛ مثلاً، الإنسان في بحثه عن سعادة لا يحقّقها على الإطلاق، الإنسان في بحثه عن إله لا يتمكّن من فهمه، الفنّان في بحثه عن إلهامٍ أو اعترافٍ عامّ لا يجيء على الإطلاق.
يمكن لعدد من القرّاء بمخيّلة واسعة التوصّل إلى أكبر عدّد ممكن ممّا يمكن عدُّه مفاتيحاً للقصّة، ولكن كيف لنا معرفة المفتاح الصّحيح؟ بالطّبع، ذاك الذي يبدو أشدّ ملاءمةً. ولا حاجة بي على ما أتخيّل بالإشارة إلى أنّ هذا ليسَ بتأويلٍ على الإطلاق ولكنّه مجرّد لعبة تخمين غير منضبطة إلى حدّ ما، ومع ذلك مسلّية. ولن تكون قائمة على الحكاية نفسها، بل فقط على نمطها، على بعض معرفتنا وعلى هوى خيالنا. وعلى أيّة حال، سنكون في حالة نظر إلى ما وراء القصّة بدلاً من النّظر فيها.
والبديل هو تحليل دقيق لما يبدو حبكة بسيطة، ويبدو هذا النهج أكثر ملاءمة بما أنّه الشيء نفسه الذي اتّبعه كافكا ولو ظاهرياً مع مُستمعه.
يعلَنُ كـ، الشخصية الرئيسيّة للمحاكمة، ذات صباح معتقلاً من قبل رجالٍ لم يلتق بهم من قبل أبداً، ولكنّه يظلّ حرّاً للتصرّف كيفما كان من قبل. يتمُّ إعلامه أنّ إجراءات محاكمته جارية، ولكن دون الكشف لا عن الجريمة المزعومة ولا عن هويّة متّهميه. والقضيّة مبنيّة على قانونٍ لم يسمع به كـ من قبل. ويصبح طموحه الأوحد في النّهاية مقابلة المحكمة الغامضة وجهاً لوجه لغاية تبرئة نفسه. في يومٍ ما، في إطار جهوده عديمة الجدوى، وبعد قضائه مدّة من الوقت منتظراً في العتمة في كاثدرائية فارغة، يلاحظ فجأة منبراً خافت الإضاءة، ومنه يُخاطبهُ كاهن بما هو نصّ الحكاية. وتماشياً مع التقليد الذي يتبع قراءة وتأويل النصّ المقدّس، ينخرطُ كـ والكاهن في نقاشٍ حول أهميّة الحكاية. وككلّ مجهودات كـ عديمة الجدوى الأخرى، لا يقوده النقاش إلى شيء ولا حاجة بنا إلى توصيف تفصيليّ.
مع ذلك، من المهمّ ملاحظة اقتناع كـ الراسخ ببراءته وانشغاله بتبرئة نفسه ممّا لا بدّ أنّه اتهام خاطئ لدرجة عدم استطاعته النّظر إلى الحكاية إلّا بمنظور الخطأ والصّواب. وكان قد نسي، أو بالأحرى لم يفهم أبداً ملاحظة الكاهن الغاضبة التي سبقت قراءته:”ألا تستطيع النّظر أبعد بقليل؟ (p. 254). ردّ فعله الفوريّ هو أنّ الرّجل الريفيّ قد خُدِعَ من قبل الحارس. فيردّ الكاهن أنّه أخبره القصّة بنسختها الرسميّة، فهي تنتمي –ضمنياً، إلى “النصوص المقدّسة” للمحكمة حيث تجري محاكمة كـ السرّية. إنّه النصّ الرسميّ إذن، والإتيان على ذكر الخداع Deceit، مجرّد خطأ، لأنّ كلمة “خداع” لا توجد ببساطة. ومرة تلو الأخرى، بالعودة إلى الحكاية وبالوزن السّاحق للمنطق تُرفَضُ حُجج كـ. ولكن تحديداً في اللحظة التي يبدُو فيها القارئ وكـ قريبانِ من الاقتناع ببراءة الحارس، يتبيّن أنّ الكاهن كان يتبع نقاشاً أكاديمياً منهجياً صارماً، ولم يُلزِمْ نفسهُ به ولكنّه فقط أبرَزَ رأياً من عديد الآراء المختلفة. وفوق ذلك، يوضّح بتفصيلٍ أنّ هذه الآراء غير ذات صلة لأنّ النصّ نفسه غير قابل للتغيُّر مهما تكن التأويلات والآراء نفسها غالباً “ليست إلّا تعبير يأس من هذه الحقيقة”(p. 260). وكما لو أنّه يثبِتُ كم هو موضوعيّ وغير مُلزَمٍ بشيءٍ، يستمرُّ في طرح وجهة نظر تبيّن أنّ الحارس من تمّ خداعه. ومرّة أخرى تكون الحجّة شديدة المنطقيّة ومُتقنة البناء لا يستطيع حتّى كـ رفضَ خلاصتها. مع ذلك يظلّ مصرّاً على عدم التخلّي عن قناعته الأولى بأنّ الرجل الريفيّ كان ضحيّة خداع ما. إن كان الحارس بالفعل مخدوعاً (مثلاً إن كان مُضلّلاً حول موقعه)، فلانخداعه لا بدّ آثار كارثيّة على الرجلّ الريفيّ؛ مخدوعاً أم غير مخدوع، في أفضل الأحوال هو غبيّ يجب تجريده من وظيفته. يردّ الكاهن بحجّته الأخيرة، بردّ فوريّ على نقطة كـ الأخيرة، أنّ النصّ لا يمنحنا الحقّ بالحكم على الحارس، ناهيك عن إدانته. كخادمٍ للقانون فهو أشدُّ علواً من الحكم الإنسانيّ؛ والشكُّ في استحقاقه سيتضمّنُ شكّاً في القانون نفسه. وهكذا يختِمُ الكاهن حجّته بدائرةٍ مغلقة. ومن البديهيّ أنّ كـ لا يستطيع الموافقة لأنّ ذلك سيعني أنّ كلّ شيء يقوله الحارس صحيح، وذلك لا يمكن أن يكون صحيحاً للأسباب نفسها التي بيّنها الكاهن سابقاً:”ليس على المرء اعتبار كلّ شيء صحيحاً”، يردُّ الكاهن:”على المرء اعتباره لا بدّ منه”(p. 264).
والآن نحنُ في ارتباكٍ تامّ. القصّة البسيطة لم تعد بسيطة. النقاش تقريباً أربعُ مرّات ضعف النصّ نفسه. وكالسّابق، ارتباكنا ينبعُ من فهم ما قيل ولكن عدم معرفتنا ما نصنع به. جزئيّاتُ النّقاش تبدو غير معيبة وسليمة تماماً، ولكنّ النقاش بكلّيته يبدُو أنّه لا يصلُ إلى أيّ خاتمة من أيّ نوع. والحكاية مع كلّ بساطتها، لا تبدو واضحة كفاية لفهمها بالقدر اللازم لإصدار الحكم. رغم أوّلية الحبكة، من الصّعب استيعاب إيحاءاتها. وذلك يتضمّنُ مُتعارِضان؛ السؤال البديهيّ من المُصيب ومن المخطئ لا يزال بلا إجابة.
في الأدب التقليدي، تُقال الحكاية لتوضّح نقطة معيّنة، لتعليم قاعدة ذهبيّة. إنّها سرد وعظيّ. وفي مأزقه الميؤوس منه، يتوقّع كـ. بعض الإيضاحات، ولو إشارة لما يُفترَضُ به فعله – ومؤكّد أنّ القارئ يتوقّع ذلك أيضاً. ولكنّ محاولته لتحليل ما يبدو أنّه حكاية قُصِدَ بها أن تكون له تثير الإحباط؛ فلا تحتوي الحكاية على قاعدة ذهبيّة، ولا تقترحُ سلوكاً معيّناً في سياقٍ معيّن. ويظهر، أنّها، ليست بالحكاية الوعظية على الإطلاق، بل إنّ وظيفة الحكاية الوحيدة والوحشيّة هي هزيمة الأمل الذي أحيته للحظة من قبل.
ومع ذلك لا يمكن لهذا أن يكون غاية قصّة قُدِّمَتْ بتلك الأناقة، ولسوء حظّ كـ، لا تُكشَفُ أهميّة القصّة حتّى نهاية الرّواية، بعد فوات الأوان. وبالنّظر إلى الوراء، يتبيّن أنّها كانت استعارة رمزيّة وكذلك حكاية وعظيّة. بحيثُ لم تكن إلّا تفسيراً محجوباً ومركَّزاً لحياة كـ نفسه. فالرّجل الريفيّ هو كـ. نفسه. وثمّة اختلاف وحيد: كـ يموتُ بشكلٍ عنيف، بينما يموت الرّجل الآخر بسبب الشيخوخة. ومع ذلك، ثمّة أهميّة بسيطة. فلا جدوى لحياة كهذه أكثر أهميّة من طريقة إنهائها في النّهاية. ألا يكون الرّجل الريفيّ “ميّتاً” عمليّاً منذُ لحظة تخلّيه عن كلّ شيءٍ فقط ليجلس بجانب بوّابة القانون؟ وألا يمكن القول الشيء ذاته عن كـ.، الذي يتخلّى عن سلوكه المعتاد في الحياة ليُكرّس نفسه بشكلٍ متزايد لخلاصه الشخصيّ؟
أيتعرَّفُ كـ. على الأقلّ إلى الصّلة في حكاية الكاهن؟ والإجابة هي “نعم” مؤكّدة. منذ أن كان هو نفسه يحاول الحصول على إذنِ وصولٍ إلى محكمة غامضة مراوغة، سيدافع غريزياً عن رجلٍ آخر في حالة موازية. إنّه يحاول إنشاء وضعيّة ما/أو من الصّواب أو الخطأ. ويقوم تأويله للحكاية على افتراض أنّ هناك معاييراً كالذّنب والبراءة، والواقع أنّه شديد الانشغال بتلك المعايير إلى درجة فشله في رؤية الأهميّة الحقيقيّة للحكاية. وتصوّره ينتهي عند النّقطة الحاسمة التي فيها تتحوّل القصّة إلى موعظة؛ إنّها لا تكترث بسؤال الصّواب والخطأ، ولا تُقدِّمُ أيّ اقتراحاتٍ لسلوكيّاتٍ قصديّة ما لغاية الوصول إلى غاية بعينها، بل هي تصوّر عبثية كلّ المحاولات. كلّ ما يفعله الإنسان محكوم بالفشل. أيّاً كان ما يُريدهُ يُفلِتُ منه. كلّ ما يفعلهُ ليُدافع عن قضيّته سيُحبَط. أيّاً كان ما فعله، كان الشّيء الخاطئ لفعله. إنّه حرّ ليكون قادراً على فعل ما يريد، ولكنّه السّجين البائس للإحباط الذي يُصيبُ كلّ ما يفعله. طُموحه لتحرير نفسه يقوم على وهم إمكانيّة الحرّية أصلاً. لديه هبة حريّة الخيار، ولكنّه يفتقر إلى القوّة اللازمة لتنفيذ قراراته. لا يكمنُ معنى قصّتنا في الشخصيّات بل في الفعل العامّ الذي يتحقّق بغضّ النّظر عن كلّ الشخصيّات تقريباً. الحبكة بأكملها إحدى تنويعات كافكا على ثيمته المركزيّة، وثيمته المركزية هي الإحباط Frustration. وما هو مُصوّرٌ العبثُ بذاته، كونيّ وبقابليّة للتطبيق غير محدودة، ولا يجب قراءته في عبث شخصيّة بعينها أو بتمثيل سرّي لمشكلة معيّنة.
لا يكفي أن يكون الإحباط هو ثِيمةُ القصّة الرّئيسة؛ فمحاولة كـ لتحليلها كذلك تُحبَطْ، وغاية وجودها في الرّواية زيادة إحباطُه. منشغلٌ حدّ العماء كـ بسخط عقليّته القانونية على ظُلمٍ بيّن وكذلك، في التحليل النهائيّ، تُضلِّله غريزة البقاء. وهو شديدُ الاقتناع بإمكانيّة تغيُّر الأمور إلى درجة إغفاله للرسالة الوحيدة التي تحملها القصّة له؛ أي، كلا، لا يمكن للأمور أن تتغيّر. وهو يفشَلُ في فهم الموعظة تحديداً لتأويله إيّاها في إطار مفهوميّ حول العدالة والظلم. وبفعله ذلك، يُسقِطُ مفاهيمه الخاصّة على السّرد بدلاً من التركيز على النصّ نفسه. وقد حاول الكاهن، منذُ البداية، التلميح إلى مغالطتهِ في إشارته أنّ كلمة “خداع” لا توجد. الحقيقة الأساسيّة، كلُّ ما هُناك ليُعرَفْ، موجودٌ في القصّة نفسها، أو كما أوضَحَ الكاهن: النصُّ غير قابل للتغيُّر. ويستندُ إدخال عنصر غريب [على النصّ] إلى الأمل العبثيّ بأنّ الحالة قد لا تكون ما هي عليه، وذلك، مرّة أخرى بكلمات الكاهن؛ تعبيرٌ عن اليأسِ من هذه الحقيقة. وتبقى القصّة غير مُقنعة فقط لأنّ كـ يفتقرُ إلى المنظور الملائم.
ولكن حتّى لو تعرَّف كـ إلى أهميّة القصّة، أكان ذلك ليساعده؟ والإجابة بالطّبع، “كلّا”. أيّا كان متّهموه فهم يُقيمونُ في حالٍ تعالٍ لا مُبالية. من وجهة نظرهم ثمّة اختلاف طفيف بين انعدام المجهود كُلياً وما بين قُدرات كـ المحدودة على التصرّف. مصيرهُ مُتعذّر النّظر فيه وسيكونُ نفسُهُ، تماماً مثلما كان الرّجلُ الريفيّ سيموتُ بالشيخوخة لو بقي في المنزل. وهنا، نحن أيضاً قطعنا الدائرة كاملةً. لم يكن خطأ مأساوياً عدم قُدرة كـ على إدراك القصّة، فمن غير المهمّ إنْ عُرِّفَتْ القصّة كحكاية وعظية أو لا، فهي لا تقترحُ أيّ فعلٍ وبالضّرورة، لم يكن كـ ليتعلّم شيئاً منها. في الحقيقة، فهي تقترحُ أنّ اللا فعل سيُساعد، ومعرفة ذلك أو عدمه لن يحدث أيّ اختلافٍ في مصيره النّهائيّ. القصّة هي مُلخَّصُ للرواية بأكملها، قُدِّمَت قرب النهاية؛ وهي موعظة ونبوءة في آنٍ واحد. صُورة الإحباط والاستحالة مُكتملة. هائلٌ ولا يُمكِنُ تصوّره تعقيدُ صراع كـ، ولكنّ السبب في ذلك حقيقة بسيطة مجهولة بالنّسبة إليه: ليسَ هُناك شيءٌ يمكنه فعله. أتساءلُ إن كان كافكا قد تصوّر بؤس الوجود البشريّ كُلّياً في محاكمته بشكلٍ أكثر فاعليّة من إدخال موعظة لا يحتاجُ بطل الرّواية إلى فهمها.
قضيّة كـ خاسرة منذُ البداية. عندما يُصرُّ على براءته يردُّ الكاهن:”ولكن هكذا يتكلّمُ المذنب”(p.253). ومن المؤكد أنّ قضيّته خاسرة إن كانت براءته دليل ذنبه. ماذا يُثبِتُ الاعتراف بالذنب؟ هذا مصيرٌ محدّدٌ سلفاً لا مفرّ منه. تُضافُ القسوة إلى الظلم بالأمل المتجدد والمحيّرة [المُعبّر عنهُ في القصة “ولكن ليس الآن”] والذي لا يتحقّقُ أبداً، محوِّلاً الفضيلة الكارديناليّة القديمة إلى وسيلة تعذيب. لا يعرفُ كـ أبداً تهمتهُ ولا يُقابل على الإطلاق مُتّهميه، وبعيداً عن العنوان فهُو لا يُسألُ أبداً للمثول أمام المحكمة. إنّه حرّ ليذهب أينما شاء. ولكنّ التأثير على محكمة لا يعرفُها يُصبِحُ طُموحه الأوحد رغم أنّه يعتبر نفسه بريئاً والقارئ كذلك لا علم له بجريمة ارتكبها كـ. كلّ خطوة يأخذُها يثبُتُ خطؤها. وما هو شديدُ الوضوح؛ الظّلام لا يمكن اختراقه إلى درجة أنّه غير قادرٍ على تحسَّس أثر أفعاله. في النّهاية يقُتلُ وهو يعرفُ أقلّ من أيّ وقتٍ مضى.
حالة التعقيد هذه والإحباط المطلق هي سمة أعمال كافكا كلّها. فالحبكة البسيطة ظاهرياً مُضلّلة. اهتمام كافكا بالتفاصيل [كما يظهرُ في الجدل الذي تبع القصّة] لهُ أثَرٌ تشويش بدلاً من توضيح. وقد أظهر إتقاناً أكبر لمنهجيّته التحليليّة في قصص قصيرة كـ فنان الجوع، جوزفين، الملجأ وغيرها. نحن مجبرون على الوصول إلى الخاتمة المُتناقضة والتي لا يُساعدُ التمعُّن على تبيُّنها بل يحجبُها. مرّة أخرى وأخرى نصطدم في أعمال كافكا بالحساب الدّقيق لكلّ الإمكانات، بالانتباه المُجهِدْ إلى كلّ وجهة نظر ممكنة، مما يخلُقُ تصوّراً واضحاً لكلّ تفصيل، ولكنّ الصورة الكلّية مشوّشة بشكلٍ ميؤوسٍ منه؛ وهكذا يُترك حتّى القارئ محبطاً.
يبقى السّؤال ما إن كانت رواية كالمحاكمة عملاً فنّياً عظيماً. تظهَرُ عبقريّة كافكا المثيرة للتقدير في قدرته على تصوّر وضعيّات جديدة دائماً، في التحليل التفصيليّ للمشاكل، وليسَ في البناء الشخصيّ للأشخاص الذي يواجهونها. ومع ذلك قد لا يكون الافتقار إلى بناء شخصيّات مؤثِّرة عيباً على الإطلاق. ربّما يكون كافكا قد تعمّد ذلك لغاية توجيه انتباه قرّائه بشكلٍ حصريّ تقريباً إلى الحالة التي تواجه الشخصيّات. أبطالهُ منخرطون في صراعٍ ضدّ مصيرٍ بلا وجه، هم أنفسهُم مُجرّد دُمى. وبالنّظر إلى أنّها حالة ربّما تنطبقُ على الجميع في كلّ الأوقات لا يمكن أن يكون هناك شخصيّات مميّزة تواجهُ ما يمكن تسميتهُ بمصيرها الخاصّ. إنّها الحالة النموذجيّة، حالة كونيّة. ومن وجهة النّظر هذه كلّ البشر متشابهون، لا يمكن تمييزهم، ذلك: الـ بِلا وجه Faceless. وهناك جانب آخرٌ مهمّ؛ بما أنّ أبطال كافكا ليسُوا شخصيّات من لحمٍ ودمٍ بالمعنى التقليديّ [ناهيك عن شخصيّات أقلّ حضوراً تُعرَّفُ بمجرّد وظائفها] فهي لا تتطلَّبُ تعاطفنا. لا يُحرّكُنا مصيرهم، لا نُشفقُ عليهم ولكن بدلاً من ذلك، نحن مرعوبون من قسوة القدر بشكل عام، بتعقيدات الوجود الهائلة والجهود المُحبطة. ويحلُ بدل الشّفقة والخوف، الشّللُ جرّاء المصير المحتوم. أيّ شخص يمكنه أن يكون هذا النّوع من البطل المأساويّ، لا لخطئه أو عيب في شخصيّته، ولا بمزيجٍ من الظّروف، بل ببساطة لمجرّد وجوده. وهكذا تتبيّن فعاليّة منهجيّة كافكا في إيصال [القارئ] إلى حالة كُلّية من اللاجدوى.
ومع ذلك، فالرّواية تتطلّبُ نطاقاً واسعاً وحمولةً واسعة مُقارنة بثيمةٍ استثنائيّة وبطريقة عمل محدودة. لا يمكنُ إنكارُ افتقار كافكا إلى الملحميّة ولا يجبُ تجاهل ذلك. أسلوبهُ أسلوبُ العقل القانونيّ المُسيطر، العبقريّ والمنطقيّ الذي يرى موضوعاً من كلّ زاوية ممكنة ولا يتوقّفُ عن خلقِ وضعيّات روائيّة تُظهرُ البطلُ مُصارعاً إيّاها بكلّ طريقة ممكنة. ولكنّ إبداعه يقتصرُ على عدد لانهائي من أحداثٍ متنوّعة؛ وهناك ثيمة واحدة وهي الإحباط واللاجدوى. ويمكن للمرء تلخيصُ المحاكمة بالقول: منذُ اعتقاله وحتّى يوم إعدامه، يحاول كـ عبثاً مقابلة متّهميه وجهاً لوجه. وكلُّ الرواية تتمحور حول “يحاول عبثاً”، وكلُّ فصلٍ روائيّ يتعامَلُ مع جانبٍ من جوانب [المحاولة العبثيّة]. لا المحاكمة ولا القلعة روايات بالمعنى التقليديّ؛ فكلّ واحدة تتكوّنُ من سلسلة من الحلقات المستقلة تقريباً. من المؤكّد أن انشغال كـ بالمحاكمة يتنامى، وتدريجياً يبدأ بتجاهل حياته العاديّة. وقد يتوقّع المرء تفسّخاً تدريجياً وكلّياً لقدراته الذهنيّة، ولكنّ انحرافه عن السلوك الطبيعيّ لا يكونُ عنيفاً كما هو الحال مع الضحيّتين الأخرتين، التاجر بلوك والمُحترَمُ الدنيويّ في الفصل الثالث الذي يفقِدُ رباطة جأشه تماماً لسؤاله سؤالاً بسيطاً. وحتّى نهاية الرواية تظهرُ درجة مدهشة من الخضوع من قبل كـ [على النقيض من مشهد الكاثدرائية، وقد تُعلّلُ “المفاجأة” بسبب طابع المحاكمة التجزيئيّ] تصوّره قادراً تماماً على التفكير العقلانيّ والنقديّ رغم أنّ ذلك، كما في حالة طبيب كافكا الريفيّ، نوع عديم الجدوى من التفوق. وبالتالي، حتى هنا ثمّة تغيير ضئيل، ومن وجهة النّظر هذه – وفقط من وجهة النظر هذه، فكلّ الجدل الأخير حول ترتيب ملائم لفصول الرواية لا معنى له تقريباً، فكلّها غير قابلة للتغيُّر لأنّها لا تتقدّم بالحبكة. تتقدّم الرّواية على طول مسارٍ ضيّقٍ تُحدِّده ُثيمةٌ واحدة فقط والفصولُ المختلفة هي تمثيلاتٌ لتلك الثيمة *.
عندما يختارُ كافكا طريقاً معاكساً؛ أي تكثيف رواية محتملة في قصّة قصيرة بدلاً من مُلاحقة المشكلة ذاتها عبر تنويعات لانهائيّة من لاجدوى مُتساوية تكون النّتائج هي روائع. “فنّان الجوع The Hunger Artist” (1922)، مثلاً، هي “رواية مكثّفة”. الموضوع مرّة أخرى الإحباطُ الكلّي، مأخوذٌ من كلّ زاوية نظر، ومُقدَّمٌ في ضوء كلّ ممكن. ولو كُتبت وفق ترتيب زمنيّ ووُسِّعَت إلى 300 صفحة لكانت ستكون رواية مثل المحاكمة. بدلاً من ذلك، فهي قصّة قصيرة عبقريّة. يبدو أنّ هذا النوع الأدبيّ هو الوحيدُ القادر على أن يكون المُلائمَ الأنسَبْ لعقليّة كافكا المُتفرّدة ومهارته التحليليّة. الأوّل يفقدُ سحرهُ في سياق قطعة نثريّة طويلة، بينما الأخير يميلُ للانحطاط إلى مجرّد لعبٍ ذهنيّ*.
جامعة دوك.
*تذييل؛ كنتُ صغيراً جداً آنذاك، في محاضرات لاحقة بناء على هذه المقالة، ربطتُ كافكا بتقليد “البيكاريسك/أدب المغامرات Picaresque Novel”، لأعتق نفسي!
ملحق
تختبرُ معظمُ شخصيّات كافكا الإحباط واللاجدوى بسبب طبيعة مُشكلاتهم ومحاولتهم التغلّب عليها.
يتوقُ فنّان الجوع إلى التقدير بسبب شيءٍ لا يستطيعُ إلَّا فعلهُ؛ الصّيام والأملُ باكتساب مصداقيّة بأداءِ أفعالٍ لا تُصدّق. لا أحد يُصدّقه لأنّ أحداً لا يستطيع مراقبته دون انقطاع لأربعة أيّام. فقط هو يمكنه أن يكون مراقباً راضياً لإنجازهِ الشخصيّ. ولكنّه يظلُّ غير راضياً لأنّه يعرفُ الحقيقة كاملة لدافعه، وهو أنّ الصيام، بالنسبة له، أسهلُ شيءٍ في العالم؛ حقيقة لا يكشفُها حتّى نهاية حياته.
تحوّل غريغور سامسا إلى حشرة عملاقة، واستمرّ يُفكِّرُ كالإنسان. ولكنّ عائلتهُ على وعيٍ فقط بهيئته الحيوانيّة، شهيّته وأسلوب حياته العامّ. ولا تُقنع الوسائل المتاحة لغريغور المتحوّل لإيصال عواطفه الإنسانيّة عائلته إلّا بأنّه لم يعد غريغور، بل إنّه حيوان.
جوزفين، فأرة ومغنّية، تُصرُّ على إشادة خاصّة بقدرةٍ تتشاركها مع البقيّة.
الضابط في مستعمرة العقاب يحاولُ التوصّل إلى دعم المُستكشف بأن يشرح لهُ روعة تقنيّة الإعدام والبدائيّة المُطلقة للنظام القانوني.
يسعى الحيوان في “الملجأ” إلى الأمان المطلق من خلال بناء شبكة معقّدة من الأنفاق بينما يُدركُ بشكلٍ غامض أنّه طالما بقي المخرج ضرورياً فسيظلُّ عرضة للخطر مهما كان البناءُ ذكيّاً تحت الأرض. والدرجة الأعلى من الأمان النسبيّ التي يُحققها الحيوان تُساوي عدم الأمان، النّشاط المتواصل، اليقظة الدّائمة والتبريراتِ المتواصلة التي لا تستطيعُ تهدئة مخاوفه.
أو المبعوث الإمبراطوري في طريقه إليك برسالة هامّة، ولكنّ المسافة والعوائق تجعلُ من وصوله إليك مستحيلاً. تجلسُ بجانب النّافذة وتتأمّلها.
في القلعة يتوسّلُ كـ إلى منظومة بيروقراطية عملاقة ومُتلاعبة لتعويضه خلال حياته عن قرار خاطئ. والبيروقراطيّة صُمِّمت لتعيد تصحيح نفسها في النّهاية ولكن دون اعتبارٍ لحياة الإنسان. والقلعة، المسؤولة عن النّاس، مُصمّمة لتعمل بلا خطأ، ولكنّها موجّهةٌ باعتباراتٍ مؤسساتيّة وليسَ بميول بشريّة. وفقاً لماكس برود، كان كـ سيُمنحُ إقامة دائمة على فراش موته؛ عدالة وكرم؛ ولكنّ النوع اللامُجدي منهُما. ونتذكُّرُ هنا قليلاً الطبيب الريفيّ الذي استجاب لنداءٍ خاطئ، والذي يُلاحظُ بحكمةٍ في لحظة خطرٍ أنّه “أكثرُ تفوّقاً من الجميع هنا ولكنّ ذلك لا يُساعدُني بشيء”. تفوّق عديم الجدوى، عديمُ الجدوى كالفرصة الذهبيّة التي قدّمها “برغل” لـ ك، ولكنّ كـ كان أكثر تعباً من اغتنامها.
والقائمة قد تطول. النّهاية السعيدة لرواية “أمريكا” ليست كذلك بل الأحرى مُخادعة؛ كارل روزمان بالفعل يجدُ مكانه في النهاية في مسرح أوكلاوهوما الكبير، ولكن فقط لأنّ ذلك المجتمع مُعرَّفٌ بحقيقة أنّ فيه مكاناً للجميع؛ هل هو مجتمع يوتوبيّ؟
لماذا يستمرُّ أبطالُ كافكا في الصّراع؟ لماذا مثلاً تستمرُّ شخصيّتا كـ في محاولة تلو الأخرى، مثل أبطالٍ مغامرين يخوضون مغامرة تلو الأخرى دون كلل حتّى يغيّر الموت أو التقاعد كلّ شيء؟ لماذا، بما أنّ آمالهم تبددت مراراً وتكراراً وأمستْ أفعالهم عديمة الجدوى؟ لا أريدُ مجادلة أولئك الذين يقترحون سلوكاً مغايراً لضحايا كافكا، أو حتّى يجدونهم مذبين في عدم سلوكهم مسلكاً مختلفاً ولذلك فهم يستحقُّون ما نالهم في النّهاية. فالمرءُ لا يُلام على عدم تفكيره فيما لا يستطيعُ التّفكير فيه. فالرّجل الريفيّ كما رأينا يستمرُّ في استعمال كلّ وسيلةٍ يمكنه التّفكير فيه، والحقيقة الهامّة هي أنّه أيّاً يكن ما يُفكِّرُ فيه محكوم بالفشل.
الإجابةُ لسؤالُ لماذا يستمرُّون في مجهوداتهم بعد كلّ فشل يكمُنُ، في رأيي، في كلمة ومفهوم الأمل. هناك صفة مشتركة لكلّ المفارقات التي عددناها، أو بالأحرى، هناك مفارقة تكمنُ فيهم كلّهم. الإنسانُ محكومٌ بغريزة البقاء بينما في الآن ذاته يُواجِهُ يقين الموت. هذان المكوّنانِ المتناقضان للحياة هُما هوَسُ كافكا الإبداعيّ. الإنسانُ مُبرمجٌ لتمديد ذاتهِ بلانهاية في المستقبل، ومع ذلك هُو مصمّمٌ لينتهي. إنّه الأمل في النّجاة والإيمان في المستقبل ما يُعمِي جوزف كـ عن الموعظة التي رِسالتها الأساس هي عدَمُ الجدوى. يُمكنُ للمبادر أن يفهم، ولكنّ الموت هو المبادرُ الوحيد. المواعظُ صحيحة، ولكنّها غير قابلة للفهم. ولذلك فهِي عديمة الفائدة. وإن كانت قابلة للفهم فستظلُّ أيضاً عديمة الفائدة. فهي لا تظهرُ مخرجاً، إنّها بالكاد تقول أنّ القدر لا مفرّ منه؛ وذلك نعرفهُ، ولكن أمِلنا لو كنّا مخطئين.
الحياة مُقابل الموت؛ كلُّ الصراعات الأخرى والمفارقات هي بالكاد تنويعات على هذا الصّراع الأساسيّ. مثل القدرة على تصوّر اليوتوبيا والافتقار إلى الأدوات لبنائها. الشّعور بجوعٍ لا طعام يُمكِنهُ إسكاته. معرفة الأسئلة والعثور على إجابات مُراوغة.
إصرارُ شخصيّتا كـ على صراعهما لا يستندُ إلى قرارٍ واعٍ كما في حالة متمرّدين تقليديين مثل “الشّيطان” و”فاوست”، اللذان اختارا تجاهل القيود المفروضة عليهما. شخصيّتا كـ تتفاعلان غريزياً. وصراعهُما تمظهر لغريزة البقاء، للأمل وبالطّبع تمظهر لجهلهما بخصوص فرصة نجاحهما.
ما نشهدهُ هي أيّامٌ في حياة سيزيف حتّى اليوم الأخير الذي يُنهي كلّ شيء دون أن يَحُلّ أيّ شيء. هذه الرّوايات والقصص هي دفاعُ كافكا المكتوب عن نمَطٍ حياةٍ قائم على الغريزة. وإن كان هناك أيّ اتّهام على الإطلاق فسيكون ضدّ أيّ قُوّة/سُلطة أطلقتْ “الحركة” دون إعلام الضحيّة بأنّه ليس هناك أيّ شيء يمكنهُ فعلهُ لإيقافها. ماذا لو تمّ إعلام الضحية؟ معلومة عديمة الجدوى. Catch 22.: لا يهمُّ كَيف تستدير، ستظلّ مؤخّرتك دائماً في الخلف No Matter how you turn, your butt will always be in back.