فلسطين في “أفلامنا”… استعادة المعنى الأجمل والأصدق للسينما النضالية

Tewfik Saleh, The Dupes, 1973, Photo: courtesy Typecast Films

نديم جرجوره

ناقد سينمائي من لبنان

وإذْ يبدأ البرنامج بفيلمٍ، يستعيد كمّاً من الأفلام المصنوعة عن فلسطين ولها، وعن الفلسطينيين ومعهم، فإنّ الأفلام الطويلة الثلاثة المختارة (إلى فيلمي صالح وعلوية، هناك "مئة وجه ليوم واحد" للّبناني كريستيان غازي، المُنتج لبنانياً عام 1969، والمعروض على المنصّة نفسها قبل فيلم علوية) تتراوح، في اشتغالاتها البصرية والفنية والجمالية، بين الروائيّ والوثائقيّ، وإنْ بأشكال مختلفة، وتطرح سؤال علاقة السينمائيّ العربي بالموضوع الفلسطيني

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

17/03/2021

تصوير: اسماء الغول

نديم جرجوره

ناقد سينمائي من لبنان

نديم جرجوره

بقدر ما يبدو التساؤل النقدي عن مغزى اختيار “هل كلّنا فدائيّون؟” عنواناً لنشاطٍ سينمائيّ، تُقدّمه منصّة “أفلامنا” (بيروت) في شهر مارس/ آذار 2021، عفوياً ومطلوباً؛ هناك بساطة ووضوح في الإجابة عليه: إنّها اللحظة الأنسب لطرح سؤال كهذا، من خلال سينما عربيّة تقول إنّ التزام فلسطين والفلسطينيين مبدأ أخلاقي أولاً، ومنبرٌ يتّسع لاختبار أساليب فنّ الصورة المتحرّكة في مقاربة واقع بلدٍ محتلّ، وأحوال أناسٍ يفرض احتلال بلدهم عليهم أنماطاً مختلفة من العيش والتفكير والمواجهة.

يُلفت العنوان ـ السؤال انتباه مهتمّ بسينما مناضلة، تحاول إيجاد توازنٍ بين تبيان وقائع عيشٍ ولغة بصرية تتحرّر، قدر المستطاع، من خطابيّة فجّة لصالح حيوية نبضٍ يعتمل في نفوس وأرواح، ويحرِّض على أحلام ومساعٍ إلى تحقيق رغبات. اللحظة الراهنة غنيّة بالتقهقر والانهيار والفوضى، في العيش والتفكير والمواجهة. دول خليجية تلتحق بأخرى عربيّة سابقة عليها في إزالة الحدود، متنوّعة الأشكال، بينها وبين الاحتلال الإسرائيليّ. يقول المخرج والباحث اللبناني هادي زكّاك، منسّق برنامج “هل كلّنا فدائيّون؟”، إنّ العنوان “منبثقٌ من الوضع العربي الراهن الذي نعيشه جميعنا”. يُضيف، في اتصال هاتفي مع “رمّان الثقافية”، أنّ “اتفاقيات التطبيع الأخيرة تبدو لي كأنّها تُسخِّف الموضوع الفلسطيني، الذي يتعامل معه كثيرون على أنّه مجرّد موضة، تنتهي الآن كأيّ موضة أخرى”. يُشير إلى أنْ لا أحد اليوم يتحدّث عن فلسطين والفلسطينيين، كالحاصل سابقاً: “أرى لقاءات وقبلات، وهذا لا علاقة له بالتاريخ. أرى المصائب تستمرّ، وهذا يُشبه ما يحصل في لبنان مثلاً: قالبٌ من الحلوى بين تنظيمين سياسيين (العونيّون والقواتيّون) يُنهي مرحلة كاملة من الحروب الطاحنة بينهما”.

نقد وسجال وتفكير

عنوان النشاط السينمائيّ في منصّة “أفلامنا” يُراد به التذكير بأسسٍ فاعلة في وعي معرفي، يرافق أكثر من جيلٍ عربيّ، في زمنٍ شاهدٍ على تباعدٍ بين أنظمةٍ تُصادِر فلسطين والفلسطينيين لمصالحها، وأفرادٍ يكافحون من أجل بلدٍ وشعبٍ بما لديهم من أدوات وطاقات. يقول هادي زكّاك إنّ من يتحدّث اليوم عن القضية الفلسطينية “لا علاقة له بفلسطين والفلسطينيين”. مثلٌ على ذلك؟ إيران، يقول زكّاك: “كأنّ القضية الفلسطينية موضوعٌ إيرانيّ”، مكتفياً بتعليقٍ يقول: “ضاعت الطاسة”، مُشيراً في الوقت نفسه إلى أنّه مهمٌّ للغاية أنْ تكون عودة “أفلامنا” إلى العمل، بعد توقّفٍ عنه لأشهرٍ عدّة، “مرتبطة بالموضوع الفلسطيني”. هذا يعود بالمهتمّين إلى ماضٍ يُفترض به أنْ يبقى حيّاً في الذاكرة، الفردية والجماعية، وفي نمط التفكير والتأمّل والعيش، رغم مصائب جمّة تعانيها مجتمعات عربيّة، بعضها يُنتج أفلاماً عن فلسطين ولها، في مرحلةٍ خصبة بتواصل حقيقيّ، أخلاقياً وثقافياً وفنياً واجتماعياً على الأقلّ، مع فلسطين والفلسطينيين.

يقول هادي زكّاك: “الأفلام المختارة في برنامج “هل كلّنا فدائيّون؟” غير مكتفيةٍ بـ”لوم” إسرائيل على المآل المفروضة على الفلسطينيين، رغم أهمية هذا الواقع وحقائقه؛ وغير مهمومةٍ بتحميل المسؤولية إلى الامبريالية والاستعمار، كما بلغة الأمس”. يتوقّف عند “المخدوعون” (سوريا، 1972) للمصري توفيق صالح و”كفرقاسم” (إنتاج مشترك بين لبنان وسوريا، 1974) للّبناني برهان علوية (يُعرض الأول بدءاً من 22 مارس/ آذار 2021، والثاني بدءاً من 15 منه): “هذان فيلمان يتناولان مشاكل داخلية أيضاً، ويكشفان تناقضات حاصلة في الداخل الفلسطيني، ويُشيران إلى مسؤولية عربيّة في الصراع مع المحتلّ الإسرائيلي. ما أريد قوله، عبر اختياراتي الأفلام المعروضة في البرنامج، أنّ نكبة 48 ونكسة 67 غير منتهيتين، لاستمرارهما إلى الآن، والآن شاهدٌ على “لخبطةٍ” كبيرة في الأمور كافةٍ. هناك سينما معنيّة بمسائل مهمّة للغاية، وبعض أفلامها يُعرض في البرنامج، يُراد لها النسيان في فترة كهذه، والفترة هذه تبدو لي أكثر الفترات حاجةً إلى استعادة سبعينيات القرن الـ20، لا من منطلق حنين وانفعال، بل من منطلق نقدٍ وسجال وتفكير”.

تنشغل أفلام “هل كلّنا فدائيّون؟” بحيوية لحظة تصنع مزيجاً بين التفكير والعمل، فيُنتَج بفضل هذا كلّه (اللحظة والتفكير والعمل) أفلامٌ تروي وقائع المواجهة متنوّعة الأشكال والحالات. غير أنّ افتتاح البرنامج بـ”خارج الإطار، ثورة حتّى النصر” (2016) للفلسطيني مهنّد اليعقوبي، مطلع مارس/ آذار 2021، يُؤكِّد ـ إلى ذلك ـ أهمية الصورة، الفوتوغرافية والمسجّلة والمتحرّكة، في توثيق الحكاية الفلسطينية، وفي حمايتها من آلة القتل الإسرائيلي، الساعية إلى الإلغاء والتزوير والتغييب، وهذه أدوات إسرائيلية تنضوي في آلة القتل نفسها. فالفيلم يرتكز على توليفٍ سينمائي لمقتطفات ولقطات ومَشاهد من أفلامٍ عربيّة وأجنبية، تعكس وقائع فلسطينية حيّة، وتؤرشف حالاتٍ فلسطينية وذاكرة فلسطينية وجغرافيا فلسطينية يحتلّها عدو يريد إزالة هذا كلّه من التاريخ والجغرافيا معاً.

وإذْ يبدأ البرنامج بفيلمٍ، يستعيد كمّاً من الأفلام المصنوعة عن فلسطين ولها، وعن الفلسطينيين ومعهم، فإنّ الأفلام الطويلة الثلاثة المختارة (إلى فيلمي صالح وعلوية، هناك “مئة وجه ليوم واحد” للّبناني كريستيان غازي، المُنتج لبنانياً عام 1969، والمعروض على المنصّة نفسها قبل فيلم علوية) تتراوح، في اشتغالاتها البصرية والفنية والجمالية، بين الروائيّ والوثائقيّ، وإنْ بأشكال مختلفة، وتطرح سؤال علاقة السينمائيّ العربي بالموضوع الفلسطيني: “سؤال كهذا عن أفلام مُنتجة في تلك الفترة (ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته تحديداً)، وهذا إنتاج قليلٌ قياساً للحالة الإنتاجية العربية العامّة حينها، يحتاج إلى مساحة أوسع لقراءته وتحليله وتفكيكه، كما تقول في سؤالك تماماً. منذ فترة، أفكّر به. إلقاء نظرةٍ على أفلامٍ مصرية مثلاً، مهتمة بالموضوع الفلسطيني بجانبه الحربي غالباً، كنكبة 48 مثلاً، يكشف أنّ صانعي تلك الأفلام معنيّون أساساً بسرد قصّة حبّ في غلاف فلسطيني، أو بتعظيم دور الجيش المصري على حساب الموضوع الفلسطيني، أو بإبراز الناصرية كفعلٍ مُقاوم. أيّ أنّ الإطار العام فلسطيني، لكن النواة الدرامية الأساسية مصرية بحتة”. يتابع زكّاك كلامه إلى “رمّان الثقافية”، مستعيداً لحظة تاريخية أساسية تشهد نوعاً من انقلابٍ في كيفية التعاطي مع السينما والتفكير بها ومعها ومن خلالها: “مطلع سبعينيات القرن الـ20 شاهدٌ على ظهور السينما البديلة، علماً -كما يرد أعلاه- أنّ الأفلام العربية المعنية بفلسطين نادرة أو قليلة للغاية. مطلع السبعينيات تلك لاحقة على “أيار 68″ أيضاً، وهذا أساسي ومهم، ويجب ألاّ يُنسى. تلك الفترة تطرح أسئلة عن السينما الملتزمة والسينما النضالية. هناك جان-لوك غودار مثلاً. وفي العالم العربي، هناك السينما البديلة”.

حبّ لا كراهية

هذا جزءٌ من مسار تغييريّ في الثقافة والفنون. في “خارج الإطار”، مقطع لغودار نفسه يقول فيه، حاملاً صورتين فوتوغرافيّتين تُصوّر إحداهما فلسطينيين “يغادرون” بلدهم بحراً، وأخرى لإسرائيليين قادمين إلى أرضٍ محتلّة: “منذ عام 1948، يذهب الإسرائيليون بحراً (يقول بالفرنسيّة إنّهم “يمشون في المياه”) نحو الأرض الموعودة. الفلسطينيون (يمشون في المياه/ يذهبون بحراً) نحو الغرق”. يُضيف، في اللقطة نفسها: “الشعب اليهوديّ يلتحق بـ(الفيلم) الروائيّ، والشعب الفلسطيني بالوثائقي”. أيكون هذا انعكاساً لأهمية الوثائقيّ في توثيق التاريخ والجغرافيا والحياة والعلاقات الفلسطينية، قبل أنْ يتّخذ الروائي الفلسطيني حيّزاً أوسع في التوثيق السينمائيّ؟ حينها، بين نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، تتبلور أفكارٌ واشتغالات، يجد هادي زكّاك أنّ الراهن العربيّ يحتاج كثيراً إلى استعادة بعضها، سينمائياً، في زمن نكبةٍ جديدة.

لقطة أخرى في فيلمٍ آخر يكشفها “خارج الإطار”، ويندرج معناها في المغزى الأساسيّ لـ”هل كلّنا فدائيّون؟”، في وقتٍ يشهد مُصادَرة فلسطين والفلسطينيين لأغراضٍ ومصالح لا علاقة لها بفلسطين والفلسطينيين، إنْ على يديّ النظام الأسديّ، أباً وابناً، وإنْ من خلال نظام الملالي الإيراني. لقطة في فيلمٍ تكفي لتأكيد المعنى الأصلي لمقاومة المحتلّ الإسرائيلي، ولتذكير كثيرين في راهنٍ عربيّ متفلّت من قيم أخلاقية وإنسانية وثقافية بهذا المعنى أيضاً. لقطة مُقاتل فلسطيني يقول أمام الكاميرا بنبرة هادئة، تكشف صدق ما يُقال، وبلكنة إنكليزية متواضعة لكنّها مليئة بحقّ وبساطة وجمال: “لا يستطيع أي مقاتل أنْ يُواجه آلة حربية كالتي يمتلكها الإسرائيليون، ما لم يكن هذا المقاتل يملك قضيّة عظيمة يُقاتل من أجلها. حبُّنا الكبير لوطننا أكبر من كُرهنا لعدوّنا. الحب دافعنا لا الكراهية”.

سؤال آخر يُطرح: في الأفلام الطويلة الثلاثة، هناك تداخل بين الوثائقيّ والروائيّ. كأنّ اللبنانيين كريستيان غازي وبرهان علوية والمصري توفيق صالح سبّاقون في طرح مسألة انعدام الحدود الفنية بين النوعين السينمائيين، قبل وقتٍ مديدٍ على نشوء ما يُعرف حالياً بالـ”دوكيو دراما”. يؤكّد هادي زكّاك على ذلك، بقوله إنّ فيلمي غازي وعلوية “واضحان تماماً في إزالة الفرق بين النوعين”. أما صالح، “فمنضوٍ في إطار أكبر، إذْ ينقل أحداث قصّة من زمنها في خمسينيات القرن الماضي، إلى سبعينياته”. يقول: “هذه الاختبارات ستؤدّي لاحقاً إلى ظهور موجة أفلامٍ وثائقية منفتحة أكثر على الموضوع الفلسطيني، علماً أنّ غازي وعلوية ملتزمان الموضوع نفسه، ويعبران من خلاله إلى الداخل اللبناني، وإلى أزماته التي ستنفجر حرباً أهلية (منتصف السبعينيات الماضية)، وستنكشف أكثر فأكثر في الثمانينيات”. يُنهي كلامه إلى “رمان الثقافية” بالقول: “لغازي وعلوية دورٌ تأسيسيّ في هذا، لنا وللأجيال اللاحقة”.

الكاتب: نديم جرجوره

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع