موضوعان اثنان يتصدّران برنامج الدورة الـ 12 لـ”مهرجان الفيلم العربي برلين“، المُقامة افتراضياً (للعام الثاني على التوالي) بين 21 و30 أبريل/ نيسان 2021: العائلة والهجرة. كلّ موضوع منهما ينفتح على أسئلة، ويكشف وقائع. فالأول (العائلة) يتوزّع على حربٍ (جدار الصوت) واحتلال (200 م.) وتاريخ بلد وأفراد (إحكيلي)، وتمزّقاتٍ داخلية يصنعها راهنٌ بفضحه سرّ دفين (بيك نعيش)، أو يفرضها واقعٌ وثقافة وتربية وسلوكٍ، تُحجِّم كلّها المرأة وحضورها في أنماط الحياة والعيش (آدم). والثاني، رغم التزامه بحثاً عملياً في سؤال الهجرة وأحوال المهاجرين، يقول شيئاً عن عائلةٍ (“نحن من هناك” مثلاً)، وينطلق من حربٍ فيُكمل مساره في الفنّ والتسليع والحبّ والانكسارات والغربة (الرجل الذي باع ظهره). أفلامٌ أخرى تنضوي في الموضوع الثاني، وتلتزم أسئلته وهواجسه وتفاصيله ووقائعه، رغم انفتاحٍ على مسائل مطروحة في أفلامٍ أخرى، ومواضيع عدّة.
أحوالٌ وحكايات وأسرار
لكنّ العائلة، بتشكيلها نواة درامية أساسية، تخرج من الإطار التحليليّ المباشر، وتتحوّل إلى مرايا تعكس هواجس وذكريات وأحوالاً وانفعالاتٍ وآلاماً وخيباتٍ وأحلاماً وتفاصيل، باعتماد أفلامٍ عدّة لغةً سينمائية متماسكة في مقاربتها ومقاربة أحوالها ومسارات أفرادها. والحرب تُشكِّل خلفيةً لـ”جدار الصوت” (2019)، للّبناني أحمد غصين، من دون أنْ تتصدّر واجهة النصّ السينمائيّ، المعقود على هواجس وعلاقات وذاكرة ومواجهات؛ وتُصبح هاجساً يومياً يصنعه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، إمعاناً في تفكيك أرضٍ وعائلةٍ وتاريخٍ وجغرافيا وعمران وحياة، كما في “200 م.” (2020) للفلسطيني أمين نايفة؛ وتُطلِق رحلة آلام متنوّعة، سيعيشها والدا مراهقٍ يُصاب برصاصٍ طائشٍ، جرّاء معركةٍ بين رجال أمن ومسلّحين، كما في “بيك نعيش” (2019).
فيلمان آخران يندرجان في إطار العائلة، ويلتزمان سرداً سينمائياً لأحوالها الداخلية، وإنْ يتضمّن السرد، تلقائياً، سمات اجتماعٍ وثقافةٍ وتربية أيضاً: “آدم” (2019) للمغربية مريم توزاني، و”آخر زيارة” (2019) للسعوديّ عبد المحسن الضبعان. أما تاريخ عائلةٍ وأفرادها، فيحضر في “إحكيلي” (2019) للمصرية ماريان خوري، مع حضورٍ لتاريخ السينما والاجتماع والهجرات في مصر، في عقودٍ مديدة. فخال المخرجة سينمائيّ مصري معروف، يُدعى يوسف شاهين، ذي الأصل اللبناني، ولها أقارب يعملون في الإخراج والإنتاج، كعملها وشقيقها غابي في الإخراج والإنتاج أيضاً.
بهذا، تتنوّع الصُور السينمائية لـ”العائلة” كتنوّع هواجس مخرجي تلك الأفلام، ورغباتهم وأمزجتهم ومواقفهم. فالعائلة غير واضحة المعالم في “آدم”، المرتكز على حكايتين تُرويان في خطّ دراميّ واحد، لامرأتين، إحداهما حامل تهرب من بيئتها فلا زوج لها ولا مهتمّ بل ضغوط عليها وإنكارٌ لكيانها وموقعها وحياتها ورغباتها؛ وتصل إلى منزل الثانية، والدة صبيّة صغيرة، تجهد في يومياتها لعيشِ حياة عادية، في غياب زوج/ أبٍ. في المقابل، يتّضح حضور العائلة في “آخر زيارة”، فالجدّ يحتضر، وابنه يأتي إليه رفقة ابنه، والمكان دافعٌ إلى تعريةٍ قاسية، تنكشف فيها أحوال تفكّك واختلاف حادّ في أسلوبي عيش وتفكير، يتناقض أحدهما مع الآخر، ويمثّل الأب ـ الذي ينتظر موت والده المحتضر ـ أسلوباً منهما، وابنه المراهق، الراغب في نمطٍ آخر مختلفٍ تماماً لعيش حياة يريدها، ولا تُفرض عليه، يُمثّل أسلوباً آخر.
الحرب بأشكالٍ متنوّعة
أمّا الحرب، المندلعة في صيف 2006 بين إسرائيل ولبنان، فعنوان أساسيّ، من دون أنْ يتفرّغ أحمد غصين له، في فيلمٍ (جدار الصوت) يهجس بأسئلة العلاقة داخل العائلة، وسيرة الأب الغائب عن المشهد، وفعل المقاومة الدائمة ضد المحتلّ، ومعنى الهوية والانتماء. فخروج الأبناء من القرية الجنوبية يحصل باتجاه العاصمة بيروت، وبعض الأبناء راغبٌ في هجرة دائمة من البلد، بينما جيل الأب (المتمثّل بصديقين له باقيين في قريتهما التي تعاني أهوال تلك الحرب والحروب السابقة عليها) باقٍ في القرية والبلد، وإنْ يشعر باغترابٍ عنهما في ظروف عيش مختلفة. والحرب تعني احتلالاً أيضاً، فالمحتلّ الإسرائيلي يُشيّد جدار فصلٍ عنصري على أرض فلسطين، لتمزيقها وتفكيك عائلاتها، وتحطيم إرادات أبنائها وبناتها بإنهاكٍ يوميّ لهم في شتّى أنواع العيش، ومنها عبورهم داخل بلدهم من منطقة إلى أخرى (200 م.).
مقاومة الاحتلال، رغم مصاعب وأهوال وتحدّيات، فعلٌ يوميّ أيضاً لفلسطينيين، يختار أمين نايفة نماذج منهم، أبرزها الأب (علي سليمان)، المعانِد الشرس ضد إسرائيل (يرفض الحصول على بطاقة هوية تُخفِّف عنه أعباء الانتقال)، من دون صراخٍ وضجيج ودم وعنف، متحدّياً كلّ شيء كي يلتقي دائماً أفراد عائلته.
الحرب، بأشكالها المختلفة، أحد أسباب الهجرات العربيّة، التي تبدو كأنّها من دون نهاية، تماماً كما تبدو تلك الحروب أيضاً، المشتعلة في بلدانٍ عربيّة إما بأدوات مُباشرة (سورية مثلاً)، أو بأشكالٍ مختلفة، كالفقر وغياب فرص العمل وانعدام كل مطلب محقّ. الرصاص الطائش ينطلق من مطاردة رجال أمنٍ تونسيين لمسلّحين إرهابيين، لكنّه يصنع حرباً أخرى يتمثّل بمسار مليءٍ بأشكالٍ أخرى لها، إذْ تفتح الحاجة إلى كبدٍ جديدٍ للمراهق باباً مُغلقاً منذ سنين (المراهق ابن رجلٍ تُحبّه الأم قبل زواجها، وتحمل منه)، وتطرح سؤال بيع أعضاء المراهقين، بين تونس وليبيا، الغارقة في حربٍ أيضاً، منذ اندلاع الحروب الصغيرة عام 2011، إثر حراكٍ شعبيّ سلميّ ضد نظام معمّر القذافي.
هجرات
الحرب في سورية تندلع أيضاً بهدف خنق ثورة شعبية مدنية سلمية، ضد نظام بشّار الأسد، تنطلق من درعا (18 مارس/ آذار 2011)، وتنتشر في مدنٍ سورية مختلفة. حربٌ تؤدّي إلى هجرات كبيرة في الداخل (سورية) والجوار (لبنان والأردن)، وبعض الهجرات يبغي أوروبا خلاصاً من موت وخوف وقلق وانكسار. سؤال الهجرة الراهنة مرتبطٌ، أساساً، بتلك الحرب، وإنْ يتنوّع الاشتغال السينمائي على الهجرة من دون الحرب. فالثورة السورية ممنوعة في البلد، والشاب المغرم بحبيبته يهرب إلى بيروت أولاً، قبل لقائه فناناً بلجيكياً يُغريه بالسفر (هجرة من نوع آخر) إلى بلجيكا، حيث حبيبته متزوّجة من ديبلوماسي سوري، شرط أنْ يوافق على “بيع” ظهره له، فالفنان مهووس برسومٍ يصنعها على أجساد أناسٍ يختارهم لأسبابٍ مختلفة. هجرة يُريدها الشابّ للقاء حبيبته، فيُوافق على تحويل جسده إلى سلعة، باسم الفنّ. هذا تُصوّره التونسية كوثر بن هنيّة في جديدها “الرجل الذي باع ظهره” (2020)، المُرشّح رسمياً لـ”أوسكار” أفضل فيلمٍ عالمي، في النسخة الـ 93.
هذا غير حاصلٍ في الوثائقيّين، “بحر أرجواني” (2020) للسوريين أمل الزقوط وخالد عبد الواحد، و”نحن من هناك” (2020) للّبناني وسام طانيوس. فالأول يتّسم بنمطٍ تجريبيّ في التقاط مَشاهد الهجرة البحرية، بقسوتها وخرابها ومخاوفها وعوالمها المفتوحة على هواجس وصُور؛ والثاني واقعيّ يروي حكاية الشقيقين السوريين خالد وجميل، الخارِجَين من دمشق إلى حياةٍ يريدانها أفضل وأكثر أمناً. وإذْ يتّكئ طانيوس على العائلة، فهو ابن عمّتهما، يذهب “بحر أرجواني” إلى الأبعد من علاقة كهذه، مستعيناً بالبحر وسيلة خروجٍ خطرٍ من بلدٍ خطرٍ. الهجرة هدفٌ، يسبق رغبة الحصول على ملاذٍ آمنٍ.
مهاجرون سوريون يحضرون أيضاً في فيلمٍ ألماني، بعنوان “التقدّم في وادي الناس الذين لا يعرفون” (2019) لفلوريان كونَرت، إلى جانب آخرين يتحدّرون من أصول ألمانيّة شرقية. يلتقي هؤلاء جميعاً في مدينة “نويشدلت” (ولاية سكسونيا)، ويتدرّبون معاً على الاندماج في الاجتماع الألماني. والفيلم (Progress In The Valley Of The People Who Don’t Know) يُرافق مراحل التدريب، ويُذكِّر بعلاقة سابقة للمدينة الألمانية بسورية، فالمكان ـ المتحوّل إلى مخيّم للاجئين المهاجرين ـ يحمل إرث إنتاجٍ زراعي يُصدِّر منتوجاته إلى البلد المنهك، اليوم، بحربٍ وتدمير وقتل وتهجير.
والهجرة، باتّخاذها أشكالاً مختلفة في الغربة الأوروبية، تنعكس في تجربة ابن عمّ المخرج الجزائري كريم صياد، القادم إلى لندن عام 2001 بطريقة غير شرعية، فيندفع صياد إلى معاينة تلك الحالة الإنسانية، المنفتحة على أسئلة الهوية والمكان والارتباط بالذاكرة والماضي، وموقع المهاجرين في المدن التي يبلغونها، ثم يُنجز “ابن عمّي الإنكليزي” (2019). لكنّ هذا كلّه لن يحول دون خروج صياد إلى الأبعد بقليل: أحلام شبابٍ جزائريين، يعانون اختناق العيش المؤلم في بلدهم، وأسئلة الحياة اليومية في المهجر.
في “مهرجان الفيلم العربي برلين” أفلامٌ أخرى، تعاين أحوالاً وانفعالات، وترصد سردياتٍ إنسانية عربيّة مختلفة. لكنّ أفلام الهجرة والعائلة تمتلك مساحةً أكبر في برنامج الدورة الـ 12، بينما تؤدّي الحرب إلى طرح أسئلة كثيرة، منبثقةٍ من هذين السؤالين.