يُعدّ كتاب الأكاديمي الفلسطيني ضرغام شتية، الموسوم بـ «الفضاءات العامة في مدينة عمّان: بين التنوع الحضري والتباين الاجتماعي»، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة 2020، من الكتب الجديدة في حقل دراسات تأثير سياسات النيوليبرالية على واقع مدن الشرق الأوسط، وهو بالأساس عبارة عن أطروحة دكتوراه، تقدّم بها المؤلف قبل سنوات قليلة، وتناول فيها ما أخذت تعيشه مدينة عمّان في العقدين الأخيرين، على صعيد انقسام المكان (عمان الغربية والشرقية)، وأيضاً على مستوى بروز أنماط استهلاكية جديدة جراء ما يدعوه بالسياسات النيوليبرالية الأردنية. ولمعرفة المزيد عن مضامين هذا الكتاب كان لنا الحوار التالي مع الأكاديمي الفلسطيني.
لتكن بداية حديثنا معك عن كتابك «الفضاءات العامة في مدينة عمّان: بين التنوع الحضري والتباين الاجتماعي»، كيف تقدمه لنا؟
يوضح الكتاب التحدّيات والتحوّلات التي تواجه المناطق الحضرية، كالهجرات المتزايدة إليها، وزيادة أعداد سكانها، والتغيّر في أنماط حياتهم وسلوكهم؛ إذ أسهمت الزيادة المطّردة والتحوّلات المختلفة في ظهور أحياء عشوائية للفقراء، وأخرى حديثة ومتطوّرة للطبقات الغنية، الأمر الذي أنتج عدم المساواة والتباين بين أحياء المدينة والإقصاء الاجتماعي. كما يركز الكتاب على البحث في تأثير ظهور الفضاءات الحديثة في مدينة عمّان، ومدى تناقضها واختلافها مع الفضاءات القديمة خاصة في مركز المدينة القديم (البلد) وإسهامها في نشوء التباين والاستقطاب الاجتماعي بين أحياء المدينة، إذ تناولت في البحث الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والمكانية وتحليلها في كل من العبدلي الجديد كفضاء حديث معولم، ومركز المدينة القديم.
ويرتكز الكتاب على مناقشة فكر هنري لوفيفر Henri Lefebvre (عالم اجتماعي، ومخطط حضري وفيلسوف فرنسي) في الفضاء العام، وكذلك مناقشة أثر العولمة وما ترتب عليها من سياسات الليبرالية الجديدة.
لماذا اخترت الاشتغال على هذا الموضوع تحديداً “الفضاءات العامة في مدينة عمّان”؟
هناك عديد من الأسباب التي دفعتني إلى اختيار هذا الموضوع ومدينة عمّان بالتحديد: لقد جاءت فكرة اختيار موضوع الفضاءات العامة بعد أحداث الربيع العربي 2011 التي شهدتها العديد من الدول العربية، إذ تغيّرت نظرة وإدراك المواطن العربي للفضاء العام واستخداماته، وعليه جاء هذا الجهد نتيجة عمل مشترك مع مجموعة من الزملاء من تونس واليمن وألمانيا، وكل باحث تناول الفضاءات العامة في عاصمة عربية، وأنا بدوري تناولت مدينة عمّان بالدراسة والتحليل في مشروع رسالة الدكتوراه من خلال منحة مقدمة من جامعة ايرلانجن في ألمانيا. لقد اخترت مدينة عمّان لأنها تميّزت بتغيرات اقتصادية واجتماعية ومكانية عديدة، إذ شهدت المدينة تحوّلاً حضرياً تمثّل في تغيّر أنماط حياة سكانها خاصة نمط السكن من البيت المستقل مع الفناء الواسع إلى الشقق ضمن البنايات العالية، فأصبح وجود الفضاءات العامة ضرورياً؛ نتيجة تراجع الفضاء الخاص. كما أنّ عمّان شهدت تحوّلات ميّزتها عن غيرها من مدن الشرق الأوسط أهمها تدفق عوائد البترول (البترودولار) من دول الخليج العربي واستثمارها في مشاريع ضخمة، وتأثير العولمة وتبني سياسات الليبرالية الجديدة والخصخصة؛ والتي تطلبت المزيد من الإصلاحات الحكومية، إضافة إلى الأزمات والحروب في المنطقة العربية التي دفعت المستثمرين نحو مدينة عمّان؛ لما تتمتع به من استقرار ومناخ جاذب للاستثمارات، علاوة على الزيادة المضطردة في عدد سكان المدينة نتيجة الهجرات الداخلية والخارجية المتتالية إليها. فكل هذه الظروف أسهمت في ظهور فضاءات جديدة جنباً إلى جنب مع الفضاءات القديمة.
هل بوسعك الإشارة إلى أبرز المحطات التي مرّت بها الفضاءات العامة في مدينة عمّان خلال المائة عام الماضية -عمر الدولة الأردنية-، وما هي سمات المرحلة الراهنة؟
تميزت عمّان منذ تأسيس الإمارة عام 1921 وحتى الأربعينات من القرن العشرين بتشابه بنيتها العمرانية مع المدينة الإسلامية؛ حيث المسجد الحسيني في الوسط، وبجانبه السوق، ومقابله قصر رغدان، وكان مركز المدينة القديم (البلد حالياً) يمثّل الفضاء العام الرئيس الذي تتم فيه أنشطة الناس المختلفة في حياتهم اليومية، واتسمت الحياة الاجتماعية والاقتصادية في تلك الفترة بالبساطة. وكما أشرت كان المنزل وساحته يمثّل الفضاء الخاص، لم يظهر في تلك الفترة تبايناً وتفاوتاً اقتصادياً كبيراً بين السكان، وكان وسط البلد يمثّل الفضاء العام المشترك الذي يلتقي فيه سكان عمّان كافة. ولكن فيما بعد أسهمت مجموعة من العوامل والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمكانية في التطوّر والتحوّل السريع في مدينة عمّان؛ مما ترتب عليه بروز التباين والتفاوت الاجتماعي الاقتصادي بين أحياء المدينة، وكذلك ظهور فضاءات حديثة ومتنوعة تعكس التفاوت الاقتصادي؛ بحيث أصبح لكل فضاء مرتادوه الذين يختلفون عن مرتادي الفضاء الآخر.
لا ريب في وجود مصاعب وتحدّيات واجهتك أثناء إنجاز هذه الدراسة، فما هي؟
هناك الكثير من الصعوبات: أهمها أنّ دراسة الفضاء العام لا تتم دون التطرق إلى الجوانب السياسية؛ إذ يعد عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس Jürgen Habermas أول من تناول مفهوم الفضاء العام، وفي كتاباته تناول الرأي العام للجماهير في الفضاءات العامة وحرية الرأي والتعبير، وفي أطروحتي عن عمّان حاولت تناول كافة الجوانب ومنها السياسية والتركيز على فترة الربيع العربي والاحتجاجات التي شهدتها عمّان في الفضاءات العامة، ولكن كان هناك معارضة شديدة من القسم في الجامعة الأردنية مما جعلني أتناول الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمكانية، أما السياسية فقد تم تناولها بشكل غير مباشر. ومن الصعوبات أيضاً أنّ غالبية الدراسات تتناول مدن غربية وهي تختلف في بنيتها عن المدن الشرقية، لذلك ربما تكون دراستي عن عمّان ملهمة لدراسات أخرى عن مدن الشرق الأوسط.
ناقشت في الكتاب أثر العولمة والسياسات النيوليبرالية، في خلق تناقض وتباين وتنافس بين الفضاءات العامة في عمّان، لا سيما الفضاءات القديمة، والفضاءات الحديثة التي صُمِّمت على أسس ومعايير عالمية موحدة، استناداً على فكر هنري لوفيفر في الفضاءات العامة وتحليله. فما أهم الاستخلاصات التي توصلت إليها في هذا السياق؟
يمكن القول إنّ التحوّلات الجارية في العديد من جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية ترجع إلى ما أفرزته العولمة وأدواتها كنهج الليبرالية الجديدة والخصخصة الذي كان له بالغ الأثر في بلورة نمط مختلف من الفضاء العام، مما أثر على الهيكل المكاني والوظيفي للمدينة، وأنماط سلوك سكانها وطبيعة حياتهم. وشهدت مدينة عمّان مع مطلع القرن الحالي مشاريع نيوليبرالية ضخمة وعمليات خصخصة؛ وذلك كنتيجة مباشرة لتدفق عوائد البترول من دول الخليج العربي، والسماح للقطاع الخاص بالاستثمار في المشاريع الكبيرة؛ بحيث بدأت تظهر فضاءات وأبراج وأحياء راقية ومخططة ومتكاملة، وكذلك أسواق حديثة ومجتمعات مسورة؛ مما أسهم في انقسام المدينة وخلق التباين والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين أحيائها وفضاءاتها المختلفة.
تحلّل في الفصل الثاني من الدراسة الفرق بين “الفضاء” و”المكان”، وكذلك الفرق بين “الفضاء العام” و”الفضاء الخاص” والعلاقة بينهما. وهو ما يدعونا لسؤالك عن ماهية هذه الفروق من الناحية العلمية؟
فيما يتعلق بالشق الأول (الفضاء والمكان) وبما أنّ الدراسة تستند إلى فكر الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر فإنّ الفضاء غير ملموس وليس له حدود، وإنما يعتمد تعريفه على كيفية فهم الفرد له وإدراكه وممارسة أنشطته فيه في الحياة اليومية، فالبعض يفهمه على أنه مجال للتعبير عن الرأي والمطالبة بالحقوق المختلفة للمواطنين، والبعض الآخر يفهمه على أنه ساحة للجلوس والترويح عن النفس وقضاء وقت الفراغ. أما المكان فهو مساحة لها أبعاد وحدود. فيما يتعلق بالفضاء العام والفضاء الخاص يمكن القول بأنّ الفضاء العام لا يحتاج دخوله أي إذن أو يكون متاحاً لكافة المواطنين على اختلاف مستوياتهم الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، في حين أنّ دخول الفضاء الخاص يكون محصوراً بفئة معينة.
ما هي أوجه الالتقاء والاختلاف بين تخطيط المدن لجهة الفضاءات العامة، في الدول المتقدمة والنامية؟ وما علاقة السياسة في عمران وازدهار المدن؟
قطعت المدن الغربية شوطاً كبيراً في تخطيط الفضاءات العامة وتأسيسها، وبدأت دراسة هذا الموضوع في أوروبا منذ وقت مبكر؛ فهناك في كل مدينة عدد كاف من الفضاءات العامة يتناسب مع حجم سكانها وطبيعتهم، ويتعاون في إنشاء الفضاءات العامة هناك المهندسون والجغرافيون وعلماء الاجتماع والنفس؛ بحيث تخدم الفضاءات العامة كافة فئات المجتمع من جميع الأعمار ومن كلا الجنسين. في حين ما زالت المدن العربية تعاني من نقص في الفضاءات العامة ومن منع استخدامها لكافة الأغراض؛ كالتعبير عن الرأي مثلاً. وإذا عدنا إلى مدينة عمّان موضوع الدراسة فهي تفتقر للأماكن العامة وأماكن المشي الآمن للمواطنين، فهناك من يطلق عليها مدينة السيارات؛ للتعبير عن الازدحام الدائم وعدم وجود أماكن للمشي واعتماد المواطنين في حركتهم بشكل كامل على السيارات. بالتأكيد السياسة العامة في الدولة وتبني نهج الديمقراطية والحرية كما هو الحال في المدن الغربية أدى إلى تطوّر كبير في الفضاءات العامة التي عادت بالنفع على سكانها.
ما أهمية جعل التراث والتاريخ حاضرين في المدن العصرية؟ وهل هناك محاذير ينبه لها الأثنوغرافيين كجعل الماضي مادة استهلاكية لأبناء الطبقة الميسورة؟
لقد ظهر في الآونة الأخيرة مصطلح Glocalization أي الدمج بين المحلي أو التراثي وما تم استيراده من خلال العولمة، وهذا ما تبنته إدارات المدن في جنوب شرق آسيا وكذلك في أوروبا بحيث لا يطغى نمط على آخر. أما تبني سياسة العولمة لوحدها وعلى نطاق واسع فإنه يقود إلى إذابة الهوية العمرانية التاريخية للمدينة؛ فالعولمة وحدت الأذواق وأزالت التمايز فإذا نظرنا للأبراج والبنايات في العبدلي في عمّان أو السوليتير في بيروت أو أبراج سنغافورة وكوالالمبور ونيويورك نجدها كلها متشابهة؛ فإذا زرت واحدة فلن ترغب بزيارة الأخرى لأنها تقريباً بنفس النمط، ولكن المدن القديمة والخانات والساحات القديمة فإنها مختلفة من مدينة إلى أخرى وكل مدينة تتميّز عن الأخرى بنمط معين مستمد من عراقة الحضارة التي سكنت تلك المدينة.
فيما يتعلق في الشق الثاني من السؤال: نعم بدأت المناطق القديمة تتحوّل إلى مادة استهلاكية للطبقات الميسورة؛ وذلك من خلال عمليات التجديد والتحسين Gentrification التي تشهدها المدن؛ إذ بدأ يظهر نمط جديد من المقاهي الذي يحاكي المقاهي القديمة ولكن بنمط عصري، في الأحياء القديمة للمدينة، كما هو الحال في شارع الرينبو ووسط مدينة عمّان القديم، وهذه المقاهي تُعدّ غالية الثمن بالنسبة للطبقات الفقيرة، فأغلب مرتاديها من السياح ومن سكان عمّان الغربية الأعلى دخلاً.
أثرت في الدراسة قضية التحوّل الحضري الذي شهدته معظم مدن العالم، بخاصة المدن العربية؛ الأمر الذي بيّنت أنه أدى إلى ظهور فضاءات عامة مختلفة ومتباينة. ما أبعاد هذه الإشكالية وكيف يمكن التعامل معها راهناً ومستقبلاً للتخفيف من التباينات الاجتماعية وتحقيق الاندماج الاجتماعي في المجتمع الواحد المفترض فيه أن يكون متجانساً؟
يشير مصطلح التحوّل الحضري إلى التحوّل في نمط حياة السكان واستهلاكهم، إذ تم التحوّل من البيوت المستقلة ذات الفناءات الواسعة إلى الشقق ضمن البنايات العالية، كما ظهرت مولات التسوق الحديثة؛ فظهرت الحاجة إلى ظهور فضاءات عامة للناس لقضاء أوقات فراغهم والترويح عن أنفسهم في ظل تراجع الفضاء الخاص (البيت)، ولكن تبني سياسات الليبرالية الجديدة واستثمارات عوائد البترول من دول الخليج ومشاركة القطاع الخاص في المشاريع الحديثة أدى إلى ظهور فضاءات حديثة وخدماتها غالية الثمن؛ الأمر الذي قاد إلى تباين وتباعد اجتماعي، بحيث أصبح هناك فضاءات للطبقات الغنية في غرب عمّان، وأخرى للطبقات الفقيرة في شرقها.
أما تحقيق الاندماج والتفاعل الاجتماعي فيمكن أن يتم من خلال دعم المشاريع ذات المنفعة العامة، والموازنة في تلك المشاريع بين شرق وغرب المدينة، وكذلك تحسين شبكة المواصلات بين طرفي المدينة لتعزيز التفاعل الاجتماعي وتسهيل الوصول إلى مركز المدينة القديم التي تُعدّ منطقة محببة للزيارة من كافة فئات المجتمع، وتطوير الفضاءات القديمة وتزويدها بالأثاث، وكذلك إنشاء فضاءات عامة تتناسب مع ثقافة وحياة كافة أفراد المجتمع بحيث تكون وجهة لكافة الفئات.
كباحث أكاديمي كيف تنظر للتخطيط العربي المعاصر للمدن في كافة أقطارنا العربية ومخاطره على الهيكلة الحضرية وتأثير ذلك على أبناء هذه المدن، لا سيما أبناء الطبقة المتوسطة والفقراء؟
إنّ ما تسير فيه إدارات المدن العربية في الوقت الحالي من تبني سياسات العولمة من خلال المشاريع النيوليبرالية المعولمة والسير في خصخصة المشاريع العامة؛ سيؤدي إلى تغيير في الهوية الحضرية للمدينة وظهور المزيد من الفضاءات الحديثة الاقصائية، والتي من شأنها أن تقلل من الاندماج والتفاعل الاجتماعي وظهور جغرافيات من عدم المساواة في المدن العربية بحيث يكون هناك فضاءات للطبقات الغنية وفضاءات للطبقات الفقيرة.
من التوصيات التي اقترحتها في خاتمة الكتاب “إجراء المزيد من الدراسات حول نوعية الفضاء العام الملائم والمتلائم مع طبيعة السكان”. فهل عملت السلطات المختصة في عمّان (أمانة عمّان مثلاً) على الأخذ بها؟ وهل يمكن تعميم نتائج الدراسة في عموم الأردن وفلسطين وغيرهما من البلدان العربية للاستفادة منها في تطوير الفضاءات العامة في مدننا؟
الفضاء العام الناجح هو الذي يكون مزاراً ووجهة لكافة فئات المجتمع، ويتم تصميمه بما يتناسب مع ثقافة وعادات وتقاليد المواطنين؛ لذلك لا أرى أنّ هذا النمط من الفضاءات الجامعة موجودة في المدن العربية. فيما يتعلق بتعميم الدراسة: نعم يمكن ذلك نظراً للتشابه الكبير بين أفراد المجتمع الأردني والفلسطيني وبقية الشعوب العربية، وكذلك السياسات الحكومية في الدول العربية متشابهة؛ فهناك مشاريع نيوليبرالية في رام الله وبيروت والقاهرة والرباط وغيرها من المدن العربية.