اختيار لبنان في برنامج “بقعة ضوء”، في الدورة الـ13 (20 ـ 26 أبريل/نيسان 2022) لـ”مهرجان الفيلم العربي في برلين“، متأتٍ من كشف السينما اللبنانية “مُقدّمات الأزمة المعاصرة” للبلد، و”سوء إدارتها وطرائق التعامل معها”. بيان إدارة المهرجان يذكر أنّ المخرجين اللبنانيين قادرون، في عقود متواصلة، على “تحويل صدماتهم وخبراتهم إلى سرديات سينمائية مُبدعة”، تساهم “في تشكيل مسارات المقاومة”، وتتجلّى فيها “مساعيهم إلى مواجهة أقدارهم بشجاعة”.
البيان المقتضب، الذي يُعرّف المهتمّين والمشاهدين على أسباب اختيار هذه السينما في ذاك البرنامج، غير منفضٍّ عن الأزمة الخانقة التي يُعانيها اللبنانيون واللبنانيات، خاصة منذ “انتفاضة 17 أكتوبر” (2019)؛ وغير متغاضٍ عن “جذور” تلك الأزمة، فالحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) أحد تلك الجذور، وسبب “انشقاقات مجتمعية طائفية عنيفة”. يستعيد البيان مرحلة ما بعد النهاية المزعومة للحرب، ذاكراً أنّ قادة الحرب ـ “روؤساء الأحزاب الطائفية، وقادة الميليشيات العسكرية المنخرطة في الحرب” ـ ينتقلون، في السلم الأهلي الهشّ والناقص، إلى السلطة، ويتعاقبون على حكم البلد إلى اليوم: “يحاول المخرجون والمخرجات في لبنان، في ظلّ الفساد الاقتصادي والسياسي للطبقة الحاكمة، مواجهة الخطاب السياسي السائد، من خلال التعرّض بالنقد للأوضاع السياسية والاجتماعية، وطرح تصوّرات بديلة” في أفلامهم. يُشير البيان إلى أنّ المهرجان، في دورته الجديدة هذه، يُكرّم “تلك السينما المُقاومة”.
تعكس الأفلام اللبنانية المختارة لـ”بقعة ضوء” تنوّعاً متعدّد الاتجاهات:
ـ تواريخ الإنتاج تُشير إلى مسارٍ غير مُنقطعٍ لتلك السينما، ما يؤكّد تواصلاً في سيرةٍ، تمزج الثقافيّ بالسياسي والاجتماعي، والجمالي بالفني والتقني.
ـ “أجيال” عدّة، يحاول البرنامج تقديم شيءٍ من نتاجاتها، ما يُثبِّتُ واقعاً مفاده أنّ اختلاف أزمنة الاشتغالات غير متناقضٍ مع الأساسيّ: غلبة اشتغال سينمائيّ، في معاينة أحوال بلدٍ واجتماع وأناس وعلاقات وانفعالات وتفكير.
ـ التوثيق غير مأسورٍ في نمطٍ واحد، لأنّ كل فيلمٍ من الأفلام الوثائقية يمتلك خصوصية وحميمية ذاتيّتين، تُحركّان الإخراج في تبيان مواجع فردية، منفتحة على العام. المشترك بينها كامنٌ في تحرير النوع الوثائقي من تقليديته، بالاستعانة بأنواع فنية عدّة، كالتحريك والمتخيّل في صلب البناء السينمائي لكلّ فيلمٍ.
ـ الحرب الأهلية اللبنانية غير المنتهية، والسلم الهشّ والناقص، مرحلتان تحرّضان على تفكيك مسائل وحكايات وأحوال، بحثاً في مكامن خللٍ، أو في أسئلة معلّقة، أو في إجابات مبهمة. إنّهما هاجسٌ يحثّان سينمائيين وسينمائيات لبنانيين على الحفر في الذاكرة والراهن، لتوثيق تلك الذاكرة وذاك الراهن، روائياً ووثائقياً، بلغة بصرية متماسكةٍ ومتآلفةٍ مع أمزجة صانعيها وخياراتهم ومشاعرهم.
***
مخرج ومخرجتان لبنانيون ينتمون إلى مرحلة التأسيس الفعلي لسينما لبنانية جديدة ومختلفة، تبدأ عشية اندلاع الحرب الأهلية، وتجهد في إكمال سيرتها الصادِمة والمتفلّتة من مفهوم تجاري استهلاكي للأفلام. “السينما البديلة”، بحسب المتّفق عليه تأريخياً، تنبثق من لحظة تحوّلٍ، تعيشها بيروت نهاية ستينيات القرن الـ20 والنصف الأول من سبعينياته، وترتبط بهموم الناس، وبمسائل عيشٍ وعلاقاتٍ وغليانٍ، نابعٍ (الغليان) من أسئلة عدّة، في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة.
برهان علوية يحضر في “بقعة ضوء” مع “بيروت اللقاء” (1981)، بنسخة مُرمّمة يُحتَفَلُ بها لبنانياً قبل وقتٍ قليل على عرضها في “مهرجان الفيلم العربي في برلين”، الذي يستعيد روائياً لجوسلين صعب بعنوان “كان يا ما كان بيروت، حكاية نجمة” (1995)، ووثائقياً لرنده الشهّال بعنوان “حروبنا الطائشة” (1995). الروائي الثاني لعلوية (بيروت اللقاء)، بعد كفرقاسم” (1974)، يلتقط شيئاً قاسياً وحادّاً في بنية العلاقات بين الناس، في بدايات حربٍ تمزّق بيروت، وتعطب علاقة حبّ بين مسيحية ومسلم، وتشوِّه معالم حياة وانفعالات. الفيلم مُحمَّل بصُوَر مُكثّفة، تُعرض بسلاسة تتناقض وعنف حربٍ وأفراد، وتكشف بشاعاتٍ تُصيب مدينة وناسها. صعب تستعيد تاريخ بلدٍ وسينما عبر صُور كثيرة، ولقطات من أفلامٍ، تشاهدها صديقتان عائدتان إلى مدينتهما للتعرّف عليها، عبر عدسات كاميرات سينمائية، وعينيّ جامِع أفلامٍ، وعبر صوت طالعٍ من أزمنة عنف وخراب، إلى لحظة تُنبئ بسلمٍ مرغوب فيه، قبل أنْ يُصبح السلمُ حرباً من نوعٍ آخر. أما الشهّال، فتضع أفراد عائلتها أمام كاميرا توثيقية، لتروي معهم وعبرهم فصولاً من أهوال تلك الـ”حروب” الـ”طائشة”، جاعلةً (الشهّال) فيلمها هذا شهادة سينمائية عن تاريخٍ وذاكرة وحكايات، يتداخل فيها كلّها الذاتي بالعام.
***
8 أفلام وثائقية لمخرجين ومخرجات ينتمون إلى مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، وبعضهم/بعضهنّ يبدأ اشتغالاته منذ أعوامٍ قليلة. يغلب على تلك الأفلام الطابع الفردي: حكايات تُروى على ألسنة أفرادٍ، بلغة سينمائية متماسكة، وباشتغال فنيّ يٌلغي غالباً الخطّ الفاصل بين التوثيق والمتخيّل، ويستفيد من أدواتٍ غنيّة بما يصنع شهاداتٍ ذاتيّة، تنفتح على العام. أفلامٌ تكشف أحوال أناسٍ، تتحوّل حكاياتهم إلى مرايا، تُعرّي بلداً واجتماعاً وعلاقاتٍ ونفوساً وتفكيراً. وهذا غير لاغٍ حفراً في هموم جماعات، مُصابة بخرابٍ يمتدّ من الجسد إلى الروح، ومن المرء إلى المدينة، ومن الماضي إلى الراهن.
الاختيار يعني أنّ الاشتغال الوثائقيّ السينمائي اللبناني مهمومٌ بسيرة، ترتكز أساساً على عيشٍ وأعطابٍ وأسئلة معلّقة، تريد رسم معالم حالةٍ، وتوثيق شهاداتٍ، وبعض هذا التوثيق بصريٌّ، أي أنّه معنيّ أولاً ببلورة معادلةٍ سينمائية بين النصّ والصورة.
مثلٌ أول: “طرس، رحلة الصعود إلى المرئي” (2018) لغسان حلواني. التنقيب في مسألة المفقودين والمغيّبين قسراً (نحو 17 ألف فردٍ)، انطلاقاً من تجربة شخصية (والد المخرج أحد المفقودين في الحرب الأهلية اللبنانية، غير المعروفة مصائرهم إلى الآن)، تُتيح (التجربة) إمكانية الغوص في السؤال المعقّد، الذي تتشابك فيه أسئلة الحرب والهوية والفقدان والتغييب والذاكرة، والذي يُصنَع بمزيجٍ فني بين مشاهد واقعية، وأخرى مشغولة بتقنية التحريك.
مثلٌ ثانٍ: “أبي لا يزال شيوعياً، أسرار حميمة للجميع” (2013) لأحمد غصين. استخدام سينمائي لأشرطة “كاسيت” قديمة، تُسجّل عليها رسائل أمٍ إلى زوجها المسافر، أيام الحرب الأهلية نفسها، يجعلها (الاستخدام) فيلماً يكشف شيئاً من يوميات عائلة في زمنٍ مليءٍ بالعنف والخوف والرغبات المعطّلة، والتمزّق الأليم الذي تفرضه الحرب على العائلة.
مثلٌ ثالث: “إضطراب” لسارة قصقص و”إعلان حرب” لإيلي داغر (مشروع مؤلَّف من 5 أفلام قصيرة، بعنوان “بيروت… آب 2021”. المنتجة: نرمين حداد. إدارة الإنتاج: أنطوني زوين، مع “بيروت دي سي” وDanish – Arab Partnership Programme وIMS، بالشراكة مع “المفكرة القانونية”): انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020) لحظة تحوّل جذري في مسارات أناسٍ، مُصابين بصدمة القتل، والباقون أحياءً يحملون جراحاً في النفس والروح، ويبحثون بين الغبار والركام والأنقاض عن أنفسهم وأجسادهم وانفعالاتهم، ويروون مخاوف وارتباكات وإحباطات وخيبات.
هذا حاضرٌ في “إعادة تدمير” (2021)، لكنْ خارج الاختبار الذاتي الفردي. سيمون الهبر يتجوّل بكاميراه في أزقّة وأبنيةٍ وذواتٍ، تحيط بجغرافيا المرفأ، وتلتقط أهوالاً تعود جذورٌ لها إلى ما قبل الانفجار، أي إلى مرحلة السلم الأهلي الهشّ والناقص، وإلى حربٍ وما قبلها أيضاً. شيءٌ من تاريخ البلد مشغولٌ في “مارسيدس” (2011) لهادي زكّاك، الذي يكتبه بصُور خالية من الحوار، مكتفياً بسيرة السيارة الألمانية “مرسيدس”، التي تُشكِّل جزءاً أساسياً من سيرة لبنان وناسه، منذ خمسينيات القرن الـ20.
***
أمثلةٌ غير لاغيةٍ أفلاماً روائية، بعضها معنيٌّ مباشرة بالحرب وإفرازاتها ونتائجها وتأثيراتها، كـ”أرض مجهولة” (2002) لغسان سهلب، و”دفاتر مايا” (2021) لجوانا حاجي توما وخليل جريج، بينما يُعاين “كوستا برافا” (2021) لمنية عقل راهناً غارقاً في مأزق نفاياتٍ، يعانيه البلد منذ أعوام، لتبيان أزمة اجتماعٍ وسياسةٍ وعيشٍ.
أفلامٌ لبنانية أخرى مختارة لبرنامج “بقعة ضوء”، إلى جانب نقاشاتٍ نظرية تتناول “السينما في وقت الأزمات” و”الأدوار المختلفة للأرشيف في بناء خطاب سينمائي بديل: من الشخصي إلى العام”، يُفترض بها قراءة موقع السينما اللبنانية، باشتغالاتها المتنوّعة، في ارتباطها ببلدٍ وناسه، وبهموم بلدٍ وناسه.