يستعيد الجسد الفلسطيني في تعبيراته حدود المواجهة مع الاحتلال، الجسد يثبت في مكانه أو يتمدد على الأرض، يتكور حول نفسه في المعتقلات كأنه رسالة مفتوحة على كل احتمالات الوجود، يبني فيها الفلسطيني قدرته على خلق نفسه من جديد، من هذا الخلق المتجدد تتشكل فضاءات الجسد الفلسطيني في مساحات ضيقة يحرص فيها الاحتلال على ضبط الواقع المفروض على الأجساد، من خلال تقييدها وتعذيبها وإخضاعها بشكل ممنهج، في وقت استمر الفلسطيني في التعبير بجسده عن حياته وموته، وخلق أساليب جديدة تعبر عن سلطته الخاصة على جسده، ومن خلال هذا الخلق المستمر تقول سرية رام الله الكثير في مهرجان رام الله للرقص المعاصر في نسخته 16 الممتدة من 8 إلى 13 حزيران، يقدم المهرجان 19 عرضاً 13 منهم عروض مباشرة و 6 منهم “أون لاين”، كما يوجد ثلاث ورشات عمل لمناقشة واقع الرقص المعاصر وحدود الجسد في الواقع السياسي والاجتماعي المعقد.
في لقاء مع المدير التنفيذي لسرية رام الله خالد عليان قال: “في هذه السنة لقد عدنا للوضع الطبيعي بعد الظروف الصعبة التي فرضها وباء كورونا، لذلك أعدنا المشاركة الدولية للمهرجان، سوف يكون هناك مشاركة من عدة دول من ضمنها إيطاليا وسويسرا والنرويج وتونس وفرنسا، مازالت ظروف تنظيم المهرجان صعبة في ظل الضغط السياسي الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة لتراجع تمويل القطاع الثقافي من قبل المؤسسات المانحة وفرض شروط معقدة نرفضها تماماً، لذلك لأول مرة سوف يكون هناك جلسة حوار ضمن المهرجان لمناقشة مستقبل المهرجانات في فلسطين وكيف يمكن مواجهة كل التحديات السياسية والاجتماعية والمالية”
يضيء مهرجان الرقص المعاصر في كل عام على حرية التعبير التي يبحث عنها الراقصون باستمرار، تعكس واقعاً يضبط حرية الأفراد ويكرس سلطته على أجسادهم، وبذلك يكون المهرجان مساحة مفتوحة لرؤية أوسع يتم التعبير من خلالها عن الحياة الخالية من الحدود والحواجز والمعتقلات، بل ويخلق احتمالات جديدة نرى فيها قدرة الفن على تحليل الأزمات التي تشكل عائقاً أمام قدرة الفرد على التعبير، لذلك دائماً ما تكون المساحات التي يخلقها مهرجان الرقص مفتوحة على أجساد تعيد صياغة واقع جديد، وتعبر بطريقة ما عن الحدود التي يجب كسرها من خلال العمل الفني الذي يتحول إلى مرآة ترى حدود الممكن، وتدفعنا لتأمل التجارب الاجتماعية والسياسية التي نمر فيها كمجتمعات.
“رفاق في الظلام”
بأجساد تنقبض بمساحات ضيقة من الضوء ثم تنفض القضبان من حولها، افتتح المهرجان هذا العام بعرض “رفاق في الظلام”، الذي يعتبر مساحة يرى فيها المتابعون فضاء الأسرى في عالم ضيق يفرضه السجان، ونرى فيه تجارب الأسر في العالم، وما تحتويه القضايا التي يدافع عنها الأسرى من إيمان يدفعهم لاختيار الإضراب المفتوح عن الطعام، في سبيل الحصول على حقوقهم، تتساقط الأضواء على خشبة المسرح على إيقاع موسيقى “البودرهان” الإيرلندية التقليدية، بينما يعبر الراقصون بقع الضوء وهم يصورون الجوع والبرد ورعشات الموت القصيرة وهي تنتفض بداخلهم، وعن الكلمات، الكثير من الكلمات التي يحاول أن يبني من خلالها الأسير العالم من حوله.
قدم العرض فرقة كايتلين بارنيت البريطانية المكونة من أربع راقصين وعازف ومن تصميم كايتلين بارنيت، التي روت حكاية الأسير الإيرلندي بوبي ساندز الذي خاض إضراباً مفتوحاً عن الطعام عام 1981 أثناء حبسه في سجن “إتش إم ماز”، والذي توفي مع تسعة من رفاقه بعد 66 يوم من الإضراب، إن الموت الذي شكله رحيل ساندز وهو ذاته الحلم الذي بحث عنه طوال فترة سجنه، ونرى في العرض هذه الروح التي تحرص على الإيمان بالحلم والتمسك بالحقوق، وخلق إرادة يمكن من خلالها مواجهة أقسى ظروف السجن.
ضم العرض أيضاً نصوصاً من مذاكرات ساندز ترجمت للإنجليزية والعربية، والتي عكست معنى التحدي الذي يعيشه الأسرى الفلسطينيون اليوم في سجون الاحتلال، وما تحتويه التجربة من معاني يمكن أن يختبرها الأسير في بحثه عن الحرية.
“تحولات”
أن الجسد في مضمونه فضاء مفتوح على جميع احتمالات الحياة، نرى فيه قدرتنا على تجاوز أنفسنا ونخوض به صراعاً كبيراً حول الموت والحياة، من هذا الصراع تنتج تحولات تدفعنا لتأمل أنفسنا من جديد، لذلك نرى في عرض “تحولات” سيرة التحول الذي يخوضه الجسد وهو يكتشف النضج الذي يحتاجه لمواجهة الموت، والاقتراب من النجاة، ويحاول القبض على كل لحظة نرى فيها أنفسنا من جديد ونحن نقترب من أجسادنا أكثر، للإجابة عن أسئلة أكبر حول معنى الوجود ومدى تقبلنا لأنفسنا في لحظات الإصابة في مرض السرطان.
قدم العرض فرقة “شمس” من فلسطين، في المسرح البلدي دار بلدية رام الله، من تصميم جمانة دعيبس التي اكتشفت في تجربتها مع معرض السرطان، حدود جسدها وهي ترصد هذه التحولات التي يخوضها الإنسان في لحظات المرض، وكيف تتحول نظرتنا إلى الموت والحياة، وما يمكن أن يمثله التقبل في لحظات الضعف، وما يمكن أن يصنعه الجسد وهو يبحث عن معنى جديد يرى فيه قدرته على تجاوز صراعه حول الإيمان بالنجاة، لذلك رأت جمانة دعيبس في عرضها ما يمكن أن يأخذنا إلى فهم مضمون التجربة من خلال راقصتين هم ريما برانسي و ريبيكا قاعود بالإضافة للمغنية والمؤدية مجد حجاج التي قدمت صورة الموت.
قالت جمانة دعيبس لـ “رمان”: “لقد حاولت أن استخدم رحلتي وخبرتي مع المرض في فكرة أساسية مستوحاة من النظرية الشخصية لفرويد، التي تتناول شخصيتين في داخل الإنسان تمثلان الخير والشر، يخوضان صراعاً حقيقياً حول ما يجب أن نفعل، عندما عرفت أنني مصابة بالسرطان أصابتني فوضى رهيبة في ذهني، وكل أفكاري كانت مشتتة، ولم أستطع التفكير بطريقة واضحة، ولكن عندما تقبلت المرض وأنني يجب أن أخوض رحلة العلاج، شعرت بهدوء في ذهني، وصارت الصورة واضحة جداً، ومن هنا جاء الإلهام لهذا العرض، ولذلك كان هناك جزء في العرض يتحدث عن مواجهة الموت، وأن الموت جزء أساسي من الحياة، وكيف يمكن أن نكوّن فكرة القبول”
“أضحية الربيع”
عرض “أضحية الربيع” المستلهم من عرض “طقوس الربيع” الذي قدم لأول مرة في باريس عام 1913، والذي يعتبر من أوائل عروض الرقص المعاصر في العالم، يتناول فكرة عشق الأرض وتقديم أضحية الربيع من تأليف إيجور سترافينسكي، تحول في مهرجان رام الله للرقص المعاصر، إلى صورة كبيرة تعكس الثورة بكل تجلياتها وما يخوضه الإنسان فيها من احتمالات تدفعه للهزيمة والانتصار، وما يجب أن يقدمه من تضحيات كثيرة للوصول للربيع الذي ينتظره، قدم العرض في الهواء الطلق ضمن سرية رام الله الأولى، بإدارة مصممي الرقص التونسيين عائشة بكار وحفيظ ضو، ويعتبر العرض إنتاجاً مشتركاً بين أكاديمية روما للرقص وسرية رام الله، وأدى العرض ستة راقصين فلسطينيين كانوا في منحة تدريبية لعام كامل في روما، مع ستة راقصين من إيطاليا ليقدم العرض 12 راقص.
يشتبك عرض “أضحية الربيع” بالربيع العربي وما يحتويه من معاني نرى فيها لهاث الأجساد وخوفها، قدرتها على اقتحام لحظات العنف، ومواجهة كل احتمالات الأمل، لتمتد الأجساد على كامل الأرض أمام سؤال الوطن، وقدرة الثورة على التغيير، هذه الأضحية التي قدمها الراقصون بلورت مضمون التغييرات الاجتماعية التي عشناها في وطننا العربي، والتي انطلقت من تونس إلى عواصم الدول العربية، ويشكل هذا التقاطع السياسي جوهر العمل، وما شكلته الأجساد بتعبير حقيقي عن جدوى كل الصراعات التي نخوضها مع السلطات السياسية، لذلك كانت الأجساد في العرض ترمي الحجارة وتتفادى الألم، وتقترب من الحقيقة وتحاول أن تظلل نفسها في محاولة لتفسير النجاة وما تحتويه من إدراك شامل لمفهوم الثورة، كما يدفع العرض المشترك لتأمل تجربتنا كشعوب نخوض صراعاتنا الداخلية، ونبحث عن أشكال حياة مستقرة، نسعى من خلالها لتكوين ذات حرة تؤمن بالأمل والعدل والأمان.
كما قال مصمم العرض لـ “رمان”: “حاولنا أن نقدم في العرض وجهة نظر فنية للتجربة السياسية التي نخوضها، ونلاحظ في العرض أن الموسيقى كانت مفروضة على الأجساد، كأن الإيقاع يكسر ويضغط، ويجب على الراقصين ان يسيطر عليهم الحماس ليخرجوا من الإيقاع، وهذا فعلياً ما كان يحدث في السياسة، إن الإيقاع السياسي الذي كان يفرض علينا كانت يضغط على الناس، وهذا الضغط كان فرصة للثورة، ونحن حولنا عرض “طقوس الربيع” العالمي إلى عرض يشبهنا ويعبر عنا بطريقة ما”.
أخيراً، مع كل عام يشكل مهرجان الرقص المعاصر مساحات جديدة من الضوء، في عالم معتم بالاحتلال والاستبداد والاضطهاد اليومي للحرية. إن المهرجان مع كل عام يعيد بناء هذه المساحة من التعبير لنرى أنفسنا من جديد ونحن نتحسس مساحات الضوء التي يتركها بداخلنا، وندرك أن ما زال في التجربة ما يستحق أن يقال، من هنا يشكل المهرجان نافذة مفتوحة على كل الأحلام، ولتأمل كل التجارب السياسية والاجتماعية وحتى الشخصية التي نخوضها بأجسادنا، لذلك كل الأجساد التي تصعد مسرح مهرجان الرقص المعاصر هي بطريقة ما أجسادنا كلنا ونحن نحاول أن نصنع عالمنا الذي نحلم به باستمرار، كل خطوة نحو الأمام يقوم بها الراقصون هي مساحة نبحث عنها ونقاتل من أجلها، في المساحات المعتمة التي يفرضها علينا الاحتلال والاستبداد بشكل يومي.