اقتفاء أثر غسان كنفاني سينمائياً

أوس يعقوب

كاتب من فلسطين

إنّ توظيف الأدب الفلسطيني في السينما الفلسطينية أو العربية بعد نكبة عام 1948، لم يكن موفقاً فالكثير من القامات الأدبية الكبيرة من أمثال إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا ومحمود شقير وسحر خليفة لم تحوّل أياً من رواياتهم إلى فنٍّ مرئي، رغم وجود بعض الاستثناءات كروايات غسان كنفاني وإبراهيم نصرالله ووليد سيف. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

25/11/2022

تصوير: اسماء الغول

أوس يعقوب

كاتب من فلسطين

أوس يعقوب

يعمل كاتباً ومراسلاً صحفياً لعدد من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية منذ العام 1993. صدر له عدة كتب ودراسات في الشؤون الثقافية الفلسطينية والعربية. وله مجموعة دراسات منشورة ضمن موسوعة "أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين"، الصادرة عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) في تونس.

ضمن ملف مجلة “رمان الثقافية” الممتد على طول العام 2022، بمناسبة نصف قرن على اغتيال غسان كنفاني (عكا 9 نيسان/ أبريل 1936 – بيروت 8 تموز/ يوليو 1972)، نحاول في هذه المقالة اقتفاء أثر غسان سينمائياً في حياته القصيرة (36 عاماً)، قدر المستطاع، فنحن وإن كما نعرف الكثير عن تفاصيل رحلة غسان كنفاني مع الأدب والصحافة والفن التشكيلي والسياسة والفكر المقاوم، إلّا أننا نجهل تفاصيل كثيرة عن رحلته مع المدونة السينمائية الفلسطينية والعربية…

عين غسان السينمائية

إنّ توظيف الأدب الفلسطيني في السينما الفلسطينية أو العربية بعد نكبة عام 1948، لم يكن موفقاً فالكثير من القامات الأدبية الكبيرة من أمثال إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا ومحمود شقير وسحر خليفة لم تحوّل أياً من رواياتهم إلى فنٍّ مرئي، رغم وجود بعض الاستثناءات كروايات غسان كنفاني وإبراهيم نصرالله ووليد سيف. 

ويجد الباحث عن عين غسان السينمائية، بصفائها وحساسيتها، حاضرة في رواياته المكتملة وغير المكتملة، وهو ما يؤكده السينمائي العراقي، قيس الزبيدي، بقوله: “نستطيع أن نؤكد أنّ أدب غسان كنفاني (رواياته) ليس أدباً خالصاً وإنما أدبٌ فيه كثير من السينما، فيه سينما أكثر بكثير من كثير من الأفلام”. مبيناً أنّ غسان “يعترف بتأثير وليم فوكنر على كتابته ومحاولته للاستفادة من الأدوات الجمالية والإنجازات الفنية التي حقّقها الكاتب الأميركي لتطوير الأدب العالمي. وهكذا، إذاً، أصبح أمامنا روايات مسرودة وفق تقنيات المونتاج، تعدد جهة السرد، العناية برسم بصرية سينمائية، العناية بالبناء الزمني للأحداث، ليس على أساس التعاقب فقط وإنما أيضاً على أساس التوازي والتزامن”.

ومما يذكره الروائي والناقد الفلسطيني الراحل فاروق وادي، أنه “في البحث الدائب عنه، لم نعثر على ما يشي باهتمامات غسان كنفاني السينمائية، ربما باستثناء إشارة عابرة تومئ إلى أنّ غسان كان قد كتب سيناريو ليوسف شاهين بعنوان “أزهار الخوخ” أو (زهر البرقوق)، مما يحيلنا فوراً إلى عنوان روايته التي لم تكتمل.. “برقوق نيسان” ويدفعنا إلى مزيد من البحث والتقصي! وسواء ثبت لنا انشغال غسان كنفاني في الكتابة السينمائية أو لم يثبت، فإنّ الباحث عن عين غسان السينمائية سوف يجدها، بصفائها وحساسيتها، حاضرة في رواياته المكتملة وغير المكتملة”. 

ووفقاً للعديد من المقالات النقدية التي استعنت بها وأنا أعدُ هذه المادة، فإنّ حصيلة السينما في اعتماد روايات غسان كنفاني، في أعوامه الستة والثلاثين التي قضاها بيننا على الأرض، روائياً وقاصاً وكاتباً مسرحياً وناقداً وفناناً تشكيلياً وقائداً سياسياً ومفكراً وإنساناً، هي حتى الآن، أربعة أفلام روائية عن ثلاث روايات، هي على النحو التالي: رواية «رجال في الشمس» فيلم (المخدوعون)، ورواية «ما تبقى لكم فيلم (السكين)، ورواية «عائد إلى حيفا» فيلمان، السوري (عائد إلى حيفا)، والإيراني (المتبقي).

المخرج العراقي قيس الزبيدي، يشير في هذا السياق، إلى أنّ التباساً انتشر في أدبيات السينما عموماً، حيث اُعتقد أنّ الفيلم السوري الأول (رجال تحت الشمس) مأخوذ عن رواية كنفاني «رجال في الشمس» غير أنّ سيناريو هذا الفيلم، الذي يتضمن ثلاث قصص عن المقاومة الفلسطينية، كتبت قصصه الثلاث مباشرة للسينما، وحمل الفيلم عنواناً مشابهاً تقريباً لعنوان رواية غسان.

«القنديل الصغير»… حكاية مختلفة عن غسان 

أما بالنسبة للأفلام الرواية القصيرة التي تناولت بعض أعمال غسان الأدبية، فنكتفي هنا بذكر أبرزها، وهي: الفيلم العراقي (البرتقال الحزين) 1969، المأخوذ عن قصة «أرض البرتقال الحزين»، إخراج كركيس يوسف، وهو من إنتاج التلفزيون العراقي، مدته 20 دقيقة؛ وفيلم (زهرة البرقوق) 1973، للمخرج ياسين البكري، إنتاج “مؤسسة السينما والمسرح”، مدته 22 دقيقة؛ والفيلم الروائي (وصية أم سعد) 1976، للمخرج العراقي حسن العبيدي، والمأخوذ عن رواية «أم سعد» مدته 20 دقيقة.

وتبقى الأفلام التي تطرقت إلى شخص غسان كإنسان ومناضل ومفكر وشهيد، والتي لم تشتق صورتها من كلام لغسان، وإنما عنه، فقد تمكنا من توثيق عدد منها، وهي: «لماذا المقاومة؟» 1970، للمخرج اللبناني الراحل كريستيان غازي، مدته 40 دقيقة؛ و«لن تسكت البنادق» 1973، لقاسم حول، والذي أنتجته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لتبني وثيقة بصرية مستندة إلى خطاب جورج حبش، الأمين العام للجبهة، في الذكرى الأولى لاستشهاد كنفاني، مدته 17 دقيقة؛ و«الكلمة – البندقية» 1973، لقاسم حول، وهو من إنتاج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أيضاً، مدته 20 دقيقة، ونجد فيه وثيقة بصرية نادرة، يتحدث فيها غسان باللغة الإنكليزية، وهي من المشاهد الحيّة القليلة لغسان، المتوفرة في أرشيف “سينما الثورة الفلسطينية”؛ وفيلم «الإرهاب الصهيوني» 1973، من إخراج السينمائي العراقي الراحل سمير نمر، مدته 22 دقيقة؛ وفيلم «أوراق سوداء» 1979، من إخراج الفلسطيني فؤاد زنتوت، وإنتاج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مدته 20 دقيقة؛ و«نساء في الشمس» 1999، للمخرج الفلسطيني صبحي الزبيدي، مدته 57 دقيقة؛ وحقّق المخرج الفلسطيني إسماعيل هباش، عام 2000، فيلماً بعنوان «ما زال الكعك على الرصيف»، مقتبس عن قصة «كعك على الرصيف»، وهو فيلم روائي قصير مدته 27 دقيقة، جاء ضمن مشروع “بيت لحم 2000″؛ وقدّم المخرج فجر يعقوب عام 2003، فيلمه «صورة شمسية»، وهو فيلم وثائقي قصير، مدته 16 دقيقة؛ وفي عام 2009، أنجز المخرج البحريني محمد إبراهيم محمد فيلمه «زهور تحترق»، روائي قصير، من إنتاج الشركة البحرينية للإنتاج السينمائي، وهو الفيلم الثاني المقتبس عن قصة غسان «كعك على الرصيف»، وعنه فاز محمد بجائزة “أفضل خليجي روائي قصير” في مهرجان الشرق الأوسط السينمائي قسم (أفلام من الإمارات)، كما حصد بطل الفيلم إبراهيم البيراوي جائزة “أفضل ممثل” في المهرجان؛ وفي العام 2010 أنجز المخرج الفلسطيني السوري رامي السعيد، فيلماً بعنوان «أسطورة العشق الفلسطيني»، من إنتاج “وحدة سينما العودة الفلسطينية” التابعة لـ “بيت الذاكرة الفلسطينية” في سوريا.

وفي منتصف هذا العام 2022، استطاع المخرج الايطالي ماريو ريتزي، إنجاز فيلم حمل عنوان «القنديل الصغير»، قدّم من خلاله حكاية مختلفة عن غسان كنفاني، أساسها قصة رفيقة دربه السيدة آني هوفر (أم ولديه فايز وليلى)، التي تروي، وعلى طول الشريط، مقالب من سيرتها وعلاقتها بغسان.

بالإضافة إلى ما استطعنا حصره من أثر غسان في السينما الفلسطينية والعربية، يذكر الناقد السينمائي الفلسطيني الراحل بشار إبراهيم أنه ثمّة فيلماً إسرائيلياً، بعنوان «تابوز»، أنتج عام 1998، أراد الحديث عن أرض البرتقال، تلك الأرض، ذاتها، التي طُرد منها غسان، من أجل تحويلها إلى “أرض إسرائيل”، فاعتمد الفيلم على مجموعة من النصوص الأدبية: «بستان برتقال» لبنيامين تموز، و«ممر قشور البرتقال» لناعوم غوتمان، و«غرام البرتقال» لداليا رافيكوفيتش، و«أرض البرتقال الحزين» لغسان كنفاني!

كما يحدثنا إبراهيم، عن جانب خفيّ، هو الأهم في علاقة غسان كنفاني ببدايات وتأسيس “سينما الثورة الفلسطينية”، قائلاً: “يذكر المخرج العراقي قاسم حول، في لقاء مُسجّل معه، أنه وصل في العام 1970 إلى بيروت قادماً من العراق، وكان في طريقه إلى أبوظبي، إذ كان عليه أن يتحصّل على فيزا من السفارة البريطانية في بيروت، للسفر إلى أبوظبي والعمل هناك، ولم تكن دولة الإمارات العربية المتحدة قد وُلدت، حينذاك. وفي بيروت، وعن طريق الصحفي والكاتب العراقي جمعة اللامي، سيلتقي قاسم حول بالأديب غسان كنفاني، وستنطلق فكرة العمل في القسم الثقافي في مجلة “الهدف”، التي كان غسان يرأس تحريرها. وهذا العمل كان فاتحة علاقة بين الإثنين أفضت إلى المشاريع المؤسِّسة للسينما الفلسطينية، بالتوازي مع الجهود الرائدة التي كان يبذلها المخرج مصطفى أبوعلي ومجموعة من السينمائيين العاملين في المؤسسات السينمائية التابعة لحركة فتح، من ناحيتهم، وهم الذين كانوا قد شرعوا بالعمل السينمائي منذ سنوات، وتمكنوا من تحقيق فيلمي «لا للحل السلمي»، و«بالروح بالدم» في فترة التواجد في عمّان”. يتابع إبراهيم: “في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كانت البداية من خلال تنظيم «ورشة عمل مسرحية في نهر البارد»، قام بها قاسم حول، بالتعاون مع الكاتب جمعة اللامي، والفنانة التشكيلية منى السعودي، تلك الورشة التي انتهت إلى إنجاز مسرحية «طفل بلا عنوان». ويذكر قاسم حول أن غسان هو من منح المسرحية اسمها، وهي التي كانت شرارة التفكير بإنجاز وثائقي عن مخيم “النهر البارد”، الذي تحقّق بنجاح عام 1971، وقدّم صورة ونبرة سينمائية مختلفة. وفي الطريق إلى فيلم (نهر البارد)، كانت لقاءات قاسم حول مع غسان، ومن ثم مع جورج حبش، أفضت إلى توفير مستلزمات التأسيس لعمل سينمائي فلسطيني، من معدات تصوير، وإمكانية التحميض في أستوديو بعلبك، وميزانية قدرها 4 آلاف ليرة لبنانية. وفعلاً تحقّق فيلم (نهر البارد)، على النحو المأمول، وذهب للعرض في مهرجان “لايبزيغ”، وتم رفع العلم الفلسطيني في المهرجان، وكُتب عن الفيلم باهتمام في الصحافة العربية والأجنبية”.

ثلاثة أفلام عربية وآخر إيراني عن ثلاث روايات

بالعودة إلى الأفلام الأربعة الروائية الطويلة المأخوذة عن روايات غسان الثلاث، فإنّ أول فيلم روائي طويل تم إنجازه عن رواية «ما تبقى لكم»، هو فيلم «السكين» 1971، للمخرج السوري الراحل خالد حمادة، والذي أنتجته “المؤسسة العامة للسينما” في دمشق، ومدته 87 دقيقة، وقام بأدواره الرئيسية: الممثلة المصرية سهير المرشدي، ومن سوريا؛ رفيق السبيعي، بسام لطفي، ناجي جبر.

والفيلم الثاني، هو «المخدوعون» 1972، للمخرج المصري الراحل توفيق صالح، ومن إنتاج “المؤسسة العامة للسينما”، وهو مأخوذ عن رواية «رجال في الشمس»، التي أصدرها عام 1963، ومدته 110 دقائق، وقام بالأدوار الرئيسية: عبد الرحمن آل رشي، بسام لطفي، محمد خير حلواني، ثناء دبسي، والذي حصل على العديد من الجوائز السينمائية العربية والدولية، وأهمها “التانيت الذهبي” في مهرجان أيام قرطاج السينمائية عام 1972، واعتبر “رائعة كلاسيكية من السينما العربية”، ووُصف عمل توفيق صالح في هذا الفيلم بأنه “إخراج حاذق وتصوير نضر بالأسود والأبيض”، وأنّ الفيلم “واحد من أفضل درامات التشويق في السينما العربية”.

ومما يذكره الشاعر الفلسطيني الراحل أحمد دحبور، عن تفاصيل إنجاز هذا الفيلم من قبل المخرج المصري توفيق صالح أنه افتتن بهذه الرواية فور قراءتها. وسعى منذ عام 1965 إلى إخراجها سينمائياً، فقدّم بذلك طلباً رسمياً إلى “المؤسسة العامة للسينما” في الجمهورية العربية المتحدة -فهكذا كان اسم مصر الرسمي يومها- لكنّ المؤسسة رفضت طلبه، وعرضت عليه بدلاً من ذلك، أن يحوّل كتاب “الأيام” للدكتور طه حسين إلى فيلم سينمائي فرفض بدوره هذا الاقتراح. وستبلغ المفارقة ذروتها عندما يأتي توفيق صالح إلى سوريا عام 1970، ويعرض مشروعه على “المؤسسة العامة للسينما” في دمشق، فتأتيه الموافقة يوم 17/1/1971. ولكنه يتلقى كتاباً رسمياً ينصح باستبعاد الخلفية الفلسطينية عن قصة غسان! لقد كشف المخرج الكبير عن هذه المفارقة في حديث صحفي مع مجلة “النقد السينمائي” المصرية (العدد الأول – 5/1998).. ولكنه لم يتوسّع في الموضوع. فقد كان غسان عضواً نشيطاً في حركة القوميين العرب التي كانت على عداء شديد مع حزب البعث الحاكم في سوريا. وعندما أصبح من قياديي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كانت الجبهة قد ورثت ذلك العداء عن الحركة وزاد الأمر تعقيداً أنّ اسم غسان كان مدرجاً ضمن سجلات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا. مما يعني أنّ دمشق تعتبر نفسها مسؤولة عنه إدارياً. وبالتالي فهو ليس مختلفاً مع النظام، ولكنه ملاحق. فكيف يتم الاتفاق مع شخص مطلوب؟ ومع ذلك فإنّ التيار المتنوّر في النظام -وله نفوذ كبير في مؤسسة السينما- قد تغلب على هذه العقبة، بحسب دحبور. وأمكن عقد اتفاق مع غسان لإنتاج روايته فيلماً سينمائياً. وكان توفيق صالح على عجلة من أمره فأعدّ السيناريو في شهر آذار/ مارس وبدأ التصوير في شهر تموز/ يوليو وأصبح الفيلم جاهزاً للعرض في الأيام الأخيرة من عام 1971.. “مع الخلفية الفلسطينية لقصة غسان”…

وعن قصة الفيلم وحكايته مع أجهزة الدولة السورية، بخاصة جهة الإنتاج “المؤسسة العامة للسينما”، يقول توفيق صالح، في حوار أجراه معه الناقد محمد شاهين رئيس تحرير مجلة “المجلة الثقافية”، التي تصدر عن الجامعة الأردنية، “كانت الرواية في السوق فاشتريتها وقرأتها وأعجبتني جداً. كان ذلك في الستينيات بعيد ظهورها بثلاثة أو أربعة أشهر. أعجبت بها جداً، ولم أكن أعرف غسان كنفاني حينئذ. كنت أعرف أخوه مروان الذي انضم إلى فريق النادي الأهلي لكرة القدم، ولكني كنت أعرف أحمد بهاء الدين. فقلت لبهاء إني قرأت القصة، وأريد أن أحوّلها إلى فيلم، فأجاب إنّ غسان سيحْضر إلى القاهرة بعد أسبوع، وعندما يأتي سأعرفك إليه. بعد أيام دعاني وزوجتي إلى العشاء في منزله، وكان غسان حاضراً، فانفردت به جانباً، وأخبرته أني أريد أن أحوّل «رجال في الشمس» إلى فيلم فوافق، وسألته بعض الأسئلة عن تفصيلات تتصل بموضوع الرواية، وأجابني عنها، وهذا ما كان. سافرت في نهاية ستينيات القرن الماضي إلى سوريا لأني لم أجد عملاً في مصر، وهناك تعرفت إلى سعد الله ونوس الذي أخذني إلى قرية والده، وجلسنا هناك عدّة أيام، وكتبنا فكرة الفيلم وسلمناها إلى المؤسسة في سوريا، فكتب أحدهم تقريراً ولكن ليس عما كتبناه، وإنما عن وجود مخرج مصري في سوريا، وأننا -أنا وسعد الله- شتمنا النظام السوري، وفي اليوم التالي اُقصي سعد الله ونوس من عمله، وكان مديراً للهيئة العامة للمسرح، وطالبوني بالنقود التي كنت قد قبضتها عند توقيع العقد، ولكني لم أكن أملكها فقد دفعتها أجرة للبيت الذي سكنته وأبنائي الذين اصطحبتهم معي. فقالوا لي: قدّم رواية جديدة، فقدّمت ما يقرب من 12 رواية من الأدب السوري رُفضت جميعها. وكانت تحت عيني «رجال في الشمس»، فقلت: أعمل هذه الرواية، وكانوا قد أحضروا شخصاً لا يفهم في السينما، ومع ذلك كتب سيناريو الفيلم، فقالوا لي خذ هذا السيناريو… ها هو جاهز، فقرأته، وقلت: عيب، أنا لا أعمل هذا. فقالوا: اُكتبه أنت، فكتبته بسرعة، وتم عمل الفيلم في ظروف غريبة. على الرغم من أنّ الظروف لا تشجع على إخراج أي فيلم، فقد تم إنجازه، وبعد ذلك منعوا عرضه على أساس أنّ مستواه الفني لا يرقى إلى مستوى الفيلم السوري بناء على تقارير المخرجين التابعين للمؤسسة”. يتابع صالح حديثه: “جرت العادة أن يُجمع جلّ المخرجين في البلد، وموظفي المؤسسة كلهم، لمشاهدة الفيلم في عرضه الأول. وأنا رأيت تأثير الفيلم على الحاضرين في ذلك العرض، كان مذهلاً، ففرحت.. وعندما ترى رجلاً كبيراً ومحترماً يبكي في نهاية الفيلم من شدة التأثر، تحمد الله على الكثير الذي حقّقته. واعتقدت، بسبب ذلك، أنّ الفيلم سيعرض قريباً ولكن ذلك لم يتم، لا بل تم منعه من العرض”.

أما الفيلم الثالث، فهو «عائد إلـى حيفـا» 1980 -1981، إخراج العراقي قاسم حول، ومن إنتاج “مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي” التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومدته 85 دقيقة، وهو الفيلم الروائي الطويل اليتيم في إطار “سينما الثورة الفلسطينية”، وقام بالمونتاج قيس الزبيدي، ووضع الموسيقى التصويرية زياد الرحباني، وأدّى الأدوار الرئيسية فيه: الممثل السوري جمال سليمان والألمانية كريستين شور، ومن لبنان: حنان الحاج علي، وبول مطر. 

ويرى نقاد سينمائيون أنّ فيلمي «سكين» لخالد حمادة، و«عائد إلـى حيفـا» لقاسم حول، عن عمل غسان الذي يحمل العنوان ذاته، قد خذلا المشاهدين والنقاد والسينمائيين، لأنهما كانا لا يرتقيان إلى الطموح إخراجاً وتمثيلاً.

أما الفيلم الرابع «المتبقي» 1995، الذي أخرجه الإيراني الراحل سيف الله داد، بكفاءات تمثيلية سورية، ومدته 85 دقيقة، ومن إنتاج “مؤسسة سينا فيلم” إيران، وقام بالأدوار الرئيسية: خالد تاجا، جمال سليمان، سلمى المصري، علاء الدين كوكش، جيانا عيد، والمأخوذ عن رواية غسان “عائد إلـى حيفـا”، وهي الرواية ذاتها التي حقّقها قاسم حول، فقط سقط في رداء الإيديولوجية الإيرانية بعد أن حور المخرج الرواية وسطا على بعض عناصرها، مقترحاً على المشاهدين رؤيته وخطابه الإيديولوجي، التي تفترق بشكل فادح مع رؤية غسان كنفاني! -كما ذهب إلى ذلك فاروق وادي-، والغريب أنّ سيف الله داد لم يشر في “تيترات” مقدّمة الفيلم إلى غسان وروايته، مكتفياً بإشارة مترددة في تيترات النهاية!

ختاماً؛ يمكننا القول: إنّ عملية المزاوجة بين النتاج الأدبي لغسان كنفاني والسينما الفلسطينية والعربية لا يكفيها كتابة مقال واحد، وإنما تتطلّب بحثاً مضنياً بين دفتي الكتب التي تناولت موضوع الفن السابع وعلاقته بالنصوص الأدبية، رواية كانت أم قصة أو مسرحية. وكذلك تتبّع ما نشر من مقالات ودراسات في مواقع إلكترونية متخصّصة ومهتمّة بأدب غسان وبسينما القضية الفلسطينية بعناية فائقة، لذا ما قمنا به هنا وما سبقنا إليه القلّة من أدباء وكتاب فلسطينيون وعرب ليس إلّا محاولة منا جميعاً لفتح الباب واسعاً أمام الباحثين والدارسين الفلسطينيين والعرب، للإبحار أكثر بعدّة نقديّة لإنجاز دراسات تفي التعامل السينمائي الفلسطيني والعربي مع أدب غسان كنفاني حقّه. 

 

مصادر ومراجع:

  1. فاروق وادي، مقال: “غسان كنفاني مسروداً على الشاشة: ماذا تبقى منه هناك!؟”، مجلة “نزوى”، 01 تموز/ يوليو 1997.
  2. قيس الزبيدي، مقال: “غسان كنفاني في السينما”، مجلة “الحياة السينمائية”، العدد (11)، تموز/ يوليو 1998.
  3. أحمد دحبور، “في ذكرى غسان كنفاني: المخدوعون رجال في الشمس..”، صحيفة “الحياة الجديدة”، 09 تموز/ يوليو 2008.
  4. بشار إبراهيم، مقال: “غسان كنفاني والسينما”، موقع أفلام فلسطين (palestinefilms.org)، 25 تموز/ يوليو 2018.
  5. بشار إبراهيم، مقال: “«إنّ أمامي عمراً أريد أن أدركه قبل أن يطير».. في غيابه الحاضر غسان كنفاني.. سينمائياً!”، صحيفة “القدس العربي” 6 تموز/ يوليو 2010. 
الكاتب: أوس يعقوب

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع