في صيف 2016 قمت بعرض صورة لأحد تجمعات رام الله الناشئة أمام عدد من الباحثين المهتمين بالاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط.. المشهد دفع أستاذة من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن، والتي كانت قد زارت رام الله في ثمانينات القرن الماضي، إلى سؤالي حول ماهية الفلسطينيين الذين يعيشون في هذه “المستعمرة الفلسطينية” على حد تعبيرها، وحول طبيعة عملهم وجهات انتمائهم اجتماعياً واقتصادياً، إذ رأت في الصورة مجتمعاً مغلقاً منعزلاً ومغايراً لبنية النطاق الحضري الفلسطيني الذي تركته الزيارة في ذاكرتها، وانعكاساً لبنية المستعمرات الإسرائيلية من حيث الشكل والتنظيم والترتيب. وتشير الكثير من الدراسات والمشاهدات على الأرض إلى أن حيز مدينة رام الله قد شهد خلال العقدين الأخيرين تسارعاً في إنتاج فضاءات إقصائية وخلق هويات اجتماعية-اقتصادية تبلور الانزياح والتشظي وتعمل على تضمين هذه الرغبات في السلوك الجمعي والفردي للسكان وشرعنتها وتوجيهها مكانياً.
ورغم حدة هذا الوصف، إلا أنه بات ممكناً القول إن الناظر إلى بنية مشهد مدينة رام الله وجارتها وتوأمها البيرة، بعد نحو ثلاثين عاماً على توقيع اتفاقية أوسلو، سيلاحظ تبايناً واضحاً بين توجهات المدينتين ومزيجاً من الممارسات اليومية والأنشطة والفعاليات والتجليات المكانية ونماذج الحياة المعولمة التي تكرس صور الاختلاف وتتيح الوقوف على ما يمكن تسميته مشهداً ورواية فلسطينية جديدة تخطها فواعل النيوليبرالية ورأس المال المحلي المعولم ضمن مختلف السياقات السياسية والاقتصادية، الأمر الذي لم يكن ملاحظاً بشكل واضح قبل قيام السلطة الفلسطينية، في حين أصبح ظاهراً للعيان اليوم وبشكل لا يخفى على أحد ظهور علامات التمايز الاجتماعي والتباين المكاني والاختلاف الثقافي، وما يتصل بذلك من أنشطة وممارسات تتصل صراحة وضمناً بتركيب الإحساس بالمكان وصورته. ويبدو أن مظاهر الاختلاف بين المدينتين قد أصبحت جلية وظاهرة، بحيث تم تضمينها في الصور النمطية والقيمة الرمزية والسمات العامة والاختلاف في الممارسة والسلوك الاجتماعي لدى صناع ومستهلكي المدينتين.
أياماً قبل كتابة هذه الأسطر، أخبرتني ميساء، وهي شابة فلسطينية ثلاثينية انتقلت إثر زواجها من بيت عائلتها في حي الماصيون ذو السمعة “الراقية”، الكائن في رام الله، لتقيم في حي أم الشرايط المجاور بل الملاصق -والواقع ضمن حدود مدينة البيرة والذي يتسم بنقص في الخدمات مقارنة ببقية أجزاء المدينة- أنها لا زالت تقدم نفسها على اعتبار أنها تقيم في الماصيون أو على أطرافه، ذلك لشعورها ومن حولها بدونية مكان سكنها الجديد وأن انتقالاً كهذا قد شكل بالنسبة لها انحداراً في السلم الاجتماعي والطبقي؛ فرام الله مدينتها التي احتضنت عائلتها منذ عقود وانتمت إليها، رغم أصولها اللداوية، دونما أدنى شعور بالتمييز أو الاغتراب، والماصيون عالمها الملون الذي رسمته في دفترها مذ كانت صغيرة. أما أم الشرايط، فتراها مرآة متشظية يختلط سكانها في تركيبة عجيبة تكاد تخلو من أهل البيرة الأصليين.
ويبدو أن السلوك المحافظ في البيرة قد ساهم في حماية نمط معيشة البيراويين التقليدي، فهناك منظومة من القيم والسلوكيات لا يمكن تجاوزها ضمن حدود البيرة، سواء من قبل البيراويين أنفسهم أو من قبل الآخرين الذين يقيمون فيها أو يزورونها ويأخذون هذه المسألة بعين الاعتبار. كما بات ممكناً ملاحظة نزعة رأس المال “المتدين” للتواجد في فضاءات البيرة النخبوية –المحافظة- أكثر منه في رام الله، فالفتيات المحجبات متواجدات بشكل واضح في مطاعم البيرة، حيث تستطيع أن ترى أماً عصرية تناول “الآيباد” لطفلتها التي تتراقص على أنغام أناشيد قناة “طيور الجنة” ذات الطابع الديني، في الوقت الذي ترتفع فيه موسيقى أغاني حفلات أعياد الميلاد لأطفال حضروا مع عائلاتهم للاحتفال في رام الله.
ويظهر أن ثقافة التدين الشعبي، وإرثها الممزوج بتمدد الإسلام السياسي خلال العقود الماضية في البيرة، هي التي قادت إلى وجود مثل هذا السلوك في المدينة التي يحظر عرف بلديتها إقامة بعض الأنشطة والمشاريع الترفيهية كصالات البلياردو، في حين يمكن ملاحظة ارتياد بعض أبنائها لصالات البلياردو والمطاعم التي تقدم الخمور بشكل اعتيادي للراغبين بذلك في رام الله، بينما يرفضون وجود مثل هذه الفعاليات في البيرة، الأمر الذي يدل على أن السلوك الرافض يتمحور حول المكان وليس حول طبيعة النشاط. وتؤكد إحدى فتيات البيرة أن الملابس المتحررة مرفوضة في سياق منظومة القيم الأخلاقية لمدينتها، وأنه ليس بمقدورها أن تتصرف أو ترتدي كما تشاء رغم كونها مسيحية، في حين أن ذلك يصبح ممكناً بمجرد دخولها حيز رام الله الذي يتيح لها السير مع زملائها في الجامعة أو المشاركة في حفلة عرس تظهر فيها بمظهر أقل احتشاماً من ناحية الملابس، دون أن تلاحقها النظرات المتطفلة.
ويستطيع المراقب لتوجهات المدينتين ملاحظة أن هناك تباينا في نوع النشاط الذي تقوم به البلديات والخطابات المتبعة في الترويج لصورة كل مدينة وخلق جو من نوع معين، وأن بلدية رام الله بالمجمل لديها توجه يروج له بالانفتاح والثقافة والتسامح، إلى جانب دوام سعيها الحثيث لإظهار وتثبيت حضورها على الخارطة السياسية والاجتماعية-الاقتصادية محليا وإقليميا والتهافت المستمر لإبراز المدينة وتسويقها وإظهارها بمظهر عالمي والنشاط الواضح والتفوق في التركيز على ذلك إعلاميا. المشهد الذي لا نكاد نراه في البيرة –التي ترتبط صورتها النمطية برفض قيم الحرية والفردانية والإبقاء على البنى العائلية والتكوينات المجتمعية التقليدية- سواءً لأنهم في البيرة لا يريدون ذلك وغير معنيين، أو لا يستطيعون مجاراة جارتهم في حراكها وتوجهاتها. ورغم وجود هيئة مشتركة لبلديات رام الله والبيرة وبيتونيا، إلا أن هذا لم يخفف ولم يغير من الاختلاف بين المدينتين. وربما يعزى الاختلاف إلى أسلوب وطريقة قيادة وإدارة كل بلدية لمدينتها وأين تمضي بها تخطيطيا. وفي حين مشت رام الله خطوات عديدة على طريق تطوير المدينة من ناحية خدماتية وتنظيمية، يمكن القول إن البيرة قد بدأت للتو في محاكاة وتقليد ما قامت به رام الله، لكن الفرق ما يزال واضحا وهي تحتاج إلى وقت حتى تصل إلى ما وصلت إليه رام الله.