“اضطراب ما بعد صدمة النكبة وانعكاساته على الجيل الأول والثاني والثالث والرابع، انقطاع عن الواقع، خوف ورعب، انفصال ما بين الجسد والمشاعر، أجساد تتألم، تبحث عن خلاصها، حركات تُعاد وتُعاد حتى تُصبح هواجس جنونية، منها يولد التجلّي، أي القدرة على الاقتراب من الألم، التواصل معه والتماسك.”
تصف الكوريوغراف شادن أبو العسل بهذه الجمل والعبارات عرض فرقتها الراقص “حين يتذكر الجسد” الذي يُشارك في مهرجان رام الله للرقص المعاصر “للجسد ألف قصة وقصة” في دورته السابعة عشرة ضمن سلسلة عروض راقصة لفرق فلسطينية وعالمية.
تداعٍ حرّ يتجلّى في تشكيل “التروما”. التروما التي تتماهى في انقباض وانفلات حركات المؤديات على خشبة المسرح. ست راقصات ومؤديات ترتدين ثوباً باهت اللون وتتسمن بالشحوب، تتناقلن تداعيات الصدمة واحدة تلو الأخرى، الخشبة شبه خالية، باستثناء عداد الوقت المحبوس داخل مربع حديدي مُحاكياً الزمن باحتوائه على كرات صغيرة تعدّها المؤديات المسؤولات عن تبديل موقعها من اليمين إلى اليسار والعكس. يتمثّل الجسد بالمرآة العاكسة لصورة الألم والفقد ويُعطي الذاكرة بُعداً طاغياً على تجربة العقل في استقبال الصدمة.
في هذه التجربة الأنثوية والبسيطة تتماهى الأجساد في حيرتها وحزنها وخوفها، تنكمش كقطعة قماش مهترئة ما إن تنفرد فليلاً حتى تنكمش مرةً أخرى، الحركة متقطّعة، بطيئة، مفاجئة. تُحاكي فيها الأجساد قصصاً مجتزأة من خيالات وتهويمات الخوف، وتأثير القمع فيها ينعكس على صيرورتها؛ تلك الصيرورة ذات العيون المفتوحة على العدم والتي لا تستطيع إلّا أن تشهد على كل ما حدث. تستخدم الراقصات حركات انفعالية قوية لتجسيد الخوف شاملاً الاهتزازات والتشنجات والانهيارات والحركات العفوية الموتورة والقلقة. تخلق الوجوه الشاحبة الاضطراب كالتوتر في الجبين والعيون المفتوحة التي تعرض الدهشة أو الرهبة، التشنج في الفكوك والانفجارات المفاجئة للضحك العصبي. قد يتم تقليص حجم الحركة في مساحة صغيرة ثم فجأة توسيعها بشكل كبير. كالانتقال من حركات هادئة إلى حركات عنيفة واستخدام التوتر والاسترخاء بشكل متناوب.
عادةً، عندما يتعرض الإنسان إلى صدمة ما، يضيع في متاهات لا متناهية، منها إنكار ماضيه ومستقبله للتعايش مع حاضره. اللافت هنا في عرض شادن ليس فقط تجريد موضوع الصدمة وتسليط الضوء عليه بوصفه حدثاً رئيسياً يُمسك بمجريات العرض، بل تشكيل نكبة فلسطين على مستوى مرئي وحسّي وحتى ثقافي، بمعنى أنها تُجرّد الزمن والجسد من وظائفهما الحياتية والروتينية وتضعهما في مكان لا يوجد فيه سوى رسم وتصوير جميع قطع هوية الفلسطيني المبعثرة كإنسان تعرّض لشتى أنواع التهميش والتعتيم؛ تلك النكبة التي تناقلتها الأجيال وأصبحت هوية شعب يحاول التشافي حتى بعد 75 عاماً من حدوثها، كأن الزمن ينفلت كشبح قابع في أعماق الروح و كأن صوت تحطم الأجساد يُسمع حتى في الصمت. تلك الأجساد التي تُلقي بنفسها على الأرض و تتحرك بصعوبة محاولةً فهم ما جرى. تتخصص أبو العسل بتمكين جميع مفاصل الجسد من انكماشها وعدم قدرتها على الانطلاق عن طريق محاكاة فعل الصدمة على الجهاز العصبي وأثرها على العمود الفقري والعضلات. في هذا الانعكاس البصري المليء بالتوتر والحزن يتم نحت الرعب والهيبة من الحقيقة.
تاريخياً، تعود جذور الرقص المعاصر في فلسطين إلى الاحتلال البريطاني والثورة الثقافية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، سعى من خلالها الفنانون الفلسطينيون إلى تطوير أساليب جديدة من الرقص، أثّرت فيما بعد على تشكيل هوية ثقافية متنوعة ومتعددة الصور، تسمح للراقصين بالتعبير بحرية عن أنفسهم والتفاعل مع الفضاء والزمن بشكل مبتكر. حيث تمزج العروض الراقصة على مرّ السنين بين العناصر التقليدية والمعاصرة كالموسيقى وبعض الرقصات الفلكلورية مما يخلق تجربة فريدة من نوعها تُسلط الضوء على مفهوم الهوية والعدالة. هكذا على مر السنين تأسست العديد من الفرق ومجموعات الرقص والمسرح المعاصر في فلسطين وأصبح لديها وجود قوي على الساحة الفنية المحلية والدولية. تعمل هذه الفرق بصعوبة تحت ظل الاحتلال وتُحاول أن تتواصل مع العالم الخارجي والمجتمع المحيط لإيصال صوتها على الرغم من تضييق الخناق عليها بكل الوسائل. يمكن القول أن الفن المعاصر في فلسطين يعكس تجربة فنية حيّة وديناميكية تساهم في توسيع حدوده لتعزيز التفاهم الثقافي والاجتماعي وخلق مساحة للتعبير والمقاومة والتجديد.
يأتي مهرجان رام الله للرقص المعاصر اليوم في نسخته السابعة عشرة لإحياء ذكرى النكبة ولتمثيل تداعياتها على الثقافة والفن والمسرح. اللافت للنظر أن العروض المشاركة تتميز بكسر حدود التجريب والاكتشاف وتحاول تقديم نظرة جديدة ومستقبلية للفن مما يجلب تنوعاً كبيراً في الأساليب والتقنيات المستخدمة. بالإضافة إلى أنها تشترك جميعها بفقر عناصر الديكور على الخشبة وبساطة الإضاءة. وكأن الجسد المؤدي للحركة والانفعالات هو تأمّل شخصي وضروري لتمكين الجسد من خلق مساحاته وعرض عواطفه المتناقضة كالخوف والقوة والضعف والثورة الداخلية على نفسه وعلى واقعه الثقافي والاجتماعي الذي يحاول طمس معالمه الخاصة والمتنوعة. فالعروض الراقصة للفرق الفلسطينية تعبّر بشكل جزئي وكلّي عن حالة الصراع الداخلي والانهيارات الشخصية وتنقل تجربة الضعف والقوة والهشاشة البشرية في ظل هذه الضغوط الجنونية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. هي مساحة لكسر ماهية الخوف من السلطة وتذكير الأفراد بأهمية الفن وتأثيره العميق على المجتمع.