هذه كانت كلمات لوركا الأخيرة خلال اعتقاله ومن بعدها إعدامه على سفوح جبال قرى غرناطة الأندلسية، لا يكاد يبلغ الشاعر الثامنة والثلاثين من العمر حين قامت قوات فرانكو بإطلاق الرصاص عليه وإنهاء حياته المليئة بالشعر والفن والشغف العميق لمسقط رأسه، لم يكن له الكثير من الوقت كي يفصح عن كل ما أراد قوله، ولكنه ترك إرثاً ثقافياً وفنيّاً شديد العمق والحساسية.
في الثامن عشر من أغسطس من عام 1936 وقبل شهر واحد من اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية قُتل شاعر الحلم والأغنيات وبقي جثمانه دون ضريح. فنشاطه السياسي والأدبي كان جلياً في أعماله الأدبية وتصريحاته الصحفية التي يستنكر فيها سياسة الحكم الواحد وقمع الحريات. فرانكو لهذا السبب، أمر بإعدام كل ما يمثّل وينادي بحرية التعبير إلى أن تمكّن من إحكام قبضته على إسبانيا لمدة تتجاوز الأربعين عاماً.
“أنا لست رجلاً، ولا شاعرًا، ولا ورقة شجر، بل نبضة جريحة تستشعر ما وراءها”.
فيديريكو غارثيا لوركا (فوينتيه باكيروس، غرناطة، الخامس من حزيران، عام 1898). كثيرة هي الروايات التي تدور حوله، وتدور حول أعماله الشعرية والأدبية، ماذا عن جنسه الأدبي وعن تأويلاته للشعر والمسرح؟
عاش فترة تحولات سياسية وثقافية كبرى وسريعة، كتب خلالها الكثير من الأعمال الشعرية والمسرحية، خاطب فيها الحب والحلم والموت، يعتبر واحداً من أهم كتّاب جيله الطليعيين، تأثّره بالسوريالية يبدو جلياً في أغلب أعماله المسرحية، كالجمهور، ييرما، هكذا مضت خمس سنوات.
كان لوركا ثورياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهو لا يكرر تجاربه الشعرية، بل يجددها. فقد تمكّن من عبور الكثير من السياقات الأدبية وأساليب وأشكال الكتابة المسرحية. كرّس نفسه للشعر وأصدر العديد من دواوين الشعر منها: قصائد غجرية وشاعر في نيويورك، تحمل قصائده لغة الشعرية الإسبانية التقليدية وأصواتها الغنائية، ومن ناحية أخرى تحمل لغة طليعية متأثرة بمعاصريه وتوغلاتهم في الأساليب المختلفة، فضلاً عن الثقافات والوقائع الأكثر تنوعًا التي عرفها طوال حياته وأسفاره. امتلك نوعًا من الاحتجاج الفني وسعى إلى الشعر بطرق مختلفة مثال على ذلك (شاعر في نيويورك) تلك القصائد التي كسر فيها ما هو مألوف فنياً في تلك الحقبة.
مرّ عالم لوركا الشعري بتطور كبير ومعقّد بعد عودته من رحلة نيويورك، هذه المدينة الحديدية والمليئة بالتناقضات. لم يكن يتصوّر أن هذه الرحلة سوف تجعل منه أكثر حزناً، فقد تأثّر بالأجواء العنصرية التي يشوبها المكان وسياق الحضارة الذي يسعى إليه. يقول: “نعيش في عالم بلا معنى مليء بالألم والموت إنني الآن أكثر وحدة وانعزالاً وألماً”
أنتجت تلك الرحلة مناخاً شعرياً غارقاً في السوريالية، يبدو ذلك جلياً في حواراته القصيرة في الصحف، في مسرحياته المقتضبة والتي تكاد تكون صوراً مقتطفة من الخيال دون أي ترابط أو حتى معنى. مثال على ذلك “خُطا باستر كيتون”.
أكّد في أحد تصريحاته أن: “المسرح يحتاج إلى شخصيات تحمل عباءة شعرية وفي نفس الوقت علينا أن نرى عظامهم، دماءهم، يجب أن يكونوا على درجة من المأساوية كي يتوازنوا مع حقيقة البشر ونزعتهم للخيانة والجشع، يجب أن تثير كلماتهم الحقيقة المليئة بالحب والمثيرة للاشمئزاز”.
يمكن تصنيف نصوصه المسرحية ما بين: “المهزلة، المأساة، الدراما، والمسرح المستحيل”.
يكسر لوركا قواعد الدراما الكلاسيكية في مسرحه المستحيل، ويعارض بطريقةٍ ما الواقعية بوصفها شكل الحياة الباهت في الفن. يمكننا تسليط الضوء على تلك النصوص التي وصفها بالمستحيلة: “خُطا باستر كيتون، الوهم، الخادمة والبحّار والتلميذ”. نصوصٌ ليست بمسرحية ولكن يمكنها أن تكون كذلك. إنها أشكال مفتوحة، حوارات غير متناسقة بإيقاع متسارع ومستويات متزامنة، تتوافق بشكل أو بآخر مع التجريبية وقصائد النثر المعاصرة. تتميز بالاختصار، هي نصوص قصيرة جداً، عبارة عن صفحة واحدة أو صفحتين. صور متقطّعة ومليئة بالشعرية.
أثارت “خُطا باستر كيتون” الكثير من الجدل، حيث يقتل باستر كيتون أطفاله الأربعة ويخرج في جولة بالدراجة. في طريقه يلتقي بومة، رجلاً أسود يأكل قبعة من القش، ديكاً وببغاء. من ثم يسقط على الأرض وتنزلق منه الدراجة. تظهر فتاة أميركية وتسأله بضعة أسئلة، بعدها تأتي على دراجتها شابة برأس عندليب، تلقي عليه التحية، يغمى عليها. يقبّلها ولكنها لا تستيقظ.
يبدو أن السينما الصامتة أثرت على العديد من دعاة السريالية، وبالتحديد أفلام باستر كيتون وشارلي شابلن ومثلما استوحى منها لوركا، استوحى دالي وآخرون. حيث أضافت السخرية بمعناها الفج الكثير على حياتهم الخاصة وعلاقتهم بالفن والشعر. دالي ولوركا، بالإضافة إلى بونويل وألبرتي وأصدقائهم الآخرين كانوا من عشاق السينما المتحمسين، وكانوا معجبين بشدة بباستر كيتون.
يقترح لوركا في مسرحياته منهجاً جديداً وأسلوب سرد لاواع، مهتماً بنظريات فرويد كنقطة انطلاق. ومع ذلك، فإن جذور السورليالية لها دوافع اجتماعية وسياسية أوسع بكثير، تسعى إلى تطوير منهجيات فنية جديدة. إنها الرغبة في تحقيق شكل فني يمزج ما بين حالة اليقظة والنوم بل تفوقها، ومن هذا المنطلق يتم تفكيك السمة الفردية التي تتميز بها تلك الطليعة حيث اتخذ السرياليون المفاهيم الفرويدية للقضاء على مخاطر السيطرة الواعية والسماح لقوى اللاوعي بالتدفق. وبهذه الطريقة يظهر الواقع بحجمه الصغير، مما يحرر الإنسان من المنطق والأخلاق بمعناها التقليدي.
المسرحية:
ترجمة: رامة حيدر
الشخصيات: باستر كيتون، الديك، البومة، فتاة أمريكية، رجلٌ أسود، فتاة.
الديك: كوكو كو كووو!
(يحمل باستر كيتون أبناءه الأربعة بين يديه ويقتلهم بمطرقة خشبية)
باستر كيتون: أبنائي المساكين!
البوم: بوووووو!
باستر كيتون: (يقوم بعدّ الجثث الملقاة على الأرض) واحد، إثنان، ثلاثة، أربعة. (يأخذ دراجته الهوائية ويمضي).
(ما بين الإطارات المطاطية وعلب الغاز هناك رجلٌ أسود يأكل قبعة مصنوعة من القشّ)
باستر كيتون: ياله من مساء جميل!
(يرفرف ببغاء في السماء المحايدة)
باستر كيتون: أشعر بالارتياح وأنا أقود الدراجة.
البوم: بووو، بووووو، بوووو، بو!
باستر كيتون: ما أجمل صوت العصافير!
البوم: بوووووووو!
باستر كيتون: كم هو مُلهم هذا الصوت!
(يتوقف، يعجز عن وصفه عبور حقول الذرة وأشجار القصب، تتقلّص المناظر الطبيعية ما بين عجلات الماكينة، فالدراجة الهوائية لها بعدٌ واحدٌ فقط، يمكنها عبور الكتب، بالإضافة إلى الاستلقاء في فرن الخبز. دراجة باستر كيتون ليست بكرسيِ مصنوع من الحلوى وليست بدواساتٍ من سكّر. هذا ما كان يرغب به الرجال السيئون، إنها دراجة عادية جداً، ولكنها الوحيدة الغارقة في البراءة. آدم وحواء يركضون هاربين إن كان هناك كوب مليء بالماء ولكنهم يحتضنون دراجة باستر كيتون)
باستر كيتون: الحب، إنه الحبّ!
( تسبقه الدراجة. تركض وراء فراشتين رماديتين، يقع. يتهاوى كالمجنون على بعد ميليمترين من الأرض)
باستر كيتون: (يقف وكأنه استيقظ من حلم) لا.. أريد أن أقول شيئاً، ماذا عليّ أن أقول؟
صوت: أحمق!
(عيناه، أبديتان وحزينتان. كعينيّ وحشٍ وُلد للتوّ، تحلمان بالزنابق، بالملائكة وأحزمة الحرير، عيناه، ككعب الكأس، عيناه، كعينيّ طفلٍ أحمق، قبيحتان، عيناه، جميلتان، كعينيّ النعام، عيناه بشريتان وفي توازنٍ جدير بالكآبة، يرى فيلادلفيا من بعيد، سكّان المدينة يعلمون أن القصيدة القديمة لآلة المغنّي يمكنها أن تروي الزهور العظيمة والحقول البلاستيكية، ولكنهم يفتقرون إلى التمييز ما بين كأس شايٍ ساخن وآخر بارد. تلمع فيلاديلفيا في البعيد. يستمر في المشي)
باستر كيتون: إنها حديقة.
(كشريط سينمائيّ تأتي فتاة أميركية ذات عيون بلاستيكية لتبحث عن العشب)
الفتاة الأميركية: مساء الخير
باستر كيتون: (يبتسم ويتأمّل حذاء الفتاة) أوه، لا يمكننا السّماح لك بارتداء هذا الحذاء، فهو يحتاج إلى جلد ثلاثة تماسيح لصنعه.
باستر كيتون: أودّ أن…
الفتاة الأميركية: هل تملك سيفاً مزيّناً بأوراق الآس؟
(يهزّ كتفيه ويرفع قدمه اليمنى)
باستر كيتون: هل تملكين خاتماً مصنوعاً من الحجر المسموم؟
(يغمض عينيه ببطء ويرفع قدمه اليسرى)
(يتراقص ما بين الأزهار أربعة ملائكة يرتدون أجنحة من القماش السماويّ ، نساء المدينة تعزفن البيانو كما لو أنهنّ تركبن الدراجة، الفالس والقمر والقوارب تهزّ قلب صديقنا الرقيق، وأمام دهشة الجميع، يغزو الخريف الحديقة، كما يغزو الشاي مكعّب السكر)
باستر كيتون: (يتنهد) أريد أن أصبح بجعة، ولكنني لا أستطيع، مع أنني شديد الرغبة، ولكن، أين سأترك قبعتي؟ أين سأذهب بعنقي وربطاته المزركشة؟ يالها من مصيبة!
(برأسٍ كالعندليب وخصر ملكة النحل تأتي فتاة وهي تقود الدراجة)
الفتاة: على من لي الشرف بإلقاء تحيتي؟
باستر كيتون: (فخوراً) على باستر كيتون!
(تتهاوى الفتاة وتسقط من على الدراجة، ترتجف قدماها المتشابكتان كقدميّ حمارٍ وحشيٍ يحتضر. غراموفون يُلقي خطاباً مدوّياً دفعة واحدة: أميركا تفتقر للعنادل!)
باستر كيتون: (راكعاً) آنسة إلينوار، اعذريني، لم أكن أنا، (هامساً) آنسة، (أكثر همساً) يا آنسة. (يقترب منها ويقبلها)
(في الأفق البعيد، يُضيء نجم سيارة الشرطة الساطع)